Print
 
 
عبد الإله بلقزيز كاتب ومفكر مغربي

في الحاجة إلى إصلاح التّعليم الدّينيّ

 
 ثمة حاجة ملحة لإصلاح التعليم الديني

تمتّع نظام التّعليم الدّينيّ الخاصّ باستقلاليةٍ ذاتيّة في هياكله وبرامجه عن نظام التّعليم العموميّ، وله - لذلك السّبب - مدارسه الخاصّة وجامعاته ومعاهده الخاصّة

حين يكون مطلب إصلاح النّظام التّعليميّ الرسميّ، في البلاد العربيّة، مشروعاً - وهو لا شكَّ مشروعٌ - بل يفرض أولويّته السّياسيّة، في ضوء حالة التّردّي والانحدار التي دخل فيها منذ عقود، وفي ضوء حصيلته المفجعة وذيولها السلبيّة على المجتمع والتّنميّة، يكون مطلبُ إصلاح مؤسّسات التّعليم الدّينيّ، على وجه التّحديد، أوْكَدَ وألَحَّ وأشدَّ استعجالاً، بما هي أكثر مؤسّسات النّظام التّعليميّ جموداً وتكلّساً والأقلَّ نجاعةً وإنتاجاً، بل وإفادةً للمجتمع وإرادةِ التّقدّم، والأجْدرَ من غيرها بإصلاح أوضاعها المهترئة وتصويب أدائها.

للنّظام التّعليميّ الدّينيّ في البلاد العربيّة نظامان: نظامٌ للتّكوين خاصّ هو نظام التّعليم الشّرعيّ (أو الأصيل كما في المغرب العربيّ)؛ ونظامٌ للتّكوين عامّ هو النّظام التّعليميّ العموميّ الذي يُفسح مساحةً في برامجه لموادّ تكوينيّة دينيّة.

للنّظام التّعليميّ الدّينيّ في البلاد العربيّة نظامان: نظامٌ للتّكوين خاصّ هو نظام التّعليم الشّرعيّ؛ ونظامٌ للتّكوين عامّ هو النّظام التّعليميّ العموميّ

 معظم البلاد العربيّة يعرف هذين النّظاميْن معاً (دعْك من بعضٍ منها يسمح بنشوء مدارس تابعة للطوائف الدّينيّة).

ويتمتّع نظام التّعليم الدّينيّ الخاصّ باستقلاليةٍ ذاتيّة في هياكله وبرامجه عن نظام التّعليم العموميّ، وله - لذلك السّبب - مدارسه الخاصّة وجامعاته ومعاهده الخاصّة وإن كانت الدّولة من يُشرف عليه ويُنفق (عدا ما يمكن أن يستفيده من ريوع الأوقاف).

أمّا التّعليم الدّينيّ داخل نظام التّعليم العموميّ فلا يختلف عن الأوّل، مضموناً ومناهج، في ما عدا أنّ مَن يتلقّنونه في المدارس العامّة يتلقّنون معه موادَّ علميّة (في مجالات علوم الطّبيعة والرّياضيّات والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة) وأدبيّة إلى جانب تحصيل اللّغات الأجنبيّة.

تكمَن مشكلة هذا التّعليم الدّينيّ في تخلُّفه عن مستوى التّعليم عموماً: العامِّ منه والخاصّ، وفشلِهِ الذّريع في تقديم معرفةٍ دينيّة رصينة على الأسس المعرفيّة العقلانيّة والتّاريخيّة الحديثة، على مثال ما تقدّمه كلّيّات اللاّهوت وعلوم الأديان في بلدان الغرب وبلدان أمريكا اللاّتينيّة مثلاً.

إنّ أعضل المعضِلات في النّظام التّعليميّ الدّينيّ، والطَّامّةَ الأَطَمَّ في ما يتولّد منه، إنّما مَكْمَنُها في أنّه يوفّر البيئة الخصبة للتّربيّة على الانغلاق وقيم التّعصّب وكراهيّةِ المخالِف

 لقد كان وما برِح يجْتَرُّ معارفَ قديمة بمناهجَ قديمة في علومٍ شرعيّة- مثل الفقه وأصول الفقه والتّفسير وعلوم القرآن وعلم الكلام ...- تستحقّ درساً عمليّاً أرصنَ وأعمقَ من مجرّد الشّرح والعَرض والتّعليق والتّحشيّة. ثمّ إنّه، في الأغلب، انتقائيّ في تدريسه تراثَ الفكر الإسلاميّ؟ إذْ يَطَّرِح من برامجه تراث مدارس بكاملها من ذلك الفكر مقتصراً على قسمٍ منها دون آخر.

وإلى ذلك فإنّه لا يشجّع على قيم النّقد والنّسبيّة والحسّ التّاريخيّ في التّفكير، بل ينمّي روحاً إيمانيّة مبْناها على تقليد الأوائل واتّباعهم والتّفكير على طرائقهم وكأنّ ما قالوه يدخل في باب المعصوميّة.

دعْـك من أنّ المتكوّن في مؤسّسات هذا التّعليم يتخرّج من دون أن يكون لديه أيُّ علمٍ بالأديان الأخرى وتاريخها: سواء الأديان التّوحيديّة كالمسيحيّة واليهوديّة، أو غير التّوحيديّة كالبوذيّة والهندوسيّة والكونفوشيوسيّة وغيرها!

وقد يظُنّ ظانّ أنّ أمر التّعليم الدّينيّ في المدارس العموميّة الحديثة أقلُّ سوءاً من مثيله في مدارس التّعليم الدّينيّة.

والحقُّ أنّ الظّنّ هذا خاطئ؛ إذ لا يختلف مضمون ما يُدَرَّس من موادّ في الدّين والتّربيّة الإسلاميّة والتّاريخ والحضارة (الإسلاميَّيْن)، ولا طريقة تدريسه، عمّا هو معهودٌ ومألوف في مؤسّسات التّعليم الدّينيّ؛ لأنّ المناهج الدّينيّة واحدة، والمُؤطِّرون متشبّعون بالثّقافة الدّينية عينِها التي تلقَّنوها في المدارس والجامعات.

إنّ الحاجة إلى إصلاح نظام التّعليم الدّينيّ ليست فقط من أجل قَطْع دابر التّطرّف وتجفيف ينابيعه "الفكريّة" والتّربويّة، وإنّما هي حاجة تفرضها المكانة الاعتباريّة المميَّزة التي يحتلّها تراثُ الإسلام والفكر الإسلاميّ في مجتمعاتنا وثقافتنا

 وقد لا يُسْتَحْسَن، هنا، التّخفيف من وطأةِ المسألة بالقول إنّ المتكوّنين في المدارس العموميّة يتلقّنون معارفَ أخرى غير المعرفة الدّينيّة التّقليديّة و، بالتّالي، يمتلكون بعض أسباب تحقيق التّوازن في أذهانهم؛ ذلك أنّ الملاحظة هذه تنسى أنّهم يَتَنَشَّؤون، هكذا، بذهنيَّتيْن متعارضتيْن: ذهنيّة الاجترار وذهنيّة التّفكير؛ ذهنيّة النصّ وذهنيّة العقل؛ ذهنيّة التّسليم وذهنيّة النّقد؛ ذهنيّة التّقليد وذهنيّة التّجديد؛ ذهنيّة الاتّباع وذهنيّة الإبداع...؛ وعندي أنّ ذلك ممّا به يتمزّق الوعيُ وينشطر، لا ممّا به يكونُ التّوازن في إدراك الأشياء والنّظر إليها.

ومع أنّ أعضل المعضِلات في هذا النّظام التّعليميّ الدّينيّ، والطَّامّةَ الأَطَمَّ في ما يتولّد منه، إنّما مَكْمَنُها في أنّه يوفّر البيئة الخصبة للتّربيّة على الانغلاق وقيم التّعصّب وكراهيّةِ المخالِف؛ وهي القيم التي تنجب ظواهر التَّشدُّد والتّطرّف والتّكفير في المجتمع، إلاّ أنّ الحاجة إلى إصلاح نظام التّعليم الدّينيّ ليست فقط من أجل - وينبغي أن لا تكون فقط من أجل- قَطْع دابر التّطرّف وتجفيف ينابيعه «الفكريّة» والتّربويّة، وإنّما هي - أيضاً- حاجة تفرضها المكانة الاعتباريّة المميَّزة التي يحتلّها تراثُ الإسلام والفكر الإسلاميّ في مجتمعاتنا وثقافتنا، وتُمليها علينا مسؤوليّتنا تجاه ذلك التّراث، بما في ذلك إعادة فهمه وقراءته في ضوء العقل والتّاريخ، وبما يجعله طاقةً دافعة نحو النّهضة والتّقدُّم: أُسوةً بما تفعله الأممُ المتحضّرة مع تراثاتها.