Print

 

حرية الاعتقاد.. لا تعني تخريب الوطن 

هاني لبيب  

من المكتوب علينا ألا يمر أسبوع بدون أن يكون هناك مظهر من مظاهر التوتر الطائفي، وربما يكون نموذج ذلك الدال هو قضية حجازي التي كانت محل اهتمام الصحف والمجلات طيلة الأيام الماضية.
ولاهتمامي الشديد بقضايا حرية الاعتقاد: أود أن أتوقف هنا عند قضية المواطن المصري محمد أحمد عبده حجازي تحديدا.. وذلك لما تحمله هذه القضية من خطورة من جانب، ولحساسيتها الشديدة من جانب آخر. بالإضافة لما تحمله من دلالات تتعلق بشكل أساسي بحرية الاعتقاد وما ينص عليه الدستور المصري في هذا الأمر.

إن ما نشر في الأيام القليلة الماضية في العديد من الصحف المستقلة والحزبية، وليست القومية كما هو معتاد.. يمكننا من رسم الملامح العامة لشخصية محمد حجازي.. الذي أصبح بين ليلة وضحاها بطلا من ورق أمام الرأي العام. ولعل أهم تلك الملامح هي:
شاب مستهتر وغير مسئول يتزوج عرفيا، ثم يجبره أهل زوجته علي أن يكون الزواج بشكل رسمي.
شاب مضطرب نفسيا كتب ديوانا بعنوان 'ضحكت شيرين'، وهو محصلة تجربة عاطفية فاشلة، ويحتوي علي عبارات فيها ازدراء بالأديان جميعها.
شاب غير متوازن فكريا يتأرجح بين انتمائه لإحدي جماعات التهريج السياسي.. وفي الوقت نفسه ينتمي لأكثر من حزب معارض. وذلك بعد أن كان يقدم نفسه كشيوعي.
شاب غير منتم دينيا، فهو تارة مسلم يخرج في المظاهرات التي أدانت الرسوم المسيئة للرسول (صلي الله عليه وسلم)، وتارة أخري مسيحي يصمم علي أنه لا يريد اعتناق الدين الإسلامي. ثم يعود ويكتب عن مراكز التبشير المسيحي التي تنتشر في غالبية محافظات مصر.
شاب يهوي الشهرة والمال، فهو يحرص علي تقديم نفسه كمضطهد سياسي وديني. وبغض النظر عن اتفاقي مع محاميه ممدوح نخلة في مواقفه السياسية والوطنية، فقد خذله ولم يقدم له الأوراق التي تساعده كمحام له يدافع عن موقفه الذي اتخذه.
ولم استطع أن أحدد في هذا الشأن، ما أثير ونشرته بعض الصحف عن علاقة كل من: جورج إسحق وأبو إسلام أحمد عبد الله بهذه القضية الخطيرة؟!!.

***


إن ما سبق، يؤكد علي وجود خطأ ما في الشكل والمضمون. الشكل العام الذي تم تصدير تلك القضية به، وهو يوحي بعدم وجود حرية اعتقاد من جانب، وشكل يوحي بوجود منظمات تبشيرية من جانب آخر. أما المضمون، فإن الملامح التي رسمناها لمحمد حجازي لا تحتاج سوي للتأمل والتحليل.
إنها قضية.. مشكلة، أو بمعني أدق أزمة من أخطر أزماتنا التي تدعم ذلك المناخ الطائفي الذي أصبح يسيطر علي الشارع المصري من خلال فوضوية ما يحكم ثوابت العلاقات بين أبناء الوطن الواحد من مسيحيين ومسلمين، وعشوائية الإعلام في التعامل مع مثل تلك القضايا سواء كانت بالتعتيم المعلوماتي أو التضخيم والتهوين مما يحدث، وغوغائية رد الفعل من العديد من رجال الدين المسيحي والإسلامي وبعض المتطرفين فكريا ودينيا بدون وعي وطني كاف. وتكون النتيجة النهائية أن الحقيقة (تتوه)، ويتم تأويلها لدرجة تزيد من مشهد التوتر الطائفي.

***


ويمكننا في هذا الصدد، أن نرصد بعض الملاحظات الهامة، وعلي سبيل المثال:
أشك كثيرا في القصة التي روج لها محمد حجازي من أن هناك مراكز للتبشير في مختلف محافظات مصر. وأطالب نيابة أمن الدولة العليا بعرض حقيقة تلك المعلومات.
أشك أيضا في قصة محمد حجازي حول قيام البعض من المبشرين له بالاستهانة بالمقدسات الإسلامية لأن الحقيقة تؤكد احترام أقباط مصر للمسلمين ولقرآنهم الكريم. كما أنني اعتقد من متابعتي للشأن المسيحي الإسلامي في مصر أن أشد المتطرفين من المسيحيين لا يجرؤ علي فعل ذلك بسبب أدبياته الدينية في المقام الأول.
لا أميل مطلقا إلي نظرية المؤامرة التي يروج لها البعض لمحاولة ربط جماعات تبشيرية بالخارج، وأن ما يحدث هو مخطط خارجي. بل أعتقد أن ما يحدث هو نتاج طبيعي لحالة الفوضي التي وصلنا إليها الآن. وبمعني آخر، فإن التساهل في ترك البعض يزدري الدين المسيحي إعلاميا وتقنين ذلك فقهيا علي غرار ما فعله كل من محمد عمارة وزغلول النجار.. قد نتج عنه رد فعل مضاد يأتي في مقدمته المدعو القمص زكريا بطرس والبعض من أقباط المهجر.
إن رجال الدين من الطرفين.. سيسعدهم بأي حال من الأحوال زيادة عدد أتباعهم.. خاصة لو تم هدايته علي أيديهم. وبالتالي، لا يمكن أن نطلب منهم غير ذلك لأن هذا أحد مقومات بقائهم وبقاء (بيزنيس) الدين. غير أن ما أخشاه هو تحول الأمر إلي أن تصبح قضية أسلمة المسيحيين وتنصير المسلمين.. مثل مباراة تنتهي بوجود طرف فائز وطرف ثان خاسر، أو بمعني آخر إلي كنز يريد فريق استرجاعه ويريد الفريق الثاني الاحتفاظ به و(تلميعه). وذلك مع التأكيد أن تحول أي شخص من دين للدين الثاني لا يعد كما يعتبره البعض مكسبا.. بقدر ما يعد مصدرا للتوتر والقلق.
أؤكد هنا علي الفرق الكبير بين تمسكي بحرية الاعتقاد وبين التخريب الوطني.. بمعني أنني مع حرية الاعتقاد لأقصي مدي ممكن. غير أنني في الوقت نفسه ضد التخريب الوطني للعلاقات بين أبناء الوطن الواحد من المسيحيين والمسلمين.. خاصة إذا كان البعض يستثمر قضية تغيير دينه للشهرة والظهور الإعلامي. كما أن 'المواطنة' الحقيقية لا تتضمن أي شكل من أشكال التمييز أو التخصيص، ولكنها في الوقت نفسه صمام أمان للمجتمع، وليست مصدرا للتوتر يستغله البعض علي عكس ما تهدف إليه.

***


وربما من المفيد أن نعود هنا لنذكر ببعض نصوص الدستور المصري.. كمرجعية أساسية لهذا الأمر. وذلك علي اعتبار أن الدستور يعد (مجموعة من المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز السياق العام الذي تعمل الدولة بمقتضاه في مختلف الأمور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية). وبالتالي، يعد الدستور بمثابة المرجع الأساسي لنا. ولعل ما يؤكد ذلك إن هناك عددا من المواد في الدستور الحالي.. ترسخ العديد من الحقوق وعلي سبيل المثال:
المادة 40: (المواطنون لدي القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة).
المادة 41: (الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة، وذلك وفقا لأحكام القانون.
ويحدد القانون مدة الحبس الاحتياطي).
المادة 46: (تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية).
وهي مواد يمكن أن نستخلص منها العديد من الحقوق، وعلي سبيل المثال:
الحق في اعتناق أي دين، والحق في تغيير هذا الدين بشكل طبيعي وبدون أي معوقات. والحق في الإجهار العلني للمعتقد وممارسة العبادة وإقامة الشعائر والطقوس الدينية. والحق في أن يكون المرء محميا بواسطة القانون والقضاء من كل فعل يمثل تعديا علي ممارسات الحريات الدينية. وما يترتب علي ما سبق من الحق في إقامة أو تأسيس دور العبادة والمحافظة عليها.
والملاحظ هنا التأكيد علي إن نص المادة 46 من الدستور قد جاء مطلقا. وهو منهج يجعل حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بتلك العقيدة حرية مطلقة ويعفيها من كل قيد. بل ولا يجعل من حق القانون أو غيره من الأدوات التشريعية الحق في تقيدها بزعم التنظيم أو حماية الآداب العامة أو النظام العام. كما يؤكد النص بهذا الشكل علي (ميزة) المجتمع المصري في كونه مجتمعا متعدد الأديان. وما يمكن أن يترتب علي ذلك فيما بعد من أهمية عدم استهداف حرية الاعتقاد لأحد في مصر بعدم تنفيذ نصوص دستورية، وما يترتب علي ذلك من إعلاء دين مواطنين مصريين علي دين مواطنين مصريين آخرين في إطار من المواطنة الكاملة، وليست المنقوصة.
إن المجتمع المصري الآن يعاني من العديد من التوترات الطائفية المرتكزة علي التمييز والتعصب. بالإضافة لبعض الانتهاكات الأخري. وهو ما يمكن أن يتم من خلاله استغلال مثل هذه المشكلات التي ذكرناها في المزيد من الانتهاكات والتجاوزات الأخري.. في حالة استغلال البعض من غير الملتزمين وطنيا لها، وهم فئة قد أصبحت في الفترة الأخيرة ذات صوت صاخب وعال.

***


وفي اعتقادي، يجب علينا أن نعمل علي تقديم حلول حاسمة وحازمة لهذه القضية علي غرار:
عدم الترويج إعلاميا لهذه القضايا بشكل مثير للنعرة الطائفية باسم التنصير أو الأسلمة.. لأنها تمثل في نهاية الأمر نموذجا للعلاقات العاطفية الملتهبة والمشتعلة بين شباب في مرحلة المراهقة، وهو ما يتم في الكثير من الأحيان بحيث يكونون أقل من السن القانونية لذلك. وهو ما يجعلنا نطالب بعدم تغيير دين قاصر أو زواج قاصر.
تفعيل ميثاق الشرف الصحفي في حفظ أمن المجتمع وأمانه. ولقد رصدت العديد من التجاوزات التي قامت بها بعض الصحف في هذا المضمار.. خاصة التي تقوم ب (تلميع) أبطال القضية وأطرافها علي حساب استقرار العلاقات المسيحية الإسلامية.. بشكل يحمل تشهيرا للعديد من العائلات التي أصبح أولادها محط اهتمام إعلامي لارتباطهم بمثل هذه القضايا.
أن يقوم المجلس القومي لحقوق الإنسان بدوره في مثل هذه القضايا من أجل استيعاب الأزمات الناتجة عنها.. خاصة في تهدئة العائلات المتضررة علي كافة المستويات الإنسانية والاجتماعية!!. كما نحتاج لدور أكثر وضوحا وفاعلية من المجلس.. خاصة في تقنين قضية حرية الدين والمعتقد. وفي اعتقادي إن الأمر يحتاج إلي وجود نظام عام في صورة قانون إما يمنح الحرية لكافة المواطنين المصريين في تغيير دينهم وما يترتب علي ذلك من حرية تغيير بياناتهم في الأوراق الرسمية بشكل طبيعي بدون أن يكون هناك استغلال واستثمار إعلامي لهم، أم المنع التام لتغيير أحد لدينه علي أرض مصر حتي ولو كان هذا ضد إحدي الحريات الأساسية للإنسان. لأنه لا يجوز أن نترك القضية بهذا الشكل الذي يمكن أن يكون مصدرا للتوترات الطائفية من جانب، وما يمكن أن يترتب علي ذلك من استغلاله خارجيا من جانب آخر.
أن يتوقف البعض من رجال الدين عن الترويج لتطبيق حد الردة وربما من المفيد في هذا الأمر نشر الاجتهادات الهامة في هذا المضمار لمفتي الجمهورية د.علي جمعة ود.عبدالمعطي بيومي.