Print

بين جاهليتنا المستوردة وحاجتنا للتقدم

محمد البدرى 

لم تستوعب الثقافة العربية سوي لغة الشعر الجاهلي، بل لم تؤسس الثقافة العربية سوي علي ذلك الشعر. فهي عبر مفهوم الثقافة الواسع تعتبر من أفقر الثقافات قاطبة، فلا الفن تصويرا ونحتا ولا الأدب رواية وملحمة ولا المسرح كان لهم نصيب في تلك الثقافة. أما الموسيقي التي هي لغة الشعر فباتت من المحرمات إذا ما أضفنا الموسيقي أيضا. فاللغة ليست مجرد لذة صوتية إنما حوار ومنطق و محتوي معرفي وهو ما يفتقده ذلك الشعر. هكذا دخلنا الجاهلية من أوسع الأبواب عبر لغة غير حاملة للمعرفة وعاجزة عن إنتاجها. فالعرب نسبوا جاهليتهم بعد الإسلام إليها بكونها لغة المتحدثين بها قبل ظهوره، متناسيين أنهم ظلوا يتحدثون بها بعد ظهوره وانتشاره ونشرهم لها في بقاع كثيرة. ويبقي السؤال ماذا قدموا باستخدامها لتعويض كل هذا الفقر بانتشارهم لنشر الدين الحنيف؟ 

فالوهم العربي بان تبديد الجاهلية إلي نقيضها واقع لمجرد أن الإسلام تحدث بتلك اللغة يطرح سؤالا عما أتت به الثقافة العربية من معارف بعد الإسلام ومدي اتفاقها مع ما نحن نرفل فيه من علوم ومعارف الآن مصدرها العالم الغربي وموروثات العالم الأقدم حضاريا؟

ولعل هذا الفقر جعلها سببا لان يتخوف البعض من اندثارها. فلماذا التخوف عليها وهي لا استحقاقات لها تستحق الدفاع عنها؟   ويدافع البعض المتخوفين علي اندثار اللغة بتخليصها من معوقاتها الداخلية تركيبيا وصرفا ونحوا والبعض الأخر بادعاء عاطفي كقول الثعالبي: "من أحب الله أحب رسوله،  ومن أحب رسوله أحب القرآن ومن أحب القرآن أحب العربية".  فكلا الدفاعين عن اللغة غير كاف.

فمشكلة اللغة ليست في حب الله  فكل الشعوب والثقافات تحبه بشكل أفضل، مهما سهلت قواعد النحو والصرف والإملاء إنما في مدي صدق اتصالها وتواصلها مع عالمنا. وهو ما يطرح  علاقة اللغة بالهوية القومية. 

فلان اللغة من ابرز مفردات القومية، فعدم إتقان الفصحى معناه أن الهوية القومية لدينا تتضارب مع احد مكوناتها، أو ما افترضتا انه من مكوناتها. هنا علينا بالبحث في اللغة العامية وسبب سيادتها بهذا الشكل الطاغي ويصاحبها الهروب من الفصحى وما يلازمها من صعوبة الكتابة وقمع الأصابع والعقل والذهن أثناء الكتابة. ويبقي السؤال هل للعامية أن تعوضنا عن خسائرنا الفصيحة؟  

 الفجوة الواسعة بين العامية والفصحى تباعد القومية المصرية عن القومية العربية حتى ولو قمع العقل العامي نفسه خمس مرات يوميا فيتوضأ ويصلي ويرتل الآيات البينات بالفصحى التي حفظها وتحدث بها الجاهليون العرب قبل الإسلام ثم يعود بانتهاء الشعائر إلي طبيعته فيتحدث العامية بطلاقة.  صحيح أن القرآن لم يبدل في قواعد لغة الجاهليين شيئا ولم يبعدهم عن قوميتهم لو أن لغته ليست هي لغتهم. بل ثبت قوميتهم عن طريق تثبيت لغتهم.

فالمعرفة التي تنفي الجاهلية شكلا وليس موضوعا عن مجتمع ما وعن لغة وثقافة محدده لا يجوز اعتمادها لمجرد الإضافة أو الحذف لمجموعة من التحريمات والأوامر العبادية لتضاف لحصيلة ما لدي هؤلاء الناس في موطنهم الأصلي بثقافتهم السابقة علي دين الإسلام.  فإذا كان للثعالبي أن يفتي في حب الله ورسوله عن صدق فان التباعد عن الهوية العربية التي أساسها الجاهلي كان أولي له الأخذ بها،  لكن العكس هو ما حدث فقد تم تثبيت الهوية الجاهلية العربية كقومية عن طريق حب الرسول بهدف حب لغتهم، التي تم نشرها علي شعوب أخري باسم الفتح الإسلامي حتى ولم لم يكن لهم من الجاهلية من شئ. فهل يعقل هذا التناقض؟ بين انتشار العرب في الأمصار وبين ذوبانهم انتشرت تلك الخلطة العجيبة أي كوكتيل الجاهلية والدين. 

فالأمية المنتشرة تعني الجهل بقراءة وكتابة تلك اللغة. لكن الكارثة في نظام التعليم الديني الذي يدعي محو الأمية أنه بتعليم لغة الضاد فهو ينقل الضحية من الأمية إلي الجاهلية العربية مع إصدار شهادات بمحو أميته. فالثقافة العربية لا تعير الممحو أميتهم اهتماما إلا بقدر قراءة وحفظ الآيات وكتابتها، لكنها لا تخجل من عدم فهم الخريجين للعالم ولا تشكل لهم معرفة لإدارة أمور نفسه ومجتمعه إنما بالانحياز الاعمي لقدسية اللغة وهو ما أدي في النهاية للتهليل لأي دكتاتور طالما يدافع بجاهلية عن امة عربية حتى ولو عادت نفسها واستعادت استعمارها. وهي آفة اللغة العربية والمتحدثين بها ومعها حرص النظم العربية في بقاء الأمية سائدة بتدريس لغة الجاهلية العربية. فجاهليته بعد محو أميته لا تعوضه عن خسائره المعرفية. فرغم علمهم بأنها لغة عواطف ووجدان وغرائز ودين وليس منطق وعقل وثقافة وإدارة للحياة،

فالأمية طبقا للمقياس العالمي تزداد عندنا ولو تعلم الناس الصرف والنحو وختموا الشعر الجاهلي وحفظوا القرآن عده مرات. فلان الثقافة العربية غير قابلة للتطور فان مجرد محو الأمية وحفظ القرآن بالطريقة المعتادة يضعهم في مصاف الأكثر أميه مقارنة بباقي الثقافات الحية القابلة للنمو والتوسع والتقدم لان معيار الأمية فيها مختلف.

فالعالم المعاصر تقاس فيه الاميه بمعيار ليس عربي. كانت عملية الفتح الإسلامي تغريب لشعوب كثيرة عن ثقافتهم القومية وعن تراث مجتمعهم وعن واقعة السياسي والحضاري بل والقيمي، وزرع للجاهلية العربية وكانت المرأة أولي ضحاياها، حيث تحولت إلي عورة ونجاسة ومصدر للشر وعليها التخفي باعتبار أن هذا ليس من الجاهلية. فما الجاهلية إذن؟ أنتج المصريون و البابليون والفرس علوما في مجلات الطب والفلك والهندسة والطبيعيات بلغة لم توصف نفسها بجاهلية.  فاللغة العربية بمدلولها كما وصلتنا حددت مسافات ووضعت حواجز وعوائق للتفرقة علي أساس العقيدة والجنس. فمفرداتها الوصفية للأشياء لا تعبر عن حقيقتها بينما اللغة أي لغة لا بد أن تكون تعبيرا أمينا عن حال الموصوف. عند هذه النقطة بالذات ينبغي التوقف لفحص إنتاج العلوم والمعارف عند العرب قبل أو بعد الإسلام باستخدام لغة العرب.

فأول خطوات إنتاج المعرفة والعلوم هو الرصد والوصف السليم للمشاهدات والتعبير بأكبر قدر من الامانه وظيفيا. واللغة الفصحى بدلالاتها تعطينا وصفا مضللا لكثير من مفردات الكون الذي نرصده لإنتاج معرفه عنه. فالجاهلية العربية هنا أصبحت تصنيعا محليا للامية المعرفية وإعادة إنتاج لها إذا ما تحدث المجتمع بلغة الضاد. كانت حاجة المجتمعات البدائية إلي لغة مطلبا ملحا وضرورة لاستبدال الأصوات التحذيرية أو غيرها للتواصل بين أفراد القطيع بهدف إتمام مهام اكبر كالصيد أو التعاون في العمل بالأرض.  فبقدر ما كانت اللغة تعبر بانضباط صارم عن متطلبات المتكلم والمستمع فان الإنجاز بها وعبرها يكون متعاظما.

وهنا نطرح سؤالا عن الجاهلية العربية بلغتها التي وصفهم القرآن كجاهلية،  لماذا كان إنجازهم الحضاري بهذا التدني ولماذا لم يرتقوا كثيرا بعد حديثهم بها بعد الإسلام إلا بعد أن تماسوا مع مجتمعات تتحدث بلغات أخري ليس لها في الجاهلية من تراث وأدت لان تتحدث العامية كخليط بين المحلي والوافد وتنحاز إليها مهما انتشرت فصول محو الأمية. فالعرب انتشوا بوصف أن المال والبنون زينه، أما في باقي الثقافات فوصفوها كناتج جهد وقوة عمل وإنتاج.

فالدلالة أهم من الدال للتقدم أما العكس فينتج عكسه علي السواء. ولان اللغة العربية لها حراسها ليحافظوا إما علي جاهليتها أو قدسيتها فان مجمع اللغة العربية الذي انشاته إسرائيل مؤخرا ربما يفتح مجالات أخري يتهرب منها مشايخ الإسلام وخفراء اللغة. فما علاقة العبرية بالعربية؟ وهل سيتواصل أعضاء المجمعين أم ستنشب حروبا لغوية بينما حروب الأرض والإنسان لم تنته بعد؟   ولم تشكل اللغة المنقولة مع العرب إلي بلاد الشرق الأوسط مفتاحا يسهل لشعوبها إنتاج معرفة. لكنها كلغة وأداه ثقافية لها جذورها بمضامين جاهلية فقد بترت علاقة كل هذه الشعوب بالآداب والفنون التي كانت سائدة عندهم.

فما بالنا بالعلوم والتكنولوجيات التي في حاجة في أولي مراحلها إلي لغة أمينة تصف لنا مشاهداتنا دون خداع لغوي أو غش وظيفي.  وهنا نطرح سؤالا لماذا كانت لدينا في مصر وبابل علوما أساسية وكأساس لكل العلوم الحديثة وبترت الجاهلية العربية بلغتها الفصحى (الجاهلية) علاقة منتجيها بها بحجة الدين والإسلام. وهنا نستدعي ثانية القول المستحدث من تعلم لغة قوم تعلم علومهم. فان إجادة الإنجليزية أصبح شرطا لعدم انقراضنا رغم وجود فصيل من كهنة اللغة مهمومون بالجاهلية بأكثر من همهم بالدخول للمستقبل والمشاركة فيه.

فلو انهم أفاقوا من مخدرات الجاهلية لاستدركوا ان العلوم والتكنولوجيا لم تكن أبدا من نصيب لغة الضاد فان انحسار تلك اللغة الي حجمها الطبيعي ربما يساعد علي التواصل الحضاري بالمتكلمين بلغة العلوم.  وأي زياده في جرعات الجاهلية العربية سيحرمنا من فهم علوم العالم المتقدم. فهل سوء التعليم لدينا له مرده في التوجه السياسي المصري عبر النصف قرن الفائت وما صاحبها من زيادة جرعات الجاهلية في التعليم وغيره بحجة القومية العربية؟  فلو اننا اعتمدنا المقولة العربية الخاطئة بأننا سنصبح عرضة لشرور الآخرين لو لم نتعلم لغتهم إذا ما كان عندهم شرور!!  فإننا الآن نمتلك كل شرور العالم في الداخل بالانغلاق علي ثقافة العرب وحدها.