Print

الإسلام السياسي وقضية المواطنة (5)

أحمد عبدالحليم حسين


منذ سنوات عديدة خاض المفكر الشهير الدكتور فرج فودة معركة عنيفة في مواجهة الشيخ الراحل صلاح أبواسماعيل عندما أعلن الاخير أن المسلم الهندي أقرب الية من القبطي المصري ، وكان مرشد الإخوان السابق المرحوم مصطفي مشهور يرفض دخول الأقباط الجيش لأنه مشكوك في ولائهم للوطن أصلا . وبالأمس القريب خاض المصريون معركة مع تصريح مرشد الجماعة الحالي ( مهدي عاكف ) عندما أعلن أنة لا يمانع أن يتولي حكم مصر ماليزي مسلم.

ومصدر الخلل في تصورات دعاة الإسلام السياسي حول إمكانية قيام وحدة سياسية تقوم علي أساس العقيدة فقط ، بصرف النظر عن تنوع الأوطان واللغات والثقافات ، إنها تصورات مسرفة في الخيال ، تعكس جهلا بحقائق التاريخ ، و تجاهلا لأحكام الواقع الذي نعيش فيه ، فالمسلم في الخليج قد يتشدد في حرمة صوت المرأة ، وقد يتطرف في جواز كشف المرأة لوجهها ، ولكنه لن يقبل بأي حال من الأحوال أن يقتسم دخله القومي الذي يدره البترول مع بقية المسلمين في السودان وماليزيا ، وبالتالي فإن أفكار دعاة الإسلام السياسي تضعف الحس الوطني ، وتثير الحساسيات الدينية دون أن تقيم وحدة بديلة ، كما أنه لا توجد سوابق تاريخية تدعم فكرة إقامة مجتمع متحد علي أساس العقيدة فقط ، ولا حتي في عز الوجود التاريخي للدولة الإسلامية ، فالوحدة أيامها لم تكن وحدة اختيارية ، ولم تعرف المساواة بين أقطار دولة الخلافة ، بل يشهد التاريخ أن الجزية كانت تجمع من الأمصار لتأخذ طريقها إلي دمشق أيام الأمويين ، وبغداد علي عهد العباسيين ، أو الأستانة تحت حكم العثمانيين ، بل إن الجزية أيام العثمانيين كانت تؤخذ من عموم المصريين ، مسلمهم ومسيحهم ، فالمسلم التركي كان يجلد ظهر المسلم المصري ليقاسمه رزق أرضه وعرق جبينه ، فالمسألة هنا تقوم علي القهر ، بل أشنع أشكال القهر ، لأنه قهر مقدس ، يقتل الحس الوطني ، إذ يسرق الأقوات ويجلد الظهور ، ثم يفرض علي مسلمي الولايات الدعوة فوق المنابر للخليفة بطول العمر ودوام العز ، أي أنه يجعل نزعة الاستقلال الوطني شكلا من أشكال المعصية والخروج علي ولي الأمر ، سوف تجد مثيلا لذلك في تاريخ أوربا ، برغم اختلاف العقيدة ، ففي العصور الوسطي حينما سيطرت الكنيسة متحالفة مع أسرة البوربون علي الشعوب الأوربية ، فألغت الأوطان ، وجعلت الجميع أتباعا للكنيسة ، فالبابا يتكلم بلسان الرب ، والملوك تحكم بتفويض من البابا ، وأي خروج علي الطاعة أو مقاومة للاستبداد هو معصية تستوجب العقاب ، ويشهد التاريخ أن النهضة الأوربية قد بدأت مع الدعوة لاستقلال القومي ، الذي أنهي الاستبداد المقدس الذي فرضته الكنيسة متحالفة مع أمراء الإقطاع الأوربي . فأطلق عقال العقل ، وأنشأ الدولة الحديثة التي تقوم علي أساس المواطنة كنظام للحقوق والواجبات .


الدعوة إذن الي إلغاء الأوطان ، هي دعوة تسير عكس التاريخ ، لا تصدر إلا عن قوم تمكن حب الاستبداد منهم ، متجاهلين أن قرونا من القهر الذي وقع علي أجدادنا ، كفيلة بأن تحصن عقولنا ضد أي أفكار تسرق حريتنا أو حقوقنا الوطنية ، ولو كان ذلك تحت شعارات مقدسة .
تلك بعض من مخاطر خلط العقيدة الدينية بالنوازع السياسية ، فالدعوة الي إلغاء المواطنة ، هي دعوة لتحقيق الهيمنة السياسية لدعاة الإسلام السياسي ، ولو كان الثمن لذلك هو حرب طائفية تمزق وحدة الوطن ، والسبيل لتحقيق هذه المكاسب السياسية هو الترويج لوحدة عقائدية ، تعطي إحساسا زائفا للمسلم المصري بالتميز علي المسيحي المصري ، تميز ليس أساسه الجهد العضلي ، أو الاجتهاد العقلي ، ولكنه تميز أساسه العقيدة التي لا تكون إلا بين العبد وربه ، ذلك ما قد يقودنا الي معارك مهلكة ، تفتت الوطن ، وتدفعنا الي الجري وراء فكرة خيالية لم تتحقق عبر التاريخ إلا بأشنع أشكال القهر والتسلط . كانت مصر فيها ولاية تابعة تدفع الجزية هنا أو هناك . وأغلب أطروحات الإسلاميين تؤكد مفهوم الأغلبية الدينية باعتباره مبررا للقفز مباشرة إلي السلطة ، لأنه لا يحتاج في هذه الحالة إلي برنامج سياسي يخضع للنقاش والقبول أو الرفض ، ولكنه يطرح فكرة الأغلبية مقابل الأقلية ، متجاهلا أن هناك فرقا بين الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية ، فالأغلبية الدينية تشير إلي كتلة كبيرة من أصحاب العقيدة الواحدة ، فيهم الغني والفقير ، وأصحاب المصانع والعمال ، فهي كتلة من البشر تختلف في الاتجاهات الرؤي والمصالح ، وفي التاريخ الإسلامي تصارع المسلمون منذ وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم ، وسالت أنهار من الدماء في الفتنة الكبري برغم أن الجميع تجمعهم عقيدة واحدة ، فالأمر إذن أمر سياسة ومصالح متصارعة ، وليس أمر عقيدة واحدة ، ذلك يعطينا سببا آخر لرفض منطق الدولة الدينية ، التي تجعل الاختلاف في الرأي خروجا علي العقيدة ، سرعان ما يطارد صاحبه الاتهام بالكفر والخروج علي الجماعة ، أما حينما تكون الدولة دولة مدنية تعتمد المواطنة أساسا للحقوق ، فلكل مواطن الدخول في حزب الأغلبية أو الخروج منه ، والانضمام لأحزاب المعارضة دون أن ينال حد من حياته أو وطنيته ، أو كرامته. لأن المصالح والقناعات السياسية من طبيعتها التغير ، بينما الثبات هو سمة القناعات الدينية .


العلمانية والمجتمع المدني :
العلمانية لاتعني فصل الدين عن الحياة ولا تعني اللادينية كما يحاولون إرهابنا ، وإنما العلمانية التي نقصدها تعني فصل الدين عن السياسة ، فالدولة والسلطة والحكومة تعبيرات سياسية وليست تعبيرات دينية ، ومن هنا فالعلاقات السياسية بين المواطنين وبعضهم البعض أو بينهم وبين الدولة ينبغي أن تقوم علي أساس مصالح الناس المباشرة . مثلا مع مجانية التعليم أم ضدها مع التامين الصحي أو ضده مع زيادة الضرائب أو ضدها وهنا سنجد باستمرار مسلمين مع زيادة الضرائب ومسلمين ضدها ، وأيضا أقباط مع ، وأقباط ضد ، وهكذا تنبني الدولة علي أساس صراع المصالح السياسية وليس علي أساس الهوية الدينية .


توظيف الشريعة سياسيا :
إن التلاعب بالمشاعر الدينية للناس من أجل تحقيق أهداف سياسية هو انتهازية تنتهك بصورة بالغة الفظاظة جوهر الإسلام ومجمل مبادئة الإنسانية والأخلاقية ، وطوال قرون أمكن لكثير من المستبدين وأعوانهم قلب الأمور وتوظيف (الشريعة) لتبرير الاستبداد وعنف السلطات السياسية . وأقصي مدي ممكن في التوظيف السياسي للشريعة لتبرر الاستغناء التام عن الدستور ، هو رفع شعار القرآن دستورنا لأن معني ذلك ألا تلتزم الدولة بأي شئ في المجال السياسي مقابل التزام المجتمع بالطاعة الشاملة للدولة حتي لو كانت فاسدة وظالمة ، ولأن القرآن الكريم قد ترك للناس حرية تنظيم أنفسهم سياسيا طبقا لمصالحهم المتغيرة عبر الزمان والمكان ، فإن القول بإن القرآن دستورنا يعني في الجوهر أن يترك المجتمع للسلطة أن تقرر ما تشاء بجميع الشئون تقريبا ، غير ملتزمة سوي بالنصوص الشرعية المتعلقة بالمعاملات المدنية ، أي التي تنظم علاقة الأفراد والجماعات بعضهم ببعض وخارج النسق السياسي ، وهل يحتاج أحد لأدلة إضافية حول أن هذا القول هو المدخل أو الحيلة السهلة لتبرير وتشريع الاستبداد لكامل الحكم المطلق بكل شروره ونتائجه المدمرة ؟


ذلك ما يجعلنا ننبه إلي خطورة الدعوة التي تتردد هذه الأيام مطالبة بإصدار تشريع باسم قانون الردة لأن القوانين لا تصدر لمعالجة حالات فردية ، بل إن التطبيق سوف يأخذ صفة العمومية ليتم اصطياد كلمة من هنا ، أو عبارة من هناك لأي مفكر ، وهو ما سيقود إلي تلجيم الاجتهاد العقلي وتصفية المثقفين بدنيا ، ذلك ما يفرض عليهم تدارس السهولة التي يمكن بها استخدام هذا التشريع ضدهم هم ذاتهم كما حدث في السودان وفي إيران وغيرهما من التجارب التاريخية والحاضرة . والتي امتد فيها سيف التكفير وتهمة الردة لتشمل حتي رجال الدين أنفسهم ، الذين أخذوا مواقف معارضة لم تعجب السلطات التي تحكم باسم الدين وترفع شعاراته .