ولحساسية هذه القضية فإنني حرصت علي متابعة ما يدور حولها من نقاش وما يبث عن الموضوع في البرامج التليفزيونية وما يكتب في وسائل الإعلام . والذي لفت نظري أن هناك شبه إجماع علي رفض حق هذا الشاب في تغيير دينه . علي المستوي الشخصي قيل إن هذا الشاب ليس جادا أو صادقا وإنما يرغب في القيام بفرقعة إعلامية بقصد الشهرة . ومن الناحية الدينية أثير مبدأ رفض الشريعة الإسلامية للردة ووجوب تطبيق الحد علي مرتكبه . ولست هنا بصدد مناقشة الجانب الديني أو التعليق علي رأي الشريعة الإسلامية. كما أنني لا أملك الحق في إصدار رأي في الجانب الشخصي لأنني لا أعرف الشاب شخصيا ولا أملك الدخول في ضميره لأحكم علي مدي صدقه . وأري أننا كبشر لا يجب أن ننصب أنفسنا حكاما علي مثل هذه الأمور التي تتعلق بالضمير والتي يجب أن نتركها لعلاقة الإنسان بربه .
ولكن الذي جذب انتباهي بنوع خاص هو الاعتراض الذي بني علي أن هذا العمل مرفوض لأنه يصطدم بالتوازنات التي يقرها المجتمع . وتعجبت كيف يمكن أن نضحي بالحقوق الثابتة المشروعة لإنسان علي مذبح التوازنات المتغيرة في المجتمع . وهل أصبح المجتمع بقرة مقدسة لا تمس ؟.
وفكرت في هذا المجتمع المصري وكيف وجدته عندما زرته بعد غيبة نحو ثلاثة عقود . لقد رأيت مجتمعا مغايرا لما عرفته , وهو تغيير ربما لا يلاحظه من يعيش فيه ولكنه بالتأكيد يصدم من غاب عنه لمدة طويلة . كان التناقض الذي رأيته واضحا في كل شئ , فمن ناحية لا تخطئ العين ملاحظة مظاهر التدين بين الناس وخاصة في الملبس ولكن سرعان ما تكتشف أنها يمكن أن تكون هذه مجرد قشرة خارجية لا تصحبها قيم أخري تتعلق بالدين مثل العفة في السلوك والأمانة في المعاملات والمحبة والرحمة والإحسان إلي الغير . وتكررت علي مسامعي شعارات لم تتعود أذاني علي سماعها من قبل يا عم مشي شغلك ووإللي تكسب به العب به ورأيت سباق الناس علي المال الذي مهما حصلوا منه فيبدوا أنه لا يكفي. فمطالب الحياة متزايدة والسلع متوفرة ولكنها بأسعار خيالية تستفز غالبية الناس, ومع ذلك فهي في متناول قلة محظوظة . كل هذا أصبح يولد نوعا من الحسد والمنافسة الشريفة وغير الشريفة . إن المجتمع المصري يمر بتيارات دينية واقتصادية واجتماعية عنيفة دفعت بالناس إلي إعادة النظر في القيم التي توارثناها واتباع قيم جديدة غريبة عنا.
فهل نريد أن يكون واقع هذا المجتمع المتغير هو الأساس الذي يحكم حياتنا ويملي علينا ما نقبله أو نرفضه ؟
هل إذا رفض المجتمع قضية تتمشي مع القانون وحقوق الإنسان وما يقره ويعترف به العالم المتحضر- أيهما نضحي؟ هل بالحقوق الشرعية أم بالأعراف السائدة في المجتمع حتي ولو كانت غير عادلة ؟
أنا طبعا أفهم من ناحية تحقيق الأمن أن الوضع الأسهل أن تتمشي الأمور مع رغبة الجماهير. ولكن هل هذا هو الوضع الأمثل ؟ وهل في سبيل تحقيق السلام الاجتماعي يتحتم علينا أن نضحي بحقوق الناس؟ وأين مسئولية الجهاز الأمني في حماية حقوق الأفراد العادلة ضد ظلم الجماهير؟
وهنا قد يعترض البعض بالقول إن الجماهير تمثل رأي الغالبية , وفي ظل مبدأ الديموقراطية يجب أن يكون هو الرأي السائد . ويتساءلون : لماذا نقف في وجه تطبيق الديموقراطية التي يتشدق بها الغرب ؟ أليس هذا هو عين الرياء ؟ والجواب أن للديموقراطية أركان أخري تزيد علي مجرد أن 51 % يريدوا أن يملوا رأيهم علي 49% . فلو كان مجرد فرد واحد فوق الخمسين في المائة يستطيع أن يفرض ما يريد بدون حدود علي بقية الناس لانقلب المجتمع من أساسه . ولكن مع رأي الغالبية , فهناك ضوابط وضمانات أخري منها الدستور والسلطات المختلفة التي تحكم البلد . فتصور في بلد مثل أمريكا لو قرر البيض مثلا الاستفتاء علي قانون بمقتضاه يتم طرد السود من البلاد . وحتي لو قررغالبية السكان الموافقة علي مثل هذا القانون , ولكن هذا القانون لن يطبق لأنه لا يتمشي مع الحقوق القانونية والدستورية والإنسانية وحقوق الإنسان العالمية .. إلخ , وعندما يعرض علي القضاء سيتم رفضه بالتأكيد .
إن كلمة توازنات المجتمع أصبحت كليشيه يستعمل لإنكار الحقوق المشروعة لكثير من الناس في المجتمع المصري . وقد رأيناها تستعمل ليس في مجال حرية العقيدة فقط بل في موضوع بناء الكنائس والتمييز الواضح في استبعاد الأقباط من الوظائف القيادية والنيابية وعدم الحصول علي أحكام قضائية رادعة في الجرائم التي ترتكب ضد الأقباط . في كل هذه المظالم يطالب المظلوم بقبول الظلم بسبب التوازنات الاجتماعية . وهي كلمة مطاطية تطبق علي كل شئ وهي أيضا كلمة منمقة لمعني كريه ومرفوض . هذا المعني أن الغالبية في المجتمع المصري لم تعد تقبل الآخر المخالف في العقيدة .
بدلا من قبول هذا الوضع ومسايرته علي كل مخلص في هذا الوطن أن يقف ويتساءل : كيف انحدر بنا الحال إلي هذا الوضع المشين ؟ وكيف نعالج عيوب المجتمع من الجذور ونعيده إلي مساره السليم ؟ إن العلاج الأسهل ليس دائما هو العلاج الأمثل . وإن الرجال العظماء هم الذين وقفوا ضد التيار وتحدوا الصعاب وغيروا من مسار الأمم فاستحقوا أن يخلدهم التاريخ .
هذه أمنيتي من أجل بلدي أن تعود مصر كما كانت واحة أمن وأمان تحمي الضعيف والمظلوم من بطش الأقوياء والظالمين .
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.