مراجعة فى المفاهيم المتوارثة ( 2 )
الأضطهاد : نتحمله أم نتفاداه ؟
بقلم / منير بشاى
هذه أضواء على بعض المتوارثات التى تؤثر على تفكيرنا وسلوكنا كمسيحيين . ليس هدفى من كتابتها إثارة الجدل بل شحذ الأذهان للتفكير والتدبير واصلاح المسار . ادرك ان الكلام فى مثل هذه المواضيع له مخاطره ، ولكن السكوت مخاطره اكثر . لا أدعى أننى أملك الحقيقة المطلقة ، كل ما أملكه هو فهمى المتواضع لها الذى قد يصيب وقد يخطئ . .
قال لى مرة أحد الأقباط المقيمين فى مصر " أنا اعلم السبب الذى من أجله تهاجرون ". وصمت لأسمع كلمات التوبيخ " السبب هو أنكم تريدون أن تهربوا من الإضهاد !! " .
وكأن الإضطهاد فى نظره هدف يجب أن نسعى إليه ، وفضيلة يجب أن نتحلى بها ، وأية محاولة لتفادى الإضطهاد هى فى رأيه جنوح عن السلوك المسيحى الصحيح .
لا شك أن الذى يغذى هذا المفهوم عند الكثيرين هو تكرار ما نسمعه من شعارات : " نحن أبناء الشهداء " و " الكنيسة قد ارتوت بدماء الشهداء " . كذا القصص التى نرددها عن عصور الإضطهاد وما يقال عن أن " دماء الشهداء قد وصلت الى ركب الخيل" . وكأن أفضل ما نجيده كمسيحيين هو أن نموت من أجل المسيح .
وارجو بادئ ذى بدء أن لا يساء فهمى . فأنا لا اقول هنا أن الكنيسة لم تحفظ الإيمان عن طريق تضحيات أجدادنا الشهداء الشجعان . كما لا أقول أن الكنيسة تستطيع فى كل الأحوال أن تتفادى الإضطهاد طالما كانت أمينة ولا تساوم على الحق . ولا أقترح أن الألم من أجل المسيح أمر مرذول ، بل على العكس هو شرف ومجد .
ولكن الشيئ الذى أريد أن أؤكده أن هناك فارقآ بين الإضطهاد كأمر يحدث لنا نتيجة إيماننا بالمسيح ، وبين الإضطهاد كهدف نسعى إليه ، ونعتقد أنه إن لم نضطهد فإن هناك نقص فى إيماننا وشاجعتنا . وأريد أن أشير هنا أن التلذذ بالعذاب ليس ظاهرة صحية ، بل قد يكون تعبيرا عن نوع من الماسوشية .
كما أريد أن أوضح أن الهروب من الإضطهاد ليس دائما جبنا ، وليس دائمآ مناقضا للإيمان . وأنه مع استعدادنا للموت من أجل المسيح ، ولكن ينبغى أن يكون هدفنا أن نحب الحياة ونسعى إلى أن نعيش للمسيح ونمجده فى حياتنا .
نصوص كتابية أحيانا يساء فهمها
لعل السبب الرئيسى عند البعض لقبول الظلم والرضى عن الإضطهاد هو سوء فهم لبعض النصوص الكتابية . وهذه أمثلة لذلك ، مع شرح لما يقصده الوحى الإلهى من النصوص .
" لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة ، لأنه ليس سلطان إلا من الله ، والسلاطين الكائنة هى مرتبة من الله ، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله ، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة " ( رومية 13 : 1، 2 )
المقصود من الخضوع للسلطان هنا هو أن نسلك كمواطنين صالحين ، نطيع الحاكم ونحترم القانون طالما كان عادلا ولا يتعارض مع الناموس الإلهى ، أما إذا تعارض ، فنحن غير مطالبين بإطاعته . وقد رأينا كيف أن الرسل فى سفر الأعمال قد رفضوا ما وجه لهم من أوامر عندما طولبوا بالتوقف عن المناداة بأسم المسيح ، وقالوا : " ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس " . ( أعمال 5 : 29 )
" واما هم ( الرسل ) فذهبوا فرحين من امام المجمع ، لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه " . ( اعمال 5: 41 )
لا شك أن الإهانة من أجل المسيح شرف يستحق أن نفرح من أجله . ولكن الإهانة هنا قد فرضت على الرسل ولم يسعوا هم إليها ، ولو كان فى استطاعتهم أن يتفادوها لفعلوا كما نقرأ فى أماكن كثيرة فى سفر الأعمال .
" بضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله " ( أعمال 14 : 22 )
هذا النص معناه أنه فى رحلة جهادنا الروحى لابد أن نمر بضيقات كثيرة . ليس معنى هذا أن الضيقات هى تذكرة الدخول لملكوت الله . إن دم المسيح هو الذى اشترى لنا حق الدخول فى ملكوت الله .
نصوص كتابية تدعونا إلى تفادى الإضطهاد
وحتى لا نقع فى خطأ اقتباس الأية الواحدة ، علينا أن نرجع إلى النصوص الكتابية الاخرى والكثيرة التى تطالبنا برفض الظلم وتفادى الإضطهاد إذا كان فى إمكاننا ان نفعل ذلك دون أن ننكر إيماننا بالمسيح . وهذه امثلة لذلك :
* الرب يسوع عندما كان طفلا هرب هو والعائلة المقدسة ليمنع هيرودس من قتله (متى 2 : 13-20 )
* المؤمنون فى الكنيسة الأولى قد تشتتوا من جراء الإضطهاد الواقع عليهم فى أورشليم وتركوها إلى البلاد المحيطة (أعمال 8 : 1 )
* الرسول بولس هرب من المكيدة التى دبرت لقتله ( أعمال 12 : 17 )
* الرسول بطرس قام بعملية تمويه حتى لا يتمكنوا من القبض عليه ( أعمال 12 : 17 )
* الرسول بولس طالب بالاعتراف العلنى ببرائته عندما ظلم ، ولم يرضخ للظلم أويقبله
( أعمال 16 : 17 )
* الرسول بولس اعترض على ضربه بالسياط وطالب بحقه كمواطن رومانى أن لا يضرب ( أعمال 22 25 )
* الرسول بولس استغل ما يكفله له القانون من حقوق ليحصل على محاكمة عادلة (أعمال 25 : 11 )
حالات خاصة أثر المسيحيون فيها أن يظلوا تحت الإضطهاد
على أن هناك حالات خاصة فى الكتاب المقدس نجد المسيحيين فيها يرفضون الهروب من الإضطهاد ويفضلون الأستمرار فيه . وليس هذا حبا فى الإضطهاد ولكن لأن هناك واجبآ مقدسأ يلزمهم أن يبقوا فى الإضطهاد .
هذه بعض الأمثلة :
* الرب يسوع كان مثلنا الأعلى فى هذا . فيذكر الكتاب المقدس عنه أنه رغم المحاولات الكثيرة للقبض عليه وتسليمه للمحاكمة ، إلا أنه كان فى كل مرة يفلت منهم " لأن ساعته لم تكن جاءت بعد " (يوحنا 7 : 30 ، 8 : 20 ) ولكن عندما جاء التوقيت الإلهى ليقوم المسيح بعملية الفداء للجنس البشرى على عود الصليب فإنه لم يتردد ولم يتراجع . يقول عنه الكتاب " وحين تمت الأيام لأرتفاعه ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم " ( لوقا 9 : 51 )
*عندما تشتت المسيحيون فى عصر الكنيسة الأولى بسبب الإضطهاد نجد أن الرسل قد بقوا فى أورشليم ولم يغادروها ( اعمال 8 : 1 ) وكان الرسل فى موقفهم يتصرفون كالقادة المخلصين فى ميدان المعركة . كانوا يريدون أولا أن يضمنوا سلامة المؤمنين قبل أن يسعوا للحصول على سلامتهم هم . كما أنهم أثروا أن يبقوا فى مركز الخدمة فى أورشليم لمباشرة قيادة العمل ، وليضمنوا استمرارية الخدمة ، ولو كان هذا على حساب أمنهم وسلامتهم الشخصية .
* عندما طلب الروح القدس من بولس الرسول أن يذهب إلى أورشليم أطاع رغم أن كل الدلاثل كانت تشير إلى أن إضطهادا كان ينتظره هناك . وعندما حاول التلاميذ أن يثنوا عزمه عن الذهاب ، رفض قائلا : "...ماذا تفعلون ؟ تبكون وتكسرون قلبى ، لأنى مستعد ليس أن أربط فقط بل أن أموت أيضا فى أورشليم لأجل اسم الرب يسوع " (أعمال 21 : 13 )
هل الأضطهاد بركة يجب أن نسعى لها أم نقمة يجب أن نهرب منها ؟
إن مسئوليتنا كمسيحين هى أن نخفف من حدة ألم الإضطهاد فى حياتنا وحياة الأخرين قدر ما نستطيع . فإ ذا كنا نستطيع أن نتفادى الإضطهاد دون أن نضحى بالأمانة لرسالتنا وإيماننا فلنفعل . أما إذا كانت إرادة الله ومسئولية الخدمة تستدعى أن نستمر فى ميدان الإضطهاد من أجل المسيح فعلينا أن نقبل ذلك بصبر وفرح وشجاعة