Print

فى مواجهة العاصفة

(من كتاب "رحلة حياتى" تحت الطبع)

بقلم منير بشاى

       انتقلت الى مرحلة الدراسة الثانوية بكل التفاؤل والأمل.  كنت احس ان حياتى تتشكل وتنتقل تدريجيا من مرحلة الطفولة الى مرحلة الرجولة.  وكانت احوالنا العائلية قد استقرت وبعض اخوتى الكبار انهوا تعليمهم واشتغلوا وانزاح عبء كبير من على كاهل ابى.  وامتد نجاح اعمال ابى فى صناعة وتجارة الذهب بل واستطاع ان يشترى عقارا لمزيد من الاستثمار الجانبى.

       وتغيّر نمط حياتى وطاقم اصدقائى عما كان فى أسيوط القديمة فارتبطت بمجموعة من الاصدقاء الجدد الذين كنت اقضى معهم معظم وقتى.  كان هؤلاء زملائى فى الدراسة أو اصدقائى فى الكنيسة.  كانت الحياة معى وردية بكل المقاييس.  ولكن لم يدم الحال على هذا طويلا.

        كان ابى بصحة جيدة بصفة عامة.  ولم اره يتغيب عن عمله بسبب المرض الا مرة واحدة وكنت فى الثانية عشر من العمر وكان هو فى بداية الخمسينات حيث كان يعانى من احتباس فى البول.  واتذكر انه كان يتلوى من الالم وكان يذهب للطبيب مرات عديدة لاجراء قسطرة لتصريف البول.  وعندما اشتد به الالم دخل مرة الى الحمام وبعد فترة سمعناه يصرخ بصوت مرتفع "يا يسوع يا يسوع".  وكان هذا غريبا على ابى لانه لم يعرف عنه انه كثير التدين.  استمر ابى يصرخ وفجأة توقف عن الصراخ، وكنا فى الخارج قلقين مما عسى ان يكون قد حدث له.  وبعد ذلك خرج ابى ليعلن مرور الحصوة الى الخارج وكان يمسك بها فى يده.  كانت الحصوة كبيرة الحجم للدرجة التى يستغرب الانسان كيف يمكن ان تخرج بطريقة طبيعية.  وبعد وفاة ابى ذهب اخوتى لفتح المحل وجرد محتوياته فوجدوا علبة صغيرة وفتحوها لمعرفة محتوياتها ولم يكن ما بداخل العلبة فصا من الماس او الاحجار الكريمة ولكن كان اكثر قيمة لابى من هذه كلها لانها لم تكن سوى تلك الحصوة الشهيرة.

       فيما غير ذلك لم يشكو ابى من مرض.  كان مثل معظم الرجال المصريين يعانى من ارتفاع ضغط الدم وياخذ حبة يوميا لتنزيل الضغط ولكنه لم يكن يذهب للطبيب بصفة دورية لمتابعة حالته الصحية ولم يكن يظن انه يحتاج.  وفى ذات يوم بدأ ابى يحس بالم فى صدره.  كان فى منتصف الخمسينات وكنت انا فى الخامسة عشر.  اخذ الالم يزداد تدريجيا ولكن لم يوقفه عن العمل.  وذهب للطبيب مرة ولا اتذكر اذا كان الطبيب استطاع تشخيص المرض ولا اتذكر ان كان قد اعطاه علاجا.  ولكن علمت بعد ذلك ان علاج تلك الحالة لم يكن معروفا فى ذلك الوقت.

       وفى يوم من الايام اشتد بأبى الالم فجاء من العمل مبكرا ليذهب للطبيب.  ورأيته قبل ان يذهب للطبيب وكان يحس ان الامر خطير واتذكر نظراته لى فى صمت التى كنت احس انها تشتمل على الكثير من القلق على ابنه الطفل وما يخبئه المستقبل له.

       ومع ذلك لم ادرك أن الامر كان خطيرا فخرجت كعادتى لأقضى امسيتى مع اصحابى.  وعدت الى البيت لأرى حركة غير عادية فى المنزل.  كانت امى تصرخ وكان الجيران قد دخلوا بيتنا ويلتفون حولها.  ولمحت عيناى ابى ملقى على الأريكة دون حراك.  وادركت انه قد فارق الحياة.

       حدثت الوفاة بعد عودته من عند الطبيب حيث سقط فجاة على الارض.  واتصلوا بنفس الطبيب الذى كان عنده منذ دقائق فجاء الى المنزل وبعد الفحص قرر ان ابى قد توفى بالذبحة الصدرية.

       كانت هذه بالنسبة لى اكبر صدمة واجهتها فى حياتى خاصة مع صغر سنى.  العالم كله انهار من حولى ولم اكن اعرف كيف سأواجه الحياة ومن اين سأكمل تعليمى وبدا لى ان حلمى فى التخرج من الجامعة قد تبخر.  وما زاد فى قلقى اننى كنت اسمع النساء وهن يبكين ابى ويذكروننى بالاسم ويتحسرون على رحيله المبكر قبل ان ينتهى من تعليم "منير".  هذا خاصة لان من يعملون فى العمل الحر لم يكن يغطيهم نظام ضمان اجتماعى فى مصر فى ذلك الوقت.  وكان عدم اشتغال الزوجة يجعل وفاة العائل الوحيد للاسرة مأساة فوق التصور.

حاول اخى الاكبر تسيير المحل من بعد ابى ولكنه لم يكن له دراية بالمهنة فقرر غلق المحل للأبد.  ثم قررت الاسرة استخدام رأس المال الذى تركه ابى فى المحل لبناء العقار الذى كان يمتلكه ابى عدة ادوار كنا نسكن فى دور منه ونؤجر بقية الادوار لنعيش من دخلها.

       تسببت الصدمة الى اصابتى بنوبات قلق استمرت معى بعض الوقت.  وهذه الحالة النفسية اثّرت على ادائى المدرسى بعد ان كنت متفوقا.  وكنت احلم قبلا ان ادخل كلية الهندسة ولكننى لم احصل على تقديرات تؤهلنى لذلك.  ولم اكن اعرف ما اذا كنت سأضطر الى قبول تخصص آخر لا اميل له لمجرد انه يتناسب وتقديراتى.

ولكن فجأة فتح الباب لثلاثة اقسام جديدة فى كلية الآداب وهى الصحافة والمكتبات والآثار.  وكان يبدو ان قسم المكتبات قد خلق خصيصا من اجلى فمحبتى للكتب لا يوازيها شىء ووجودى بين الكتب هو امتع شىء عندى.  وهكذا التحقت بقسم المكتبات وتخرجت وعملت فى هذا التخصص.

       وتمر السنون وتنتهى بى الحياة الى العالم الجديد.    وأعمل فى احدى شركات التليفونات واتنقل فى الوظائف الى ان اعمل فى هندسة التليفونات وهو العمل الذى كان يداعبنى منذ الطفولة.

       ولكن فى بداية الخمسينات اصيبت بوعكة صحية كادت ان تقضى على وكانت عبارة عن التهاب خطير فى المرارة قضيت بسببه 3 اسابيع فى المستشفى.  وكان ابننا فى الخامسة عشر.  وتساءلت هل التاريخ يعيد نفسه؟  هل سيفقد ابنى اباه فى نفس السن الذى فقدت أنا أبى؟

ولكن الله تنازل لى بالشفاء.  ورايت ابننا يكبر ويتخرج ويشتغل ثم يتزوج وينجب ابنتين جميلتين متفوقتين واحدة دخلت الجامعة لتتخصص فى الهندسة والأخرى فى الطريق.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.