Print

 

سياسة الوزن بميزانين والكيل بمكيالين

 بقلم منير بشاى

التوازنات، والموازنات، والموائمات هي اصطلاحات ترددت كثيراً في الآونة الأخيرة، وهي جزء لا يتجزأ من الممارسات السياسية في العصر الحديث. وهذه الكلمات قد تبدو مقبولة في ظاهرها ولكنها في تطبيقها تحمل الكثير من المعاني السلبية. وقد وجدناها تستعمل حاليا لتبرير التفرقة في التعامل بين المواطنين وفرض سياسة الوزن بميزانين والكيل بمكيالين.

سياسة الوزن بميزانين تفترض أن المجتمع تسيطر عليه تيارات مختلفة تحدد مدى قبوله أو رفضه لما يطرح عليه من قضايا. فإذا كانت هناك خشية في أن قضية معينة يمكن أن تسبب صداماً في المجتمع فأنها تلغي أو تؤجل أو تُعَاد صياغتها بكيفية تراعي "التوازنات" القائمة وتضمن السلام الاجتماعي. هذا مع أن هذه القضية قد تكون شرعية مئة في المئة وعدم تنفيذها إرضاء لعناصر في المجتمع سيؤدي إلى ظلم عناصر أخرى في نفس المجتمع.

في تقرير نشر بمجلة "روز اليوسف" بتاريخ 22 يناير 2008 تقابل الدكتور "بطرس بطرس غالي" رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان مع وفد مساعدي أعضاء الكونجرس الذين زاروا المجلس، ورد على أسئلتهم حول الوضع الخاص بالأقليات والشكاوى الخاصة ببناء الكنائس، ومسألة إدراج خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي. وأكد الدكتور "بطرس بطرس" أن القانون المصري يتماشى مع المعايير الدولية فيما يتعلق بحرية الاعتقاد، وأنه ليست هناك قيود على حرية الاعتقاد. ولكنه قال "غير أن هناك بعض العوامل والاعتبارات العملية والمجتمعية قد تؤدي إلى إثارة المشاكل بين الحين والآخر" وأضاف "بالنسبة للمسألة التي تتعلق ببناء الكنائس أن هذا الأمر يحكمه إلى جانب القانون الكثير من الاعتبارات". وفي مقال نُشِرَ في جريدة المصري اليوم بتاريخ 27 فبراير 2008 يقول الدكتور "ماجد رضا بطرس" أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان "كنت أتمنى أن تكون (الإصلاحات) أسرع ولكن الظروف المحيطة لها تأثير كبير فمصر لابد أن تكون فيها توازن داخلي لأن الصدمات قد تصيبنا بخلل في الأمن الاجتماعي للدولة".

ونتيجة مراعاة هذه الاعتبارات الخاصة والتوازنات الاجتماعية وجدنا أن الأقلية القبطية ينتقص من الكثير من حقوقها ومن ذالك الحظر المفروض على بناء الكنائس لأن منظر الصليب قد يؤذي مشاعر البعض. وأدىَ هذا إلى إحالة ملف بناء الكنائس إلى الأمن للتأكد من رضا هذه العناصر المتطرفة قبل إصدار التصاريح لبناء الكنائس. وهذه العناصر المتطرفة لا يُريحها أيضاً وجود الشخصيات المسيحية في الوظائف القيادية العليا. وإرضاءاً لها أدى هذا إلى أن الأقباط الذين تبلغ نسبتهم حوالي %15 من السكان يمثلون بحوالي نصف في المئة من عدد النواب وبنسبة تتراوح بين 1،2 في المئة من وظائف القضاء والنيابة والسلك الدبلوماسي بل أن وهناك وظائف محظورة تماما على المسيحيين لأن التوازنات المجتمعية لا تسمح بها.

وهذا قد أدى إلى نتيجة مؤسفة وهي أن عنصري الأمة يُمنَحان حقوقاً تتفاوت جذرياً لأسباب لا دخل لها بالكفاءة أو المؤهلات وتنصب أساساً على جانب شخصي هو الانتماء الديني. وهكذا أصبحت المساواة على أساس المواطنة مجرد شعارات أما ما يجري على الساحة فهو سياسة الوزن بميزانين والكيل بمكيالين.

ناهيك أن عملية الوزن بميزانين والكيل بمكيالين هو ظلم صريح تدينه جميع الأديان. ففي القرآن الكريم جاء "يا قوم أوفوا المكيال بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين" (.سورة هود 85:11). وفي الكتاب المقدس جاء "لا يكون لك في كيسك أوزان مختلفة كبيرة وصغيرة. وزن صحيح وحق يكون لك ومكيال صحيح وحق يكون لك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك" تثنية  25 : 13-15. ولا أظن أن أوامر الله تقتصر في النصين السابقين على المعاملات التجارية المادية فقط. فالعدالة في التعامل مع الإنسان والمساواة بينه وبين أخيه الإنسان أهم في نظر الله من العدالة في الماديات، والله يريدنا أن نعدل في كليهما.

ولكن يبدو أن هناك فارقاً بين عدالة الأرض وعدالة السماء. فالقوي والعنيف يُعمَل له ألف حساب في هذه الدنيا ويأخذ حقه وأكثر من حقه. أما الضعيف والمُسَالم فتضيع حقوقه ولا يُعتد به إنسان.
وأنا شخصياً لا أستغرب إذا حاول القوي والعنيف والمتطرف أن يأخذ حقه ويطغي على حقوق الآخرين. ولكن الذي لا أفهمه هو قبول المسئولين لهذه السلوكيات والرضوخ لها الذي من شأنه أن يؤكدها ويرسخها. وليس هناك تفسير لهذا سوى أن المسئولين يفضلون أسهل الطرق وأقصرها للوصول إلى السلام الاجتماعي حتى ولو كان هذا الطريق سيؤدي إلى ظلم البعض الآخر من الناس.
طبعا الحل الأمثل هو أن تطبق الدولة العدالة المطلقة على الجميع ولو كَرِهَ الكارهون. وبما أنها الجهاز الأقوىَ فالمفروض أنها قادرة على التعامل مع كل العناصر التي ترفض العدالة والقانون. وللمساعدة في هذا تستطيع الدولة أن تُجنّد الإعلام لتأييدها في حملتها التي تقنع فيها كل مواطن أنه لا يوجد من هو فوق الشرعية وأن الجميع سواسية أمام القانون. ولكن لأنه الحل الأصعب فمن النادر أن نجد هذا يتحقق.

وأهم من هذا كله أن واجب الدولة أن تدرس العوامل التي أدت إلى هذا الخلل من التوازنات في المجتمع الذي نعاني منه الآن وأن تتبنىَ برنامجاً حازماً تشترك فيه كل أجهزة الدولة الدينية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية لتعود بهذا المجتمع المصري إلى توازنه الصحيح وسماحته المعهودة وتنشر ثقافة قبول الآخر المخالف في العقيدة.
أنه مشوار طويل ولكن لا بديل لنا منه إن أردنا مستقبلاً لهذا الوطن. ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة...

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.