Print

 

من هم المجانين في تفجيرات الأسواق الشعبية؟

عبد الخالق حسين

هذه المقالة مهداة إلى المثقفين العرب والعراقيين الذين يسمون الإرهاب في العراق "مقاومة وطنية" ويشيدون بها ويروجون لها.

ارتكب تحالف الإرهاب البعثي-القاعدي التكفيري جريمة مروعة أخرى يوم 1 فبراير/شباط الجاري، في سلسلة من جرائمه الكثيرة ضد الشعب العراقي، ولكن الجريمة هذه المرة كانت فكرة جهنمية تفتقت بها عبقرية إجرام هذا التحالف الموغل في الشر، حيث يستطيعون ادعاء حق براءة الاختراع بامتياز.

والاختراع هنا يتمثل في استخدام امرأتين مصابتين بعاهة عقلية لأغراض دنيئة، إذ كما صرح المسؤولون في بغداد، أن المجرمين قاموا بربط المتفجرات بهاتين المرأتين وتم تفجيرهما عن بعد بواسطة جهاز إلكتروني (remote control). حدث أحد التفجيرين في سوق الغزل والآخر في سوق بيع الطيور والخضار في وقت الزحام.

وكما جاء في تقرير هيئة الإذاعة البريطانية: " .. كان التفجيران يعدان الأعنف منذ عدة أشهر قد حصدا أرواح قرابة 98 شخصا فضلا عن إصابة أكثر من 150 آخرين".

المشكلة في هذه الجريمة أن البعض وصف المرأتين بأنهما مجنونتان فجرتا نفسيهما كانتحاريتين وسط الزحام في بغداد. وهنا الإشكالية التي نود تسليط الضوء عليها. في الحقيقة وكما تبين فيما بعد، أن المرأتين ليستا بمجنونتين، بل مصابتان بعاهة عقلية خَلقية تسمى بمرض المنغولية (Down syndrome= Mongolism) لأن المصاب به يشبه المنغولي.

والجدير بالذكر أن مرض المنغولية ليس جنوناً بل هو عاهة خَلقية وصفها لأول مرة طبيب بريطاني عام 1866 يدعى  John Langdon Down ولذلك سمي باسمه (Down Syndrome).  كما واستطاع طبيب آخر يدعى  Jerome Lejeure اكتشاف الخلل وتحديد موقعه في الكروموسوم رقم 21 عام 1959، أي أن المرض له علاقة بالعوامل الوراثية.

لذا نؤكد مرة أخرى، أن المصاب بهذه الحالة ليس مجنوناً، بل يعاني من تخلف عقلي. وهناك فرق كبير بين الجنون والتخلف العقلي بسبب عاهة خلقية.

ولكن رغم تخلفه العقلي، يكون المنغولي في نفس الوقت إنساناً ودوداً أليفاً اجتماعياً، مسالماً محبوباً، ومحباً للمرح، وأبعد ما يكون عن إلحاق الأذى بأحد. ولكن نظراً لتخلفه العقلي وبساطته، يمكن استدارجه بسهولة وخدعه من قبل الأشرار لأغراض سيئة كما حصل في التفجيرات الأخيرة في الأسواق الشعبية في بغداد. لذلك تقوم الحكومات في البلدان المتحضرة بمسؤولية جمع هؤلاء في معاهد خاصة بهم ورعايتهم تحت إشراف موظفين مدربين لهذا العمل، يحرصون على راحتهم وحمايتهم. كما وهناك آباء يصرون على رعاية أطفالهم المصابين بهذه العاهة بأنفسهم لتعلقهم الشديد بهم.
    
صورة لأطفال مصابين بالمنغولية

إذنْ من هو المجنون في هذه الجريمة؟ مما تقدم، نعرف إن المرأتين اللتين استخدمهما الإرهابيون لغرض التفجيرات  ليستا مجنونتين كما جاء في الأخبار في الوهلة الأولى، إلا إن الأعمال الإرهابية هذه، من أولها إلى آخرها، بالتأكيد لا تخلو من جنون. لذا فالسؤال هو: أين يكمن الجنون ومنهم المجانين؟ فلو توخينا الحقيقة وتأملنا الأمر جيداً لاكتشفنا أن الجنون ليس في المرأتين الضحيتين، بل يكمن في الجهات التالية:

أولا، المجانين الحقيقيون هم أولئك الإرهابيون الذين تم غسل عقولهم وتدمير ضمائرهم بأيديولوجية البعث والتطرف الإسلامي التكفيري الفاشيتين، فقاموا هذه المرة باستغلال هاتين المرأتين والتضحية بهما في قتل وجرح العشرات من الأبرياء العراقيين في الأسواق الشعبية المزدحمة. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل  على الإفلاس العقلي والأخلاقي والفكري والسياسي لهذه العصابات الإرهابية، وخوائها من جميع القيم والشهامة، وهذه هي شيمة الإرهاب الذي لا دين ولا مذهب ولا أخلاق له.

ثانياً، المجانين الحقيقيون هم أئمة المساجد ورجال الدين المتطرفين الذين يواصلون ليل نهار، بالإشادة بالإرهاب والترويج له، فينفثون سمومهم  في خطبهم الدينية بتحريض الشباب المسلم وشحنهم بالتطرف وكراهية المختلف، ويحثونهم على كره الحياة وحب الموت، ويدفعونهم للتوجه إلى العراق لقتل الآخرين باسم الله والإسلام، بحجة محاربة الاحتلال الأجنبي وإخراج "الكفار" من ديار المسلمين، مستخدمين النصوص الدينية خارج سياقها التاريخي لتضليل هؤلاء الشباب والتضحية بهم وبالأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء والعمال الفقراء وغيرهم دون تمييز.

ثالثاً، المجانين الحقيقيون هم أولئك الذين يتظاهرون بالاعتدال، ويدَّعون أنهم ضد الإرهاب، ولكنهم نادراً ما يدينونه. ووظيفة هؤلاء إيجاد المعاذير والتبريرات للإرهاب كلما وقعت جريمة إرهابية ضد الأبرياء، وإلقاء اللوم على السياسات الخارجية للدول الغربية، وهوسهم بنظرية "المؤامرات الإمبريالية الصليبية والصهيونية" على الأمة الإسلامية... وترديدهم لعبارة "ملة الكفر واحدة"... الخ

رابعاً، المجانين الحقيقيون هم الإعلاميون العرب وغير العرب الذين سخروا وسائل إعلامهم وفضائياتهم لتشويه الحقائق عن العراق، ويعملون على إثارة النعرات والفتن الطائفية، وقتل العراقيين باسم العداء لأمريكا، ولكن السبب الحقيقي هو عداءهم للشعب العراقي عقاباً له لأنه لم يدافع عن نظام الجلاد صدام حسين، وحرصاً منهم على إفشال العملية السياسية والديمقراطية في العراق.

خامساًً، المجانين الحقيقيون هم أولئك المثقفون العرب الذين سخروا أقلامهم في دعم الإرهاب والترويج له والإشادة به، والذين أطلقوا على الإرهاب في العراق اسم (المقاومة الوطنية). ومن المؤسف حقاً أن من بين هؤلاء الكتاب، مثقفون توسمنا فيهم النزعة الليبرالية ودعم الديمقراطية في بداية الأمر، ولكنهم في الفترة الأخيرة انضموا إلى جوقة مروجي الإرهاب في الإشادة بما يجري في العراق وتسميته بـ(المقاومة الوطنية) ضد قوات الاحتلال، بحجة أن الاحتلال هو احتلال في جميع الأحوال، سواءً كان باسم التحرير أو الاستعمار، ورفعوا أعمال الإرهاب في العراق إلى مصاف المقاومة الوطنية التحررية في فيتنام وفي الجزائر ضد القوات الاحتلال في أوائل النصف الثاني من القرن المنصرم. (وسنأتي إلى هذا الموضوع في مقالنا القادم).

مقاومة أم إرهاب؟
نؤكد لهؤلاء السادة اللبراليين جداً ووفقاً لما نشرته بعض التقارير شبه الرسمية أن نسبة 20 في المئة من ضحايا التفجيرات في العراق هم من الأطفال. فأية مقاومة وطنية هذه التي تقبل بقتل الأطفال والنساء والشيوخ والفقراء بالجملة؟ في الحقيقة والواقع إن ما يجري في العراق هو ليس مقاومة وطنية كما يسميها البعض من مثقفي كوبونات النفط التي كان يقدمها لهم النظام الساقط من السحت الحرام، بل هي كما يصفها الشاعر العراقي نبيل ياسين " مقاومة مليئة بالأحقاد وكره البشر وكره الوطن وكره الأشجار والطيور وتراث الشعوب وحتى كره القبر حيث يفترض أن يرقد البشر في راحة أبدية".

وعليه، نسأل هؤلاء السادة من الذين توهمنا بليبراليتهم ودعواتهم للديمقراطية، وتبين لنا فيما بعد زيف دعواتهم تلك، ما هو تفسيرهم للجوء "المقاومة الوطنية" إلى تفجير امرأتين معاقتين عقلياً؟ وهل هذه عملية تقبلها الأخلاق وقيم المقاومة الوطنية التحررية؟ أم هو دليل على الإفلاس التام لهذه الجهات من هذه القيم؟ وهل ما جرى ويجري من تفجيرات في الأسواق الشعبية وتطاير أشلاء العشرات من الأبرياء، هو مقاومة وطنية؟

والمؤسف حقاً، أن هؤلاء السادة لم يكتفوا بمنح شرف المقاومة الوطنية للجماعات الإرهابية فحسب، بل راحوا يروجون للحركات الإسلامية في المنطقة ويعملون كوسطاء بينها وبين المسؤولين الأمريكان ويقدمونها كبديل عن الأحزاب العلمانية الديمقراطية لتولي الحكم في دول الشرق الأوسط.

إن تبييض وجه حزب الأخوان المسلمين في مصر مثلاً، هو عمل إن دل على شيء فإنما يدل إما على السذاجة والجهل بنوايا هذه الأحزاب الإسلامية في أحسن الأحوال، أو يدل على أن هناك موقف انتهازي بدوافع مصالح مادية مؤقتة على حساب مصالح شعوب المنطقة الدائمة.

وفي جميع الأحوال، فبعملهم هذا فإنهم يمددون من عذابات شعوبهم ويعرقلون إقامة الأنظمة الديمقراطية في بلدانهم، وبالتالي سيدفعون الثمن الغالي كما دفعه الرئيس الراحل أنور السادات عندما أحسن الظن بالإسلاميين فقربهم نكاية بالديمقراطيين، فدفع حياته ثمناً على أيد الأخوان المسلمين نتيجة لسوء تقديراته. فمتى يتعلم هؤلاء الدرس؟