Print
 


انخراط الأقباط في الاحزاب والمنظمات الأهلية يؤدي إلي تراجع التطرف المتأسلم

انعاش العمل السياسي يتطلب خروجهم من كهوف العزلة
انعاش العمل السياسي يتطلب خروجهم من كهوف العزلة
انخراط الأقباط في الاحزاب والمنظمات الأهلية يؤدي إلي تراجع التطرف المتأسلم
 التفرقة الدينية بين مسلمي مصر واقباطها ترسخت في عصور الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين
 الحاكم بأمر الله قطع لسان كل من يتكلم القبطية
 الخليفة المأمون نفي وقتل الفلاحين الأقباط
 مع صدور أول دستور عثماني عام 1876 احتفي تعبير أهل الذمة وسقطت الجزية عن المسيحيين
مهدي بندق
في مسيرة المجتمعات البشرية منعطفات ،هي بمثابة العلامات الفارقة بين مرحلة تاريخية وأخري مختلفة. من ذلك قيام مجتمع بكامله بتغيير ديانته،مثلما فعلت روما في أثينا في القرن الرابع الميلادي ،حين أعلنت المسيحية ديانة رسمية للدولة ،ومثلما انتقل شعب الخزر جميعه إلي اليهودية في القرن الثامن الميلادي - وهو الشعب الذي انحدر منه يهود أوروبا الشرقية الحاليون - ومن ذلك أيضا أن يتنكر شعب لعقيدته السياسية فيلفظ النظام الجمهوري ويرفض الديموقراطية،مستبدلا بهما ديكتاتورية فاشية كما حدث من الشعب الألماني في الثلث الأول من القرن العشرين لأسباب ليس هذا مجال سردها.
ومن المنطقي أن هذه التحولات الجذرية لا تحدث إلا إذا توافرت عوامل داخلية وخارجية معينة ،من شأنها أن تحرض الفاعلين الاجتماعيين علي نبذ الثبات الذي يهدد الجماعة بالتلاشي ،وبالمقابل تحفزهم علي الأخذ بأسباب التغيير - بغض النظر عن معيار الصواب والخطأ- إيمانا بأن التغيير في حد ذاته هو ضمان البقاء والاستمرار.
كانت هذه المقدمة ضرورة تمهيدية للولوج إلي ما يمكن تسميته بـ المسألة القبطية في مصر حيث تضافرت عناصر محلية وأقليمية ودولية سنأتي لذكرها فيما بعد لفتح هذا الملف ذي الحساسية ،بعنوانه البارز : الاشتعال الدوري للفتن بين المسلمين والمسيحيين بدء من سبعينات القرن الماضي وحتي الآن،وبما يهدد الوطن جميعه.وبالتساوق مع هذا العنوان ،لابد لنا أن نتذكر أطروحة صمويل هنتنجتون الشهيرة بـ صراع الحضارات والتي تنبأ فيها بأن القرن الحادي والعشرين إنما سيكون ميدانا لصدام ثقافي عالمي ،ففي حين انسحب الصراع الطبقي عن مقدمة المسرح - بسقوط الاتحاد السوفيتي وانحسار الفكر الماركسي - فإن البشر مقدمون علي مرحلة يتآزرون أو يتحاربون فيها بدوافع ثقافية ،وفي القلب منها الدين ،إثباتا للهوية وتأكيدا للذات المحدودة بحدود الموروث والمألوف .
 ولقد بدا ذلك واضحا في حروب البوسنة ،والشيشان ،وفي الحروب الأهلية التي وقعت في السودان بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي،فضلا عن الاقتتال الدموي بين السنة والشيعة في العراق. والأطروحة رغم ذلك كله قابلة للنقد،غير أن أفضل نقد لها إنما يكون بشحذ الآليات العملية للدول الحديثة من أجل دحضها وتكذيبها ،وهذا رهين بأفعال الجماعات البشرية ،وليس باحتجاجات المثقفين حسب.بالنسبة لمصر ،فلا مشاحة في أن الدولة قد أحسنت صنعا بتعديل دستورها ,ليتضمن في مادته الأولي أن المواطنة هي الأساس للدولة المدنية الحالية.
 وهي وإن أقرت بأن الإسلام هو دينها الرسمي إلا أنها اشترطت للممارسة السياسية أن تقوم علي أسس غير دينيةالمادة الخامسة من الدستور وبذلك تكون قد قطعت الطريق علي من يخططون لقيام دولة ثيوقراطية تفرق بين المواطنين تبعا لديانتهم ،ومن ثم تمهد لحروب أهلية قادمة لامحالة.من هنا تري أن الملف القبطي لم يعد مفتوحا أمام الدولة ،بل أمام ثقافة مجتمعية موروثة من جانب ،ووافدة من جانب آخر.
 فماهي هذه الثقافة ؟ربما تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلي إطلالة سريعة علي التاريخ.العرب والمصريون في التاريخفتح العرب المسلمون مصر عام 641 ميلادي ،وكشأنهم مع البلاد المفتوحة فقد خيروا السكان بين القتال أوالجزية أو اعتناق الإسلام. حينئذ لم يكن أمام فقراء الناس من بد سوي الخيار الثالث ،بيد أن هؤلاء لم يصبحوا عرباً لمجرد أنهم أسلموا ،فلقد ظل العرب الفاتحون يسمونهم - مع غيرهم ممن بقوا علي ديانتهم المسيحية- باسم الأقباط الموالي من حيث أن كلمة قبطي كانت تشير إلي الاسم الذي أطلقه البيزنطيون علي أهل مصر الحاميين ،وأصله الفرعوني - - أي منزل روح بتاح .
ومنها اشتقت اللغات الهندوأوربية كلمة ،بينما ترجمها العرب الساميون إلي قبط.المصريون إذاً أقباط لغوياً. أما التفرقة الدينية بين مسلميها ومسيحييها فقد ترسخت مع حكم الخلفاء أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين ،هؤلاء الذين مارسوا التمييز بين الناس باسم الدين. من ذلك إجبار المصريين علي التخلي عن لغتهم القبطية إلي حد قيام الحاكم بأمر الله الفاطمي بقطع لسان كل من يتكلم بها! ومن ذلك أيضاً أن العصاة ممن ظلوا علي ديانتهم المسيحية فانفردوا بصفة الأقباط ألزموا بحمل الصلبان الثقيلة علي رقابهم إلي أن ازرقت عظامها! ومن ذلك ثالثاً نفي وقتل الفلاحين المتمردين منهم بالجملة فعلها الخليفة المأمون العالم المثقف! وقد أفاض المؤرخون أمثال المقريزي وساويرس ابن المقفع وابن إياس في ذكر ثورات الفلاحين الأقباط المقموعة في أشليم والحوف الشرقي والبشموري وغيرها حيث جرت الدماء فيها أنهاراً.
الأمر الذي أورث الأقباط المصريين ثقافة الخوف والإذعان،وقادهم إلي كهوف العزلة السياسية لعصور بأكملها.معالجة التذكارات السوداءبقيام الدولة المدنية الحديثة في القرن التاسع عشر ،انشطب من القاموس السياسي تعبير أهل الذمة إذ تم ترميم البناء القانوني بأسمنت جديد مع صدور أول دستور عثماني عام 1876 ،وعليه فقد أسقطت الجزية عن المسيحيين علي قاعدة المساواة أمام القانون ،وتأكد هذا السقوط بإقرار مبدأ التجنيد الإجباري لكل المواطنين ،الأمر الذي سمح للمسيحيين المصريين أن يصيروا ضباطاً ورؤساء أفرع ،بل وقادة ألوية وفرق في الجيش الوطني للبلاد . أضف إلي ذلك ما حدث من رتق كامل للنسيج الاجتماعي المصري باشتراك أبناء مصر جميعا مسلمين ومسيحيين في الثورة الوطنية الكبري عام 1919 بالضد علي المحتل البريطاني .
 مما فتح فضاء العمل السياسي أمام الأقباط للمشاركة في الحكم تحت مظلة حزب الوفد الليبرالي بزعامة سعد زغلول ثم مصطفي النحاس ومكرم عبيد. فما الذي أحدث القطيعة بيننا وبين هذه المرحلة المائزة من مراحل تاريخنا القريب؟سيولة كونية وجمود عقائديانتهت الحرب الباردة بتبخر الاتحاد السوفيتي كدولة عظمي، تسير في فلكها معظم دول أوربا الشرقية، وتبع ذلك تحطم اليوغسلافي حين قامت دوله بطحن عظام بعضها البعض تحت شعارات عرقية ودينية حلت محل وحدة الفكر الاشتراكي بينما أفرخت حرب الخليج الثانية طيور الفرقة والانقسام داخل الأمة العربية،في ذات الوقت الذي ترسخت فيه دولة اسرائيل العدوانية التي قامت أساساً علي مبدأ عنصري ديني يدعو يهود العالم الي الاستيطان في فلسطين - أرض الميعاد ! - علي حساب السكان الأصليين. ونتيجة لاخفاق مشروع الوحدة العربية علي أرضية أيديولوجية القومية. وبالتوازي مع نجاح الثورة الإسلامية في ايران، بات طبيعياً أن ترتفع أصوات لا يستهان بها في العالم العربي تدعو الي إقامة دولة إسلامية شاملة في مواجهة حاسمة مع الدولة العبرية التي حققت الانتصار تلو الانتصار علي كل قادة الدول العربية قومية الطابع مجتمعين أو فرادي. فما الحل إذن ؟! الإسلام هو الحل ! هكذا ظهر تنظيم القاعدة داعياً لحرب شاملة عالمية الطابع ضد النصاري واليهود.
 وهكذا أيضاً انتعش الفكر الصحراوي بجموده العقائدي، ذلك الجمود الذي يمنح الغطاء السيكولوجي المريح للعرب المغلوبين، فإذا كان الحاضر أليماً لا يحتمل، ففي الماضي الذهبي العزاء، وربما كان في محاولة ابتعاثه مرة أخري ما يحمل بعض الأمل، وإن كان غامضاً. في هذا المناخ صار لمخاوف المسيحيين العرب - خاصة في لبنان ومصر - ما يبررها. وبالتالي يدعوها الي الإفصاح عن نفسها. وبقدر ما نجحت السيولة الكونية المصاحبة لزوال النظام العالمي القديم، في محو دول بأسرها، بقدر ما سمحت نفس هذه السيولة للأقليات العرقية والدينية أن تطالب بمكان لها في عالم بدا أنه يتشكل علي أسس جديدة.
 فها هي ثورة الاتصالات تسهم في تفتح وعي الأفراد والجماعات المختلفة علي مبادئ حقوق الإنسان الرافضة لكل تمييز بسبب الدين أو العقيدة ،فكيف إذن لا يحاول الإفادة منها كل من يشعر أن حقوقه منتقصة ؟!الأقباط أمام المنعطفتلك كانت العناصر الدولية والإقليمية التي أشرنا إليها في بداية المقال ، أما علي المستوي المحلي، فقد تضافرت مع هذه العناصر ممارسات تدعو لفتح الملف القبطي بمصر .وهي عناصر ممثلة لاتجاهات ليبرالية لها برامجها، من بينها إلغاء الخط الهيمايوني الصادر 1856 م علي عهد السلطان عبد المجيد هذا الخط العثماني الذي تحول إلي لائحة تنفيذية علي يد العزبي باشا وكيل وزارة الداخلية المصرية عام 1934 ومضمونها التمييز في بناء وترميم دور العبادة بين المساجد والكنائس. كما تعالت أيضاً أصوات المدونين الجدد بالاحتجاج علي كل ألوان التمييز الاجتماعي وصولاً الي المطالبة بالغاء المادة الثانية عن الدستور، وحذف خانة الديانة من البطاقة القومية للأشخاص.
 بيد أن تحقيق هذه المطالب وغيرها من المطالب القانونية المشروعة مرتهن بانعاش العمل السياسي ذاته بمشاركة الأقباط أنفسهم ، وليس بالتقوقع داخل الشرنقة القبطية. وآية ذلك أن التطرف الإسلامي لا ريب يقوي ويتمدد إذا ما قوبل برد فعل ديني مماثل. في حين أن انخراط أقباط مصر في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بقناعة لا غش فيها، لا ريب مؤد الي تراجع التطرف المتأسلم، الذي يعلم في قرارته أنه يتعلل بالأوهام لا بالحقائق ،وأنه يتسلح بالصوت العالي والصراخ الأجوف لا بالقدرة علي المناظرة العقلية المنطقية. وهكذا يتبدي للأقباط أنهم أمام منعطف تاريخي واقعي يدعوهم الي نبذ السلبية الموروثة من عصور ولت، لكي يشاركوا في استخلاص الدولة المدنية، والمجتمع المصري بأسره من براثن التطرف علي الجانبين. فهل يفعلها الأقباط؟ أعني هل يفعلها المصريون ؟!