Print

أمريكا ودعوى العنصرية

بقلم منير بشاى

 

       فجّر حادث مقتل جورج فلويد، الأسود الذى مات على يد شرطى ابيض، دعوى العنصرية فى امريكا.  وتصاعدت اصوات تدين امريكا وتنعتها بالعنصرية من جديد.

       هذا مع ان قضية مثل العنصرية يجب ان تبنى على اعتبارات اكثر عمومية من مجرد حدث لم يبت القضاء فيه.  بل ان القضاء فى هذا الحدث يواجه عقبات بعد ان اكتسبت القضية الصبغة السياسية التى اصبحت تتحكم فى مسارها.

       ويعقد من الامر وجود آراء مسبقة لدى الكثيرين ضد امريكا.  وهناك من لديهم الاستعداد لادانة امريكا بدون تردد وبلا نقاش ورغم هذا تظل أمريكا البلد الذى يحلمون بالهجرة اليه. 

    حتى نصل الى نظرة موضوعية ينبغى ان نفرق بين سؤالين.  الأول:  هل الامريكيون عنصريون؟  والثانى:  هل أمريكا بلد عنصرى؟  السؤال الأول يتناول الشعب والثانى يتناول البلد.

       الشعب الامريكى ليس مجموعة من الملائكة.  هم مثل كل البشر منهم الطيب وفيهم اللئيم.  لكن هناك قيم تبث فى هذا المجتمع تشجّع على حب الغير وحب الخير وحسن الجوار والعيش فى السلام فى المجتمع.  وهذه  تعكس اخلاقيات معظم الناس.

ولكن هذا لا يمنع وجود من لهم اخلاقيات متدنية الذين يرتكبون أعمال العنصرية.  هناك من يكره الآخر لمجرد انه يختلف عنه فى اللون او الجنس أو العرق أو الأصل.  كما ان هناك من يكره الاجانب لأنه يعتبرهم منافسون له فى الوظائف خاصة عندما بدأت تشح.  ولكن هذه الفئة قليلة والقانون الأمريكى يحد من تأثيرها.

       اما امريكا كبلد ونظام ودستور وقانون ومؤسسات فقد قامت على اساس راسخ وضعه الرواد الاوائل الذين جاءوا الى العالم الجديد هربا من الظلم.  ولذلك فأمريكا كنظام ترفض كل انواع العنصرية والتمييز وتعاقب المخطىء وتنصف المظلوم.

       ولعل اصدق شهادة يمكن ان تقدم هنا عن أمريكا هى شهادة الاختبار.  وشخصيا لى بأمريكا أكثر من نصف قرن.  عشت الحلم الامريكى واختبرت الكثير عن هذا البلد.  ولذلك ارى من واجبى أن أقدم شهادة حق عن أمريكا التى أكن لها كل التقدير والعرفان.

       لن انسى اول وظيفة قدمت عليها بعد وصولى الى لوس انجلوس.  كنت شابا أجنبياا يتكلم الانجليزية بصعوبة وينقصنى التعليم المحلى والخبرة المحلية.  ذهبت الى احدى الشركات ووجدت رجلا امريكيا يسعى لنفس الوظيفة.  وبعد مقابلة شفوية عملوا لنا اختبارا تحريريا.  وكانت المفاجأة التى لم اتوقعها اختيارى فوق المنافس الأمريكى.  وكان الممتحن عادلا معى للغاية فأعطانى دون أن أطلب اقصى ما يستطيع من أقدمية بناء على سنوات خبرتى السابقة فى مصر.

       وتذكرت ما حدث معى فى مصر بعد تخرجى عندما تقدمت للعمل بجامعة اسيوط التى هى بلدى وكان ترتيبى التاسع على دفعتى فى الكلية ومع ذلك عيّن فى الوظيفة مسلم من دمياط ترتيبه فوق السبعين.  وقيل لى دون استحياء ان هناك تعليمات من عبد الناصر نفسه لمدير الجامعة د. سليمان حزيّن ان لا يعيّن مسيحيا من ابناء اسيوط فى جهاز الجامعة.

       ومن خبراتى التى لا تنسى كمواطن جديد فى لوس انجلوس اننى كنت يوما أستقل عربتى فى طريقى للعمل وبينما كنت اقترب من تقاطع اذ بعربة تتعدى الضوء الاحمر وتتصادم معى.  كانت العربة يقودها أمريكى ابيض مسن.  الحمد لله لم يصب أحدنا بأذى ولكن العربتان اصابهما تلف كبير.  وبينما انا واقف فى مكانى فى حيرة اذ برجلان يأتيان الىّ ويعطيانى بياناتهما ويقولان انهما رأيا ما حدث ويعرضان استعدادهما ان يشهدا لصالحى.  وعرفت أن احدهما كان نائب رئيس شركة هندسية كبيرة ولكن لم يتردد فى ان يقتطع من وقته الثمين ليشهد لصالح مهاجر فى بلد غريب حتى وان كان الطرف الآخر واحدا من أبناء البلد.

       فى موضوعنا، عن موت جورج فلويد الاسود على ايدى شرطى ابيض، لكى اكون منصفا لابد أولا  ان اسجّل استيائى الشديد من ان يموت انسان على يد رجال الشرطة الذين من واجبهم ان يوفّروا الحماية وليس القتل.  ولكن اعلم ان رجال الشرطة أحيانا يحسّون بالتهديد ويخشون على حياتهم وقد يسيئون التصرف سواء عن قصد أو بدون قصد.

       والسؤال هل لعبت العنصرية دورا فى الحادثة لمجرد ان الضحية كان اسود والجانى كان ابيض؟  محتمل.  ولكن هناك تفاصيل كثيرة يجب النظر فيها قبل اصدار حكما.

       ولكن حتى مع افتراض ان ذلك الشرطى كان عنصريا فهو لا يدمغ كل امريكى بالعنصرية وبالتأكيد لا يدمغ أمريكا بالعنصرية.  عدد الأمريكيين الذين يساعدون الغريب والضعيف والمحتاج أكثر بكثير. وعدد الاطباء والممرضين وعمال الاغاثة الأمريكيين الذين يذهيون الى أفريقيا ليعالجوا ويساعدوا الافريقيين مجانا أكبر بكثير.  هؤلاء يمثلون أمريكا الحقيقية.  أمريكا التى عشقتها.