Print

Aaram Logo

زغلول النجار يفجر "المحروسة " مصر

يسري حسين من لندن

لا أدري لماذا يحاول د . زغلول النجار هزّ البنيان المصري بشأن ادعاءات يقولها عن تنصير وهجوم قبطي في نظره على المسلمين ؟ . إن الرجل يبحر في مياه خطرة للغاية تثير الزوابع وستضر مصر , ولن تنفع الإسلام بشئ , وإنما ستجر هذا الوطن إلى محنة حقيقية , إذا لم يتم اسكات هذا الصوت وغيره وابعاده عن إفساد النسيج الوطني القائم منذ آلاف السنين في مودة ووئام .

إن النجار اعتاد الحديث عن معجزات علمية في كتاب الله , لكن ما يقوله لا علاقة له بعلم أو إيمان , إذ التحريض على كراهية الآخر , ثقافة وافدة على المصريين تستثمر الإحباط وتراجُع الثقافة , إن لم نقل الإيمان أيضاً , للَفت الإنتباه بشأن تفجير معارك خاسرة , لن يستفيد منها سوى أعداء مصر والمتربصين بها وبأمنها .

فقد عاشت " المحروسة " خلال تاريخها الطويل بسبب نظرية الامتصاص والحوار واتساع ساحاتها للجميع , فالدستور المصري غير المكتوب منذ وجود الكنانة , مع فكرة المواطنة بأوسع صورها فلا فضل لمسلم على مسيحي , ولا مكانة متميزة لقبطي على حساب ديانات أخرى , لأن الولاء أولاً للوطن وقضية الاعتقاد تُركت دائماً مفتوحة ضمن أُطر السماحة وعدم النبش في قلوب المواطنين . غير أن المُشرع وضع ضوابط لاحترام الديانات والمعتقدات . وعندما تتأمل الأمثلة الشعبية تجد فيها هذه السماحة والتقدير للجميع , فمحمد نبي وعيسى نبي وموسى كذلك , وكل من له " نبي " يصلي عليه , كما سمعنا مبكراً في حواري مصر القديمة التي تتعانق فيها الأديان برحابة تشع بنور إيمان المصريين وسماحاتهم .

كانت مصر في يوم ما  تضم عشرات من الجنسيات وأصحاب ديانات مختلفة . وقد هرب إليها من اضطهاد في العصر العثماني , " شوام" أسسوا الصحافة الحرة والمنفتحة , وساهموا في نهضة مسرح وتمثيل . وكانت القاهرة العريقة تمتص كل شئ , حتى الغزاة الفرنسيين عندما جاءوا إلى قاهرة المعز , استقر فيها بعضهم وتزوجوا من مصريات وأصبحوا ينتمون إلى الهوية المصرية .

والأرض الطيبة ترحب بالجميع . وأقباط مصر رحبوا بالعرب ودخل الإسلام أرض المحروسة اعتماداً على أشياء مهمة , أهمها السماحة , حيث أن المصريين قد ضاقوا بالعسف الروماني وتدخلهم في شؤون العقيدة القبطية , غير أن التغيير الذي شهدته مصر تحت الحكم العربي , ترك الأحوال على ماهي عليه واختفى الاضطهاد بكل ألوانه , لذلك نمت مصر . وفي العصور الحديثة لم يفرق القانون بين مواطن وآخر , غير أن تراكمات التخلف والتراجع تحاول بث الفرقة وفك هذه العلاقة الحميمة بين سُكان يعيشون الظروف نفسها وتحاصرهم القضايا ذاتها , ويغلفهم الأمل والطموحات في عبور متاريس التراجع بالقفز إلى صفوف التقدم والتنمية والرخاء .

لم أسمع من د. زغلول النجار رأياً في الغلاء أو الفساد أو تجاوزات خلال الانتخابات . ولم نقرأ له كلمة تخص الأوضاع الاجتماعية وانتشار البطالة والجريمة والرشوة , لكنه يحدثنا ليل نهار , عما يدعيه بشأن أخطار حملة التنصير , وذكر عدة أماكن يتم فيها خطف المسلمين وإغواء البعض في تغيير عقيدتهم . كأنه لا توجد دولة ولا أمن للتعامل مع هذا الخرق للقانون . ويتحدث النجار كأن الأقباط يهيمنون على شؤون الدولة المصرية ويسعون لتغيير الأوضاع الدينية كلها . وهذا عبث حقيقي وتطاول على عقول الناس .

لقد عشت طفولتي وشبابي في حي " شبرا " العريق وتعلمت في مدارس حكومية وطنية , يختلط فيها المسلمون مع الأقباط كما يحدث في كل القطاعات , داخل الجيش والشرطة والحياة العامة وفي الصحافة والمصانع والحقول . ولم نسمع عن كنيسة تغوي المسلمين لترك دينهم . وكنا نعيش في حي " شبرا " حيث الكنائس المنتشرة والتي تفتح أبوابها وندخل للعب في ساحتها الخلفية دون زجر من أحد أو محاولة التأثير علينا . وقد عاش المسلمون مع الأقباط على مرّ التاريخ دون حدوث ما يشير إليه " النجار " ويعتبره مؤامرة تنصيرية واضحة ويحدد أسماء لقساوسة يمارسون هذا التنصير الذي يقع تحت طائلة التحريم ويخرق القانون .

إن محاولة صب الزيت على النار , ليس مهمة العلماء , الذين يضع زغلول النجار نفسه بين زمرتهم . والعالم الحقيقي يترفع عن نشر الأكاذيب والتحريض وبث الفرقة . إن مهمته التعامل مع حقائق العلم وقوانينه , وليس ممارسة دور " الحاوي " والمخادع والمزيف .

لقد توقعت أن تنتهي بضاعة " النجار " حيث ما يدعيه عن نظرة علمية للقرآن الكريم , وعندما تتأمل ما يقوله , تجده بعيداً عن العلم ويقترب من التهريج والانزلاق في ساحة جوفاء يغلفها بمصطلحات علمية ومفردات من قاموس الجيولوجيا .

إن الدعوة الحقيقية تهتم بالسلام بين الطوائف وتحرص على بث ثقافة الإيمان , التي تدعو إلى محبة الآخرين , وليس إعلان الحرب عليهم . والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة , حديث من انجازات الدعوة الصالحة التي هدفها سلامة الأمم وليس تخريبها عبر زرع متفجرات شديدة النسف والتدمير .

الإصرار على وجود تنصير من قِبل الكنيسة القبطية وتحت رعايتها , هو تحريض مباشر . وقد عرفنا هذه الكنيسة دائماً بأنها مؤسسة مصرية ووطنية عريقة , لم تستجب حتى في أوقات الاحتلال لدعوات بفض الاشتباك والإرتباط مع المجتمع المصري , لأن الكيان القبطي من صميم البنية المصرية ولا يمكن انكار ذلك على الإطلاق .

ولأقباط مصر تاريخ مُشرف خلال الحركة الوطنية , إذ تحالفوا مع نداء الاستقلال وتخليص البلاد من قيود الاحتلال ورفضوا تماماً نهج الأسلوب الاستعماري في التعامل معهم باعتبارهم طائفة وأقلية منفصل عن نسيج الوطن . وقد كتب المؤرخون عن ذلك صراحة وخلال عملية توثيق علمية لتاريخ مصر . وقد احتضنت أحزاب ما قبل الثورة رموز أقباط الوطن , سواء في داخل " الوفد " , " حزب الشعب " أو في كيانات يسارية وأخرى ليبرالية . ما يقوله زغلول النجار خطر للغاية , ولابد التصدي له , لأنه يُشعل الحرائق ويؤجج الخصومة ويُعمق تيار الكرهية بين أبناء أمة واحدة لا يشغلها سوى معاركها الحقيقية لزرع الديمقراطية والعدل وامتصاص البطالة والتأكيد على أطر مجتمع يحمي الجميع ويحافظ على الثروة الوكنية من الإهدار والتفريط فيها لمصلحة الأجانب .

وعلى زغلول النجار أن يكف عن إشعال الحرب لأنه لن يحرق سوى نفسه , إذ يتحول من عالم يستخدم لغة العلوم إلى محرض طائفي , سيجد نفسه منبوذاً حتى من الصحف التي تفتح أمامه مساحات ليقول هذا العبث ويبث تلك السموم , التي هدفها إرهاق مصر بالحرائق والأمراض المعدية وحقنها بجراثيم لإضعاف المناعة الوطنية .