Print

من لوس أنجلوس إلى أسيوط 

بقلم منير بشاى

 

            مع حلول عيد ميلادى جلست أسرح فى الماضى وسافر تفكيرى عبر الزمان والمكان من لوس انجلوس الى اسيوط وتوقف عند فترة طفولتى حيث عشت زمنى الجميل فى اسيوط القديمة. 

 كنا وقتها نسمع جيل الآباء يتكلمون عن زمنهم الجميل وكانوا يقصدون به زمن طفولتهم وكانوا يقارنونه بزمن طفولتنا و يتحسرون.  سمعتهم مثلا يتكلمون عن عمتى التى اشترت بيتا  فى اسيوط القديمة بمبلغ 35 جنيها (اى ما يعادل 2 دولار حسب القيمة الحالية للعملة).  ولكن من ناحية اخرى فهذا المبلغ كان يساوى وقتها 40 جنيه ذهب (اى ما يساوى حاليا 200 الف جنيه مصرى).

       كان عالمنا فى اسيوط به كل ما نحلم به.  وهى احلام متواضعة نستطيع تحقيقها بالقليل الذى كنا نملكه.  فى عالمنا لم يكن هناك كومبيوتر او انترنت او فيسبوك أو تلفزيون او محمول  والتليفون كان نادر الوجود.  ومن ادخلوا الراديو فى بيوتهم كانوا من الاثرياء وكان الناس يلتفون حوله ليسمعوا الصندوق العجيب الذى يتكلم ويغنى ويؤذن.  وكان الراديو وسيلة الترفيه بما يذيع من التمثيليات الهادفة مثل عوف الاصيل والسلطانية.  وكان اهل الحارة يتسمرون امام الراديو عند اذاعة مباراة كرة القدم ويتفاعلون مع كابتن لطيف وهو يصف المباراة لعبة بلعبة ويصرخ عند دخول جووووووون ويصرخ معه المستمعون فرحا او حزنا طبقا لانتمائهم الكروى.

       وكنا كاطفال نتعامل بعملة لا وجود لها فى عالم اليوم وتسمى المليم.  بل رايت فى حياتى عملة كانت فى طريقها للانقراض وهى نصف المليم (البرنزة).  وكان مصروف الطفل اليومى بين خمسة وعشرة مليمات.  ومن هذه كنا نشترى اللب والسودانى والترمس والعسلية والدمدرمة.  وكنا نوفر منها لنؤجر بسكليته كل بضعة ايام ولو لمدة ساعة بمقدار عشر مليمات او قرش صاغ .

       اما  اولاد الحتة فكان عندهم من ادوات اللعب ما يملأ وقت فراغهم.  وكانت العابا مسلية مع انها لا تكلف شيئا يذكر من المال.  من هذه لعبة الكرة الشراب، ولعبة البلية والاستغماية والعسكر وحرامية والنحلة.  والبنات كانت تلعب الحجلة ونط الحبل ولعبة تمثيل من يطلبون يد البنت وتبدأ بالسؤال "عايزين مين؟" فيردوا "عايزين فلانة" فيكون السؤال "تيجيبولها ايه؟" ومهما كانت الاجابة فالرد دائما  "ميكفيهاشى".  وهو تعبير مبكر يعكس  ماساة الشباب فى التاهل للزواج فى كل عصر.   

       كانت حارتنا عبارة عن طريق ضيق مسدود والبيوت على الجانبين غالبا من دورين ومعظمها به بلكونة.  وكان سكان حارتنا كلهم من المسيحيين.  وفى ذات يوم انتقلت اسرة من حارتنا وأجروا بيتهم الى اسرة مسلمة.  وما زلت اتذكر الجيران الجدد  فالزوجة كان اسمها رابعة والزوج اسمه عبد الحافظ.  وكانوا من اطيب الناس واختلطوا ببقية العائلات فى الحارة دون مشاكل. 

       تحسنت احوال ابى المالية فقررت الاسرة الانتقال الى منطقة اسيوط الجديدة.  ومع ذلك كنت اذهب يوميا الى اصحابى فى الحارة للعب ولا اعود للبيت حتى المساء.  هذه المنطقة من مدينة اسيوط ما تزال محفورة فى ذاكرتى وما زلت اذكر معالمها جيدا واعرف المحلات التى كنا نتعامل معها ومنها سند البقال وكمال المكوجى وخليفة الحلاق وفتحى العجلاتى وعم جرجس الطرشجى وعجبانة بائعة المدمس.  وكنت ازور المنطقة حتى بعد ان كبرت وتركت اسيوط  للدراسة بالجامعة ثم البقاء للعمل بمدينة القاهرة.  واستمر هذا بعد هجرتنا وزرتها آخر مرة فى سنة 2007  ورغم انها تغيرت كثيرا ولم يعد لمن اعرفهم وجودا ولكن معالمها الرئيسية ما تزال باقية.  

       اما الحياة المدرسية فلها حكايات.  وكانت امى اول معلمة فى حياتى ورغم انها لم تكمل من تعليمها غير الثالثة الابتدائي (الاولى الاعدادى الآن) ولكنها كانت قديرة فى كل العلوم حتى هذا المستوى.  ولها يرجع الفضل فى تفوقى فى اللغة العربية على اقرانى.  وقد علمتنى القراءة قبل ان ادخل المدرسة.  وكنت اشترط عليها ان تقرأ موضوع المطالعة مرتين قبل ان اشرع انا فى القراءة وكان هذا كفيلا ان اخمن الكلمات الصعبة التى يستعصى علي قراءتها.

       كانت اللغة العربية من احب المواد لدى وهذا راجع بالاضافة الى مجهودات امى الى مدرس اللغة العربية الاستاذ محمد عوض الذى حبب هذه المادة لنا.  وكان الاستاذ عوض اكثر من مدرس فقد كان المشرف الخاص علي فصلنا.  وكان يهتم بالاخلاق والدين بدون تعصب او تحيز واذكر انه كان يعطى جائزة للطالب المسلم الذى يواظب على الصلاة فى المصلية بالمدرسة وايضا للطالب المسيحى الذى يواظب على حضور الكنيسة كل يوم جمعة.  

ومن ذكرياتى التى لا تنسى اننا بينما كنا نلعب فى فناء المدرسة ان طالبا مسلما غضب وسب الدين لطالب مسيحى.  وعندما دخل الاستاذ محمد عوض وقف الطالب المسيحى ليشكو "هل يرضيك يا استاذ عوض ان الطالب (فلان) يشتمنى؟"  وكان رد المدرس سريعا حاسما وباللغة العربية الفصحى "لا...هذا لا يرضينى".  وبعد التاكد من ان الطالب قال ما نسب له امسك المدرس بعدة مساطر وابتدأ بضرب الولد بشدة.  كانت الضربات موجعة لدرجة ان الطالب المسيحى احس بالندم فقال للمدرس انه قرر ان يسامحه.  ولكن المدرس رفض قبول التنازل قائلا له إنك حتى لو تنازلت عن حقك فان للعدالة حقوقا يجب ان تاخذها.  وكانت هذه المرة الاولى التى عرفت ان للعدالة حقوقا فى مصر.  بل ولم اسمع عن السيدة عدالة بعد ذلك ولا اعلم ان كانت هاجرت او توفاها الله. 

       صفحات مطوية من كتاب العمر.  كان المال قليلا فى ايدى الناس ولكن كان هناك الكثير من الرضا.  لم يكن هناك الاكل الوفير ولكن الطعام كان له مذاقا خاصا.  كان الطفل لا يمتلك شيئا مما يمتلكه طفل اليوم ولكنه كان يتمتع بقسط اوفر من الحنان.  وربما يبدو غريبا أن اصرح انه بعد حوالى نصف قرن فى لوس انجلوس ما ازال أحيانا أحنالى طفولتى فى اسيوط، وتستهوينى حارات اسيوط القديمة الضيقة عن شارع الموضة الشهير روديو درايف فى بيفرلى هيلز.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.