Print

 حتى لا تتكرر المأساة

 بقلم /  منير بشاى –  لوس انجلوس

ما كان ليغرنا  الهدوء الظاهر على السطح بالنسبة للأحداث الطائفية فى مصر فى الأونة الأخيرة . فنيران التعصب ما تزال ترعى تحت الهشيم .. والجو العام فى مصر اصبح معبأ بالتعصب والأمر لا يحتاج إلى اكثر من شرارة حتى تندلع نيران الكراهية الدينيه لتحرق الأخضر واليابس ..  فالدولة ما تزال تتبع سياسة دفن الروؤس فى الرمال  والتعامل السطحى مع المشاكل وتأجيل الحلول أو اتباع طرق العلاج التجميلى الذى لا يقتلع المرض من الجذور .

الذى حدث فى بمها لم يكن المشكلة التى يعانى منها أقباط مصر ولكنه كان تعبيرا عن بعض أعراضها التى عادت لتطفو على السطح بعد محاولات لتغطيتها لعدة عقود والتوهم أن كل شئ على ما يرام .

مأساة بمها فى هذا الاسبوع ليست جديدة وأستطيع أن أجزم أنها ستتكرر فى المستقبل كما تكررت عشرات المرات فى الماضى وخاصة فى الأربعة عقود الماضية . هذا لأن الدولة لا تدرس المشاكل وتتعامل معها بصدق وتتخذ الخطوات الجادة فى علاج أصل الداء .

فى صميم المشكلة تقع مشكلة الحساسية الشديدة التى أصبح المواطن المسلم فى مصر يعانى منها إزاء دور العبادة المسيحية .  ولا أدرى كيف تدهورت اسس التسامح الدينى فى مصر حتى أصبح  منظر كنيسة  يؤذى مشاعر المسلم للدرجة التى قد تحمله الى الهجوم الدموى ضد من يعتقد انهم وراء تشييد مثل هذه المبانى .

من العناصر المساعدة على هذا الجو المسموم القوانين التى تعترف بها الدولة مثل الخط الهمايونى والشروط العشرة للعزبى باشا .. والتى تقنن التمييزضد بناء الكنائس ولا تساوى بينها وبين بناء المساجد وبالتالى ترسخ لدى البسطاء من الناس شرعية حظر بناء الكنائس وتجعلهم يعتقدون  أنهم ينفذون القانون عندما يحاولون التعرض إلى اى بناء يظنون أنه سيتحول إلى مكان للعبادة وكأن العبادة المسيحية أصبحت جريمة فى هذا الزمن .

 وكان الأمر يمكن علاجه بأجراء بسيط وجذرى وهو إصدار القانون الموحد لبناء دور العبادة والذى يساوى بين الكنيسة والجامع .. وبين المسلم والمسيحى .. فى أبسط مبادئ حقوق الأنسان وهوالحق فى أن يتعبد الأنسان لخالقه كل حسب قناعته . ولكن السلطات المصرية عوضا عن أن تفعل هذا أخذت ترقص حول القضية بأصدار قوانين معقدة لتحويل جزء من القضية لحكام الأقاليم وتسليم الملف برمته للجهاز الأمنى للبت فيه وكأن بناء الكنائس هو قضية أمنية تهدد سلامة الوطن .

والنتيجة أن بلدة مثل بمها لم تستطع بناء كنيسة لها مما أضطر المسيحيون هناك الى إستخدام بيت عادى للصلاة . وقامت القيامة عندما انتشرت شائعة ان المسيحيين ينوون التوسع فى هذا البيت لتلبية العدد المتزايد للمصلين . وهنا طبعت المنشورات تدعوالجماهير أن ينهضوا للزود عن حمى الدين والوقوف ضد المعتدين الذين يتجرأون على بناء الكنائس فى ما يعتقدون انه بلاد المسلمين .. وشهدت أرض القرية الصغيرة الهادئة " غزوة بمها " التى باسم الله أهدرت فيها دماء نساء وأطفال وحرقت البيوت والمتاجر وعم الدمار والرعب والخراب .

ومرة أخرى تدفن السلطات المصرية رؤوسها فى الرمال فبدلا من تصوير الموقف على حقيقته نجدهم يحاولون تمييع الموقف فيصفونه بأنه " اشتباك "..   بينما هو   " اعتداء " صارخ .  بل ان أحد المصادر الأمنية حاول أن يصف الجانب القبطى على أنه الذى بدأ بالتحرش إذ قال إن  " المنشور عثر عليه قبطى فقام بتجميع أقباط أخرين وتوجهوا الى المسجد ".. وحتى إذا كان هذا صحيحا فلم يهم المصدر أن يوضح هل عندما ذهب الأقباط الى المسجد كان هدفهم الهجوم والأعتداء أم محاولة التصالح والسلام ؟ ام أن التصريح بجملته كان من صنع خيال المصدر .

هذا التزوير للحقائق الذى تعودت عليه السلطات فى بياناتها لا ينطلى على ساذج . فكيف يمكن ادانة الجانب المسيحى ووصفه بأنه كان ضليعا فى الأشتباكات بينما هم الاقلية الضعيفة والمجنى عليها فى الموضوع كله ؟ فمن هو المشتكى فى الأمر ؟ ومن الذى كتب المنشور ووزعه ؟ ومن حشد الجماهير وشحنها ؟ فمن يكون المعتدى ؟ هل  هو الطرف المظلوم القابع فى مكانه والذى كان ينتظر فى رعب الغوغاء القادمة التى هجمت عليه؟

وحتى إن إفترضنا جدلا أنه كان هناك رد فعل من جانب المسيحيين فهل يعقل أن يزيد عن مجرد محاولة للدفاع عن النفس؟

شئ أخر أزعجنى فى هذا الحادث هو ما أعلنه مصدر أمنى- طبقا للتقارير المبدأ ية - أن الشرطة القت القبض على 17 شخصا على الاقل " من المسلمين والمسيحيين "

هذه هى لعبة الموازنات الشهيرة التى تتبعها السلطات فى مثل هذه الحوادث وقد  تعودناعليها فى جميع حوادث العنف ضد الاقباط وهو القبض على عدد من المسيحيين إلى جانب الجناة الحقيقين حتى ينسى المسيحيون المشكلة الاصلية ويصبح همهم هو محاولة الإفراج عن أبنائهم المعتقلين .

 والأن لا أستبعد أن يذهب المسيحيون الى قيادة الكنيسة متوسلين أن تتوسط لهم لدى السلطات للأفراج عن المعتقلين . ولا استبعد أن يحدث اجتماع فى القرية للتصالح  بين كبار رجال  الدين المسيحى والأسلامى . وبعد تبادل القبلات والتحيات يعلن عن الإفراج

 "عن الطرفين " ( دون محاباة !! )

وستنسى  المشكلة الاصلية...

من يقتص للدماء التى أهدرت والمبانى التى حرقت والأموال التى ضاعت ؟

 ومن يبنى لمسيحى قرية بمها كنيسة يصلون فيها الى الله ؟

ومن من المسؤلين لديه القدرة والقوة والبصيرة  ليعالج المشكلة من جذورها .      

حتى لا تتكرر المأساة .