Print

ahram 

نصف الكوب الممتلئ في عظة البابا شنودة‏!‏
بقلم‏:‏ مكرم مجمد أحمد

تحمل عظات البابا شنودة الأخيرة إلي أقباط مصر ما يشير إلي أن الرجل ضاق صدرا بالطريقة التي تم التعامل بها مع أحداث العياط الأخيرة التي ربما تفلح في تهدئة النفوس بعض الوقت تحت ضغوط الإدارة‏,‏.‏

 التي تلجأ إلي مراسم صلح شكلي يجري في القرية التي وقعت فيها حوادث الفتنة‏.‏ حيث يتعانق شيخ المنطقة وقسيسها في حضور جمع مشترك من أبناء القرية المسلمين والاقباط ويتعاهدان في كلمات متبادلة علي الحفاظ علي وحدة الهلال مع الصليب وبموجب هذا الصلح الشكلي الذي يبدو أهليا لكنه ليس كذلك‏.‏ يتنازل كل من الطرفين عن حقوقه المدنية المهدرة نتيجة مشاحنات الجانبين‏,‏ ويؤكد كل طرف تعهده بالحفاظ علي مشاعر الطرف الآخر لكن الفتنة لا تلبث أن تطل برأسها في مكان آخر أحيانا بل غالبا في صورة أشد حالا لأن مراسم الصلح الشكلي لم تنفذ إلي ما وراء الظاهرات بحثا عن اسبابها الحقيقية‏,‏ ولم تتمكن من وضع التوصيف الكامل والصحيح لحقيقة ما جري ربما لأسباب مقصودة‏,‏ ولم تسفر عن رؤية متكاملة لعلاج حقيقي يتفق كل الاطراف علي عناصره وإجراءاته وخطط تنفيذه ومسئولياته‏,‏ بما يؤكد عزم الجميع علي انفاذ القانون واجتثاث الفتنة‏.‏

وما يقلق في عظات البابا شنودة الأخيرة بعد حادث العياط أنها تنقل إلي أقباط مصر ـ رمزا وتصريحا ـ احساسا بالقنوط وشحوب الأمل في امكانية أن يكون هناك حل حقيقي يواجه أسباب المشكلة ويعالجها‏,‏ أو أن تكون هناك حتي مجرد الرغبة في انجاز هذا الحل‏,‏ بحيث لم يعد هناك مفر امام أقباط مصر‏,‏ كما يقول البابا سوي الاقتداء بالآباء والرسل الذين عاشوا حياة التجرد‏,‏ وانتهي بهم الأمر إلي الاستشهاد علي يد السلطة الرومانية التي حكمت مصر‏,‏مطالبا جموع الأقباط بالتحلي بالشجاعة وقول الحق مهما كانت النتائج‏,‏ والصلاة في المقابر والبيوت إن تعذر وجود كنيسة يصلون فيها‏.‏

ولست أعرف علي وجه التحديد ان كان البابا شنودة قصد بهذه العظات تهدئة مشاعر أقباط مصر الذين ينظر معظمهم إلي هذه الاحداث المتكررة علي أنها مخطط مستمر‏,‏ لن تكون أحداث العياط هي الفصل الأخير منه‏,‏ لأن الدولة من وجهة نظرهم لا تواجه الموقف بحلول واضحة‏,‏ تمكن أقباط مصر من بناء كنائسهم بعيدا عن قيود الإدارة المتعسفة وتعقيدات الأمن المبالغ فيها‏,‏ لأن عبادة الرب لاتحتاج إلي ترخيص من أحد‏,‏ وتضع حدا لجرائم العدوان علي حقوقهم من خلال تنفيذ القانون‏,‏ وعقاب المعتدين علي نحو صارم‏,‏ وليس اخلاء سبيلهم بعد أيام محدودة يقضونها تحت التحفظ إلي أن تهدأ النفوس الغاضبة‏.‏

لست أعرف إن كان البابا شنودة قصد التهدئة‏,‏ لكنه أراد باليقين أن يبعث برسالة واضحة لكل من يهمه الأمر بأن صبره قد عيل من طول انتظار حلول حقيقية لمشكلة تزداد تفاقما يوما وراء يوم‏,‏ لم يعد يصلح مواجهتها بمسكنات فقدت أثرها وفاعليتها‏,‏ لكن الذي أعرفه علي وجه مؤكد أن البابا يتعرض لضغوط تيارات غاضبة داخل الكنيسة وخارجها‏,‏ تتهمه بالمهادنة علي حقوق الأقباط وتطالبه بمواقف أكثر وضوحا وصلابة‏.‏

وما أعرفه أيضا أن الرأي العام القبطي في مجمله يسيطر عليه إحساس متزايد بانتقاص حقوق الأقباط إلي حد قد لايصل إلي حدود الاضطهاد‏,‏ لكن الدولة ضالعة علي نحو ما في هذه القضية بسبب التعقيدات المتعلقة ببناء الكنائس أو تجديدها‏,‏ وبسبب بعض صور التمييز الخفي التي لا تمكن الأقباط من الحصول علي حقهم في تقلد الوظائف العليا خصوصا في الجامعات والأمن والحكم المحلي‏.‏

وما من شك في أن القلق القبطي يتزايد مع تزايد بعض مظاهر الأسلمة التي تنتشر في المجتمع وارتفاع اصوات الجماعات الدينية التي تمارس العمل السياسي علي أساس ديني وتتمسك بشعارات دينية وترسم لمشكلات المجتمع المتعلقة بالاقتصاد والتعليم والخدمة الطبية والإدارة حلولا تنهض علي أساس ديني تعتقد أن الإسلام هو الحل في مجتمع يشكل الأقباط نسبة غير قليلة من سكانه‏,‏ يعيشون حياتهم ويمارسون نشاطهم في اختلاط كامل مع مواطنيهم المسلمين لأن الأمر كما قلت سابقا يكاد يشبه نظرية الأواني المستطرقة بحيث اصبح كل تطرف علي الجانب المسلم ينتج تطرفا موازيا علي الجانب القبطي‏.‏

ويدخل ضمن العوامل المؤثرة في الرأي العام القبطي التأثيرات القادمة من المهجر حيث يعيش مئات الألوف من الأقباط المصريين في مناخ ثقافي مختلف يجعل من الصعب عليهم تفهم الذرائع العملية أو الاسباب الثقافية التي تحول دون انجاز حل جذري سريع لهذه المشكلات في القرن الحادي والعشرين الذي يعتبر هذه المشكلات من مشكلات التخلف‏,‏ والأكثر خطورة من ذلك أن ثقافة المهجر تجعل بعض هؤلاء المهاجرين الأقباط ينظرون إلي الهوية الدينية للوطن وإلي قيمة الحفاظ علي المظهر الإسلامي لدولة يسكنها أغلبية مسلمة وكأنها انتقاص من حقوق الأقباط‏,‏ برغم أن القضية في جوهرها هي قضية حقوق المواطنة التي تتعلق باحترام حقوق الإنسان المصري قبطيا كان أم مسلما‏.‏

وربما لهذه الاسباب خلت عظات البابا شنودة الأخيرة من هذه الرؤية المتوازنة التي عودنا عليها التي كانت تضع في اعتبارها دائما ليس فقط نصف الكوب الفارغ لكن نصف الكوب الممتلئ الذي يتمثل في انجازات وتوجيهات واضحة ومحددة تسعي إلي حصار أسباب الفتنة وإنهاء صور التمييز الطائفي وتضيق الخناق عليها تتبدي في هذه المساحة الواسعة من القدرة الوطنية المتزايدة علي مناقشة أمور كثيرة ظلت محجوبة يتم إنكار وجودها‏,‏ كما تتمثل في قدر الشفافية المتزايد في معالجة قضية الأقباط علي نحو غير مسبوق رصدته كتابات د‏.‏ليلي تكلا وآخرين عن الفتنة الطائفية‏,‏ كما تتمثل في ظهور أفلام وطنية مسلمة وقبطية تكاد تشكل كتيبة متماسكة الموقف‏,‏ جعلت مهمتها الأولي حراسة وحدة الوطن‏,‏ والدفاع عن حقوق المواطنة في مواجهة التطرف‏,‏ وإحياء الشعار المصري الخالد الدين لله والوطن للجميع والانتصار لحق الأقباط في بناء كنائسهم دون أي تمييز لأن الكنيسة مثل الجامع بيت الله يرتفع فيه ذكره‏,‏ فضلا عن انجازات كثير تبرئ الدولة من أن تكون طرفا في اللعبة الطائفية الراهنة التي تكاد تكون من عمل أطراف ثلاثة‏,‏

قوي الخارج التي تسعي إلي ضرب استقرار الوطن أو الانتقاص من قدرته‏,‏ وتحض علي الفتنة‏,‏ والمتطرفون علي الجانبين المسلم والقبطي الذين يتبارون في اظهار التشدد والتعصب لأن الدولة هي التي بادرت بالاعتراف بالاعياد القبطية‏,‏ أعيادا وطنية رسمية لكل المصريين‏,‏ وهي التي حققت طفرة متزايدة في عمليات بناء الكنائس‏,‏ ولو أن زيادة أعداد بناء الكنائس لا تصلح دليلا علي أنه ليست هناك مشكلة أو أزمة وساعدت علي حصار صور التمييز في نطاق جد محدود‏,‏ تتداعي أسواره الآن تحت المطالبات المستمرة بان يكون شغل الوظائف العليا من خلال معايير واضحة تقدم الكفاءة علي الهوية الشخصية والدينية‏,‏ بما يضمن للأقباط وجودا واضحا وملموسا في هذه الوظائف‏,‏ وذلك يعني بصريح العبارة أن الأوضاع الراهنة تختلف علي نحو جذري عن أوضاع مصر تحت الحكم الروماني التي ذكرها البابا شنودة في عظاته الأخيرة‏,‏ وأن المقارنة مستحيلة لانعدام أوجه التماثل والتشابه‏,‏ لأن أقباط مصر كانوا يعانون في عصور الاضطهاد الروماني القهر والمذلة‏,‏ لكنهم يواجهون الآن بقايا إرث ثقافي قديم ينحسر تحت الزحف المتواصل لحركة وطنية‏,‏

جعلت وحدة الوطن همها الأول والأخير منذ ثورة‏1919‏ حتي الآن‏,‏ أحيانا تضعف بعض الشيء واحيانا تصبح كالتيار العارم‏,‏ لكنها لم تتوقف ابدا عن الدفاع عن حقوق أقباط مصر وصاغت لنفسها شعارا مصريا يرقي في قوة الزامه إلي حد الدين هذا الشعار الذي يمثل ايقونة مصر الدين لله والوطن للجميع‏,‏ لكن ما ينبغي علي الاخوة الأقباط أن يتفهموه هو مسئولية المجتمع المدني القبطي علي وجه الخصوص إلي جوار مسئولية المجتمع المدني المصري بأكمله عن معالجة حالة السلبية الشديدة التي رانت علي الشخصية القبطية وجعلت شباب الأقباط أكثر التصاقا بالكنيسة بدلا من الالتصاق بمؤسسات المجتمع المتمثلة في احزابه وقواه السياسية‏.‏

إنني لا أقصد بذلك أن أرمي الكرة في الملعب القبطي أو أحمل الكنيسة والمجتمع المدني القبطي وزر أوضاعنا الراهنة‏,‏ أو أعفي الدولة بكل مؤسساتها وفي مقدمتها المجالس الشعبية والنيابية من واجباتهم المحتمة‏,‏ التي تفرض الحرص الكامل علي انفاذ القانون بحيدة كاملة والتعجيل بمحاكمة كل الذين حملوا مشاعل الحريق ودمروا بيوت الأقباط بمن في ذلك المدرسان اللذان اججا نار الفتنة بطبع منشورات تحض علي الكراهية‏,‏ وشيخ المسجد الذي خرجت منه مظاهرة التكفير لأن هذه الجرائم لا يمكن أن يمحوها صلح أهلي يحضره شيخ مسلم وقس قبطي ويشرفه السيد المحافظ‏,‏ وربما يسبق ذلك جميعا الاسراع بانشاء قانون موحد لبناء دور العبادة ينسف الشروط العشرة التي اصدرتها وزارة الداخلية عام‏1934‏ تطبيقا للهمايون العثماني الذي صدر عام‏1806‏ لأنها شروط جائرة جاهلة لم تعد توافق مصر ولم تعد توافق مقتضيات القرن العشرين‏,‏ بحيث يصبح من حق الأقباط في كل قرية مصرية بصرف النظر عن أعدادهم بناء كنيسة ومركز للخدمات علي أية أرض تكون مملوكة للكنيسة أو يتبرع بها مواطن قبطي أو مسلم سواء كانت قريبة من الجامع أو بعيدة عنه داخل المنطقة المسلمة أو خارجها‏,‏ لأن أقباط مصر لايعيشون في أحياء منفصلة تغلق عليهم الأبواب ليلا كما كان يعيش يهود أوروبا في القرون الوسطي‏,‏ ولأن ما يثير العنف ليس بناء الكنيسة لكن الامتناع عن بنائها‏,‏ ولأن جوار الكنيسة للمسجد شريطة ألا يحجب احدهما الآخر صورة محض مصرية مثل العلم تشكل رمزا خالدا علي أخوة الوطن التي ينبغي أن تستبق أخوة الدين‏