Print

 الحفيد والعام القبطى الجديد

 

الحفيد هذه المره ليس واحداً من أحفادى الأربعة ولكنه هو كاتب هذه السطور العبد لله طالب عفو الكريم ورضاه ،  والعام الجديد هو العام القبطى والذى نحتفل بقدومه فى فجر عيد النيروز الموافق أول توت وهو أول الشهور القبطية ،  ودائماً تكون هذه الذكرى الجميلة فى الأسبوع الثانى من سبتمبر كل عام وبالتحديد فى اليوم الحادى عشر أو الثانى عشر حسب السنه الميلادية ، وفى هذه الأيام تُعتبر آخر فرصة لتلاقى أبناء الأسرة الكبيرة والأصدقاء قبل أن تفتح المدارس أبوابها وتفرق شمل الأحباء وأولاد العم والخال والخاله من عائلتنا الكبيرة وكان الأسبوع كاملاً نقضيه فى منزل جدتى أو بلهجتنا الصعيدية ( ستى )

 وكانت ستى فريده تنتهز هذه الفرصة لعمل الكشك والشعرية بكميات كبيرة لتوزيعها على بنتيها وأولاد الخال قبل سفرهم للقاهرة للدراسة أما نحن قاطنوا الصعيد فعلينا توديع أبناء الخال( المصاروه) على محطة القطار بعد إنتهاء كل أجازة صيفية ، كنت الحفيد الأصغر فى مجموع الأحفاد البالغ عددهم التسعة أحفاد وكان علينا فى الهزيع الأخير من ليلة النيروز أن نستيقظ جميعاً للأستعداد للرحلة السنوية لجمع محصول البلح أو على الأقل لأخذ نصيب أبناء الخال لتستيفه بالمقاطف المسافرة للقاهرة عند إنتهاء فترة تواجدهم معنا بالصعيد وتصحبنا الجده ( ستى فريده ) مع باقى الأحفاد ووالدتى وخالتى وبعض النسوة زوجات أجراء الأرض من الفلاحين وبعض أبنائهم ، كنت الوحيد الذى كانت يد جدتى القوية الممتلئة تقبض على يدى لأننى كنت من أشقى الأطفال الموجودين بالرحلة وأصغرهم ولذلك كان يجب أن أكون فى يد قوية وصاحبة اليد ذو شخصية أقوى ، لم تكن الرحلة طويلة فالغيطان على مشارف البيوت وبها جنينة فواكه  ونخيل وكانت هناك ربوة عالية صنع عليها عم إسحاق الجناينى مصطبة كبيرة وكان ينتظرنا فى كل عام المعلم ميخائيل  معلم وقرابنى الكنيسة وما أن نصل الى المصطبه إلا وتجد الأطفال يتسارعون على الجلوس بجانب  المعلم ميخائيل ويبدأ هو على الفور قص قصص الشهداء المسيحيون فى عصور الأستشهاد وينتهى بقصة يوحنا المعمدان الذى سوف نرى رأسه فى قرص الشمس بعد دقائق معدودات من وصولنا لموقع المصطبة والتى كنا نطلق عليها مصطبة المعمدان ،

 

 كان مكانى معروفاً فى حِجر ستى لنفس الأسباب الأمنية التى ذكرناها من قبل وفى كل عام كانت تقول لى إستمتع بالبركة أحسن تكون هذه آخر سنة تتبارك بها وهى طبعاً تقصد كبر سنها لربما لن تكون فى وسطنا العام القادم ،  تمر الدقائق سريعة ويبدأ الأفق فى الإحمرار وتبدأ الطاقية الذهبية للشمس تظهر أولاً وسيبدأ قرص الشمس فى التسلل من خلف الأفُق ليكتمل  الأستدارة ويبدأ التهليل ويبدأ الأطفال الأكبر سناً ترديد الألحان القبطية خلف المعلم ميخائيل وكنت فى هذه اللحظات فقط مصرح لى بترك يد ستى القوية لأقفز فوق كتف عم إسحاق الجناينى وأقبض على أذنيه الكبيرة الممتلئه الشحم لكى أستطيع رؤية رأس يوحنا المعمدان فى قرص الشمس المولودة لتوها ، يقذفنى عم إسحق من فوق أكتافه العريضة بعد أن ننتهى من فرصة المشاهدة ويصرخ ( ياه معجون بمية عفاريت فيك نار ياولدى ) ، وتضحك ستى وتضحك أمى وباقى النسوة على ما قاساه عم إسحاق من عذاب معى ، وبالرغم من كل هذا كان يعطينى أجود البلح الذى يتم قطعه بالظبايط من النخيل وتبدأ ستى فى قصتها لنا أن هذا النخيل قد زرعه الجد الأكبر لها ولكن لم يأكل منه لا هو ولا أولاده والذى يأكل منه هو الأحفاد وأحفاد الأحفاد

 

 وهذا يعلمنا أن نصنع الخير للآخرين حتى ولو علمنا أننا لن نجنى من ثماره ولكننا نزرع ليحصد غيرنا فى المستقبل ، كذلك النخله دائمة الأستقامة ودائمة العطاء حتى للذين يرجمونها بالحجارة فترد الرجم لهم ببلحها الحلو المذاق ليشبعهم ونتعلم بالرد بالخير للذين يقصدون بنا شراً حتى الذين يرمونا بالحجارة ، كذلك النخلة عطائة فهى تعطى الجريد للأسقف وعمل الأساس والأقفاص وعشش الفراخ وتعطى اللوف لأستعمال الفلاحين فى كافة مستلزماتهم وتعطى الساق نفسها بعد أن يقطعوها لسقف المنازل وحظائر الماشية هذا بخلاف إعطائها ثمر البلح وهو حلو المذاق لنكون نحن نتشبه بحلاوة الطباع وهو أحمر بلون دم الشهداء الأولين وقلبه أبيض برمز النقاء والطهارة والنواة صلبة قوية لنتعلم الصلابة والقوة فى الحياة والإيمان الذى لا يتزعزع والنخلة تنحنى للريح ولكنها لا تنكسر وتعاود الأستقامة بعد مرور المشاكل والعواصف  والنخلة صبورة تعيش بلا ماء وفى عطش لكنها تبحث عن العطاء بالرغم من عطشها حتى لو كانت مزروعة فى الصحراء الجافة القاحلة ، ويقفز المعلم ميخائيل ليختبرنا من حفظ شعر العام الماضى وكان يرد كبار الأطفال وكان بيت الشعر هو 

(( كُن كالنخيل عن الأحقاد مُرتفعاً   *** تُرمى بصخرٍٍ فتلقى بأحسن الثمر ))  

وقد حفظتها بعد وفاته ولم تسعدنى أيامى أن أرددها أمامه ولكنى أرددها الآن لأحفادى فى بلاد لا تعرف النخيل ولكنها تعرف النيروز      .                             

 

شفيق بطرس