Print

مصر والتأرجح بين الدينى والمدنى

بقلم منير بشاى

       منذ دخل الاسلام مصر فى القرن السابع الميلادى لم تعرف مصر معنى الحكم المدنى الخالص.  والمعروف ان عمرو بن العاص لم يأت لمصر داعيا لدين بل جاء غازيا للأرض للاستيلاء على ثرواتها لمصلحة العرب فى شبه الجزيرة العربية.  ومع ذلك استمر الدين يلعب دورا رئيسيا فى الحياة اليومية المصرية منذ ذلك الوقت وحتى يومنا الحاضر.

       ويمكن القول ان بقاء اقباط مصر فى البداية على دينهم ومعاملتهم على انهم اهل ذمة فرضت عليهم الجزية، كان هذا– من وجهة نظر المحتل-  يفى بالمطلوب فى ذلك الوقت.  وعندما اشتد عبء الجزية على كاهل الأقباط وخاصة الفقراء منهم اعتنق بعضهم الاسلام ظنا منهم ان اعتناقهم للاسلام سيرفع عن كاهلهم هذا العبء.  ولكن عندما احس الحكام الجدد ان هذا سيؤثر على حجم الضرائب المحصلة تراجعوا عن اعفائهم تماما من دفع الجزية اسوة بالمسلمين من اصول عربية، وظهرت بالتالى طبقة من الدرجة الثانية من المسلمين وهم الذين اعتنقوا الاسلام من اصول قبطية.

      

على مدى عصور استمرت درجة التشدد الدينى تتأرجح طبقا لشخصية الحاكم بين التعنت الشديد والخفيف مع وجود فترات شهدت بعض التسامح.  وكانت من هذا النوع الأخير فترة حكم أسرة محمد على باشا التى استمرت الى قيام ثورة الضباط الاحرار فى يوليو 1952.  وكان محمد على يؤمن بوضع الرجل المناسب فى المكان المناسب بغض النظر عن هويته الدينية.  ولذلك اخذت الدولة المصرية فى عصره تتجه فى اتجاه الدولة المدنية.  وشهد الاقباط فى عهد الملكية فيما كان يعرف بالحقبة الليبرالية اعتلاء بعضهم المناصب الرفيعة التى كانت موصدة فى وجوههم ومن هذه كان منصب رئيس الوزراء والوزارات السيادية الهامة مثل وزارة  الخارجية والمالية.

       ولكن ثورة 1952 التى قلبت الحكم الملكى جاءت بشعارات تقوى من النعرة الاسلامية والعروبية.  وكانت علاقة عبد الناصر بجماعة الاخوان تهدد بقيام نظام مصرى يسيطر عليه الاخوان.  وتتدخل العناية الالهية فيحدث خلاف بين عبد الناصر وبين الاخوان ينتهى بمحاولتهم اغتياله وبعدها يقرر حظر جماعتهم ووضع قياداتهم فى المعتقلات.  وشهد عصره الجنوح الى اليسار الاشتراكى نتيجة عدائه للرأسمالية ممثلة فى الولايات المتحدة.  وعاش الاقباط فترة امنية هادئة نسبيا.  ولكن البلاد مرت بفترة صراعات سياسية فى محاولات عبد الناصر توحيد الدول العربية تحت جبهة موحدة لم يكتب لها النجاح.  وتسبب دخول مصر فى صراعات عسكرية غير محسوبة مع اسرائيل الى هزائم ادت الى انهيار اقتصاد مصر الذى لم تتعافى منه حتى يومنا.

       بعد عبد الناصر جاء السادات ولم تكن له شعبية عبد الناصر او الكاريزما التى جعلت الشعب المصرى يعشقه رغم كل ما عاناه معه من صعوبات.  وحتى يمكّن السادات نفسه من حكم البلاد رأى ان يستعين بالمنظمات الاسلامية فاخرجهم من السجون واعطاهم اليد الطولى فى البلاد وكان يحيط نفسه بهم على اساس انه الرئيس المؤمن وهم حاشيته.  وتمادى السادات باللعب بورقة الدين وتغيير نصوص الدستور ليصطبغ بالصبغة الدينية فتصبح مبادىء الشريعة الاسلامية مصدرا للتشريع ثم تتحول بعد ذلك لتصبح "المصدر الرئبسى للتشريع".  وتنتهى حياة السادات يلدغة من نفس الثعبان الذى رباه بعد ان وقّع معاهدة كامب ديفيد للصلح مع اسرائيل.

       جاء مبارك بنظام يحاول ان يتفادى اخطاء من سبقوه.  حاول الظهور بشكل الرئيس الملتزم دينيا والدولة التى لها طابع الدين ولكن من ناحية اخرى ادّعى شخصية مصر المدنية وحاول ان يصلح اقتصادها المنهار.  وعمل مبارك صفقات مع الاخوان بحيث سمح لهم بالحركة ولكن داخل حدود لا يتعدوها.  ونتيجة حرية الاخوان تعرّض الاقباط لسلسلة من الاعتداءات كان غالبا لا يعيرها التفاتا لحفظ التوازنات التى اشتهر بها حكمه.  وانتهى حكمه بقيام ما سمى بثورة 25 يناير 2011 ضمن اطار الربيع العربى الذى قام للاطاحة بالانظمة الديكتاتورية فى العالم العربى.

       كان الاخوان المسلمون يعدون انفسهم للانقضاض على الحكم منذ تأسيسهم سنة 1928 ووجدوها فرصة ان يركبوا الثورة الوليدة التى لم تكن لها قيادة محددة ولم تكن لديهم خطة لحكم مصر فى حالة نجاحهم فى اسقاط مبارك.  وعن طريق التهديد وبتأييد حكومة اوباما واستخدام التزوير وشراء الاصوات فى الانتخابات استطاع الاخوان ان يستولوا على مقاليد الحكم لتبدأ فترة حكمهم التى استمرت حوالى سنة كانت الأسوأ فى تاريخ مصر.   كان واضحا ان هدف الاخوان هو اخونة مفاصل الدولة وتحويل مصر الى ولاية ضمن مشروع الخلافة الاسلامية.  ولم يضيعوا وقتا فى محاولة القضاء على وجه مصر الحضارى وتأسيس الدولة الدينية الاسلامية.

       انزعج الشعب من هذا التحول السريع وقامت حركة تمرد للثورة على حكم الاخوان.  وانضم الجيش لصفوف الشعب فى ثورة 30 يونية 2013.  وتمكن الجيش بقيادة وزير الحربية الفريق أول عبد الفتاح السيسى من ازاحة الاخوان بعد اعطائهم مهلة لاصلاح الامور ولم يستجيبوا.

       ولم يجد الشعب افضل من الرئيس السيسى ليكمّل المسيرة.  ولكن الرئيس السيسى الذى تخلّص من الاخوان يبدو انه مقتنع ان الشعب ما يزال يحتاج الى نموزج الرئيس المؤمن والى ظهير دينى يحل مكان الاخوان المسلمين.  ووجد الرئيس هذا الظهير الدينى فى السلفيين.

       وما يزال الحكم فى مصر يتأرجح بين المدنى والدينى.  والوقت لم يعد يتسع لاستمرار المماطلة فى تغيير اتجاه مصر للحاق بالقرن الواحد والعشرين.  فان لم يحدث تغيير سريع فى هذا الاتجاه فالانزلاق الى القرن السابع هو الخيار الاسهل والجاهز.  والذى لو حدث سيكون من الصعوبة فى هذه المرة الخروج منه.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.