Print

معركة ضارية لفرض الفصل التعسفي للعمال

سيد قطب يخوض معركته أيضا ضد العمال

دراسة بقلم الدكتور:رفعت السعيد  

يروي القائد النقابي المخضرم فتحي كامل أنه ذهب إلي وزارة الشئون الاجتماعية ليتفاوض مع المسئولين فيها حول تكوين اتحاد عام لنقابات العمال، وحضر الاجتماع وزير الشئون محمد فؤاد جلال والضابط عبد المنعم أمين عضو مجلس قيادة الثورة وسيد قطب، ويقول فتحي كامل أن قطب كان أكثر الحاضرين رفضاً لفكرة الاتحاد العام مؤكداً أن النقابات بحاجة أولا إلي أن تطهر صفوفها من الشيوعيين.

خاض سيد قطب معركة ضد محاولات الحركة العمالية لإلغاء المادة 39 من قانون عقد العمل الفردي والتي كانت تجيز الفصل التعسفي للعمال، وكان خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة متحمساً لهذا المطلب، وإذ ينجح سيد قطب في موقفه المعادي للعمال، يفجر خالد محيي الدين الموقف بتقديم استقالته من مجلس قيادة الثورة، وجاء فيها «إنني قد فقدت القوة الدافعة علي العمل نتيجة أنني أري أن أقل ما كانت تصبو إليه نفسي من أفكار ومبادئ لا أستطيع تنفيذها» ويؤكد علي رفضه لهذه المادة «التي أعتبرها ظلماً فادحاً علي فئة العمال التي تعتبر العمود الفقري لأي أمة تريد أن تبني مكانها اللائق بين الأمم». ويرفض مجلس قيادة الثورة الاستقالة، ويعيد النظر فيما قرره من قبل من إجازة هذه المادة، ويقرر إلغاءها. ويهزم سيد قطب مرة أخري

.
والحقيقة أن مواقف سيد قطب قد استقطبت ضده العديد من المثقفين والكتاب الذين شعروا بخطورة
دعوته إلي الديكتاتورية وحكم العسكريين ورفض الدستور وهجومه علي الفن والفنانين. فبدأت حملة هجوم ضده

.
وتنتهز مجلة الثقافة فرصة صدور طبعة جديدة من كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، لسيد قطب لتشن ضده حملة قاسية. ففي باب نقد الكتب تنشر دراسة مطولة للناقد عز الدين إسماعيل هاجم فيها سيد قطب ووجه له نقداً لاذعاً لكتبه جميعا. فهو يحذر القارئ وينبهه «إلي خدعة كبيرة، وهالة باطلة نسجها الخيال في وقت من الأوقات حول شخصية سيد قطب في حين أن أظهر ما تتسم به مؤلفاته هو الضحالة، والصحافية، وصياغة أفكار الآخرين من جديد». ويقول «وأن شئت فإرجع إلي كتابه «النقد الأدبي أصوله ومناهجه» وهناك تستطيع أن تدرك تماماً أن الكاتب أعاد أفكار ابركوبي وتشالتن ورونسون والتي سبق أن ترجمت إلي العربية، فإذا بحثت عن جديد يختص به المؤلف أعياك البحث دون جدوي. ويمضي عز الدين إسماعيل قائلا «أما الكتابان اللذان خدعنا بهما المؤلف وخيل إلينا أن فيهما من الأصالة ما ينفي عن المؤلف تلك الصفة وهما «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن» هذان الكتابان بكل أسف ليس فيهما من أصالة الفكرة شيء، فقد تلقف الأستاذ سيد قطب أصل الفكرة من الأستاذ الكبير عباس العقاد وراح يضخمها حتي ظفر من هذه الضخامة بقدر يملأ كتابين» ويقول «إن سيد قطب لا يقرأ الأصول التي تفيده في موضوعه وإنما يقف عند الكتب الثانوية دائماً، ولا يجهد نفسه في البحث في المصادر الأولي ، وإنما يكتفي بما يلتقطه من كتب الدرجة الثانية» .
ولعل هذا الاتهام الأخير يعيد إلي أذهاننا ذات الاتهام الذي سقناه في صفحات سابقة علي لسان الشيخ يوسف القرضاوي فقد اتهمه وإن بألفاظ رقيقة للغاية بذات التهمة. ولعل هذا يفسر أيضاً إنقلاب العقاد
عليه وانقلابه علي العقاد.


ونعود إلي كتاب ومثقفي هذه الفترة الذين افزعتهم دعوات سيد قطب لدعم الدكتاتورية. ونقرأ رداً لإحسان عبد القدوس يقول فيه «إننا لن نقضي علي الفساد بالقوانين الاستثنائية، ولن نقضي علي الفساد بالقوة، بل بالعكس فإن القوانين الاستثنائية والقوة تحمي الفساد وتضلل الشعب عن موطنه» وتساءل إحسان عبد القدوس «هذه القوانين التي تصدر مقيدة لحريات المفسدين لماذا لا تقابلها قوانين أخري تصدر مطلقة لحريات الصالحين؟ إن هذه القوانين المتشددة هي جهنم والله سبحانه وتعالي جعل النار للكذابين والجنة للصالحين ، وهذه هي النار فأين الجنة؟».
وعندما دعا سيد قطب إلي قيام حكم استبدادي نظيف عاد للرد عليه إحسان عبد القدوس «أنا لا أؤمن بالأكذوبة اللفظية التي تتغني بالمستبد العادل، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا مادام مستبداً، والعادل لا يمكن أن يكون مستبداً ما دام عادلا».


ولكن وبرغم هذه الهجمات التي شنها المثقفون والكتاب الليبراليون ضد سيد قطب- وربما بسببها- نجح سيد قطب في أن يفترش مساحة كبيرة من النفوذ لدي رجال يوليو. وكان له مكتب خاص في مبني مجلس قيادة الثورة. وأوكلت الثورة إليه هو وسعيد العريان مهمة تغيير مناهج التعليم لتتلاءم مع معطيات ومواقف العهد الجديد، وملأت أشعاره وأناشيده الكتب المدرسية وخاصة كتب المطالعة.
ولا يبقي في هذا المجال سوي أن نتوقف لنتأمل عبارة كتبها سيد قطب مطالباً باختفاء كل شخص حامت حوله مجرد الشكوك ويقول «لئن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة تذبل وتموت».

لإحسان عبد القدوس يقول فيه «إننا لن نقضي علي الفساد بالقوانين الاستثنائية، ولن نقضي علي الفساد بالقوة، بل بالعكس فإن القوانين الاستثنائية والقوة تحمي الفساد وتضلل الشعب عن موطنه» وتساءل إحسان عبد القدوس «هذه القوانين التي تصدر مقيدة لحريات المفسدين لماذا لا تقابلها قوانين أخري تصدر مطلقة لحريات الصالحين؟ إن هذه القوانين المتشددة هي جهنم والله سبحانه وتعالي جعل النار للكذابين والجنة للصالحين ، وهذه هي النار فأين الجنة؟».
وعندما دعا سيد قطب إلي قيام حكم استبدادي نظيف عاد للرد عليه إحسان عبد القدوس «أنا لا أؤمن بالأكذوبة اللفظية التي تتغني بالمستبد العادل، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا مادام مستبداً، والعادل لا يمكن أن يكون مستبداً ما دام عادلا».

لإحسان عبد القدوس يقول فيه «إننا لن نقضي علي الفساد بالقوانين الاستثنائية، ولن نقضي علي الفساد بالقوة، بل بالعكس فإن القوانين الاستثنائية والقوة تحمي الفساد وتضلل الشعب عن موطنه» وتساءل إحسان عبد القدوس «هذه القوانين التي تصدر مقيدة لحريات المفسدين لماذا لا تقابلها قوانين أخري تصدر مطلقة لحريات الصالحين؟ إن هذه القوانين المتشددة هي جهنم والله سبحانه وتعالي جعل النار للكذابين والجنة للصالحين ، وهذه هي النار فأين الجنة؟».
وعندما دعا سيد قطب إلي قيام حكم استبدادي نظيف عاد للرد عليه إحسان عبد القدوس «أنا لا أؤمن بالأكذوبة اللفظية التي تتغني بالمستبد العادل، فالمستبد لا يمكن أن يكون عادلا مادام مستبداً، والعادل لا يمكن أن يكون مستبداً ما دام عادلا».

ولكن وبرغم هذه الهجمات التي شنها المثقفون والكتاب الليبراليون ضد سيد قطب- وربما بسببها- نجح سيد قطب في أن يفترش مساحة كبيرة من النفوذ لدي رجال يوليو. وكان له مكتب خاص في مبني مجلس قيادة الثورة. وأوكلت الثورة إليه هو وسعيد العريان مهمة تغيير مناهج التعليم لتتلاءم مع معطيات ومواقف العهد الجديد، وملأت أشعاره وأناشيده الكتب المدرسية وخاصة كتب المطالعة.
ولا يبقي في هذا المجال سوي أن نتوقف لنتأمل عبارة كتبها سيد قطب مطالباً باختفاء كل شخص حامت حوله مجرد الشكوك ويقول «لئن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة تذبل وتموت».


نتأمل، ونستعيد صورة سيد قطب السجين والمحكوم عليه بالإعدام ونسأل أنفسنا تري هل طافت هذه الألفاظ بمخيلته وهو يواجه المحنة؟
ويبقي أن نشير إلي أن من أعادوا تجميع كتابات سيد قطب وأصدروها في كتب عدة، قد تجاهلوا تماما كل كتاباته دفاعاً عن ثورة يوليو، وكأنها لم تكن. لكن ذاكرة التاريخ أقوي من أي تجاهل. فهي لا تنسي ما قد كتب في الصحف. وما قد حدث في الواقع.



ثم نأتي إلي ما هو مهم. إلي قمة جبل الجليد من كتابات سيد قطب. فإذا كان الجميع تقريبا، سواء مريديه وأتباعه الذين تجاهلوا كل ما سبق من كتاباته عن مرحلة «الإسلاميات» حرصاً منهم علي أن تظل صورة الفقيه المتبوع نقية من أية شوائب ليبرالية أو علمانية أو حتي أدبية، وإذا كان هو نفسه قد تجاهلها لدي إعداده للطبعة الثانية من الجزء الأول وحتي الجزء الثالث عشر لكتابه «في ظلال القرآن» حيث أورد عناوين كتبه التي أحب، وتجاهل كل ما سبق مرحلة الإسلاميات.. وإذا كان خصوم سيد قطب تجاهلوها كذلك ضنا عليه بأية سمة من الليبرالية أو التقدمية، مكتفين بما يستحق شجبهم وإدانتهم. فإننا قد أوردنا ما سبق من كتابات تسبق إسلامياته أو تغايرها لتكون الكتابة أمينة وتكون صورة الرجل كاملة. وهذا هو حق الرجل وحق الكتابة التاريخية.


لكن الخوض في «إسلاميات» سيد قطب أمر بالغ الصعوبة، فالرجل كثير الكتابة، وما أن تصل فكرة ما إلي عقله أو قلبه حتي تهطل الكلمات من قلم لا يتوقف. (ولقد رأينا كنموذج كتاباته في تأييد أو - بالدقة- تحريض قادة ثورة يوليو في أوائل أيامهم، وكيف كانت مقالاته تهطل يوميا وربما أمطر القراء بمقالين أو ثلاث في صحف مختلفة في اليوم الواحد).


لكننا مجبرون علي مراجعة بعض من هذه الكتابات ليس فقط لتكون الصورة كاملة، والتصور كذلك، وإنما لأنه حتي الاتباع والمريدين، الذين أسموا أنفسهم، أو ألصقت بهم صفة «القطبيون» تجاوزوا كثيراً من إسلامياته المبكرة والوسيطة واكتفوا وفقط وفي كثير من الأحيان بكتابه الأخير «معالم في الطريق» وهو بإجماع الباحثين أقل كتبه شأنا من الناحية العلمية والفقهية. وإن كان أعلاها نبرة، وأشدها غلواً، وأكثرها تأسلما. ولعلهم فضلوه علي غيره من كتابات إمامهم لهذا السبب بالذات. لكننا سنحاول أن نغوص ولو بأقل قدر في بعض إسلاميات الرجل لسبب إضافي هو محاولة إيضاح فرضية نأخذ نحن بها وهي أن كتاب المعالم لم يكن بداية الجملة المتطرفة والمتأسلمة في كتابات سيد قطب وإنما كان وفقط مجرد تعبير سياسي غاضب وساخط لما جاء سابقاً عليه.
وقبل أن نبدأ نود أن نشير إلي عنوان هذا الفصل، فقد اتخذناه بافتراض صحة ما نعتقد من أن فكر سيد قطب ليس سوي امتداد منطقي لفكر جماعة الإخوان، أو هو ذات الفكر وإنما بلا خفاء ولا تستر ولا مداهنة.


ويتفق معنا الكثيرون حتي من الإخوان أنفسهم في ذلك (راجع ما أوردناه عن كتابات صفوت منصور، وصلاح شادي، وزينب الغزالي في صفحات سابقة). لكننا سنورد رأيا مكملا لواحد من أقرب الباحثين إلي فكر سيد قطب، وأكثرهم تعاطفا معه وهو الأستاذ محمد توفيق بركات.


إذ يقول «ومن الناحية الفكرية فلا ريب أن سيد قطب يمثل - في رأينا- قمة النضج الفكري عند الإخوان المسلمين، بحيث يمكن أن يعتبر ظاهرة خاصة لها طابعها المميز، ولا يعتبر مجرد استمرار لمدرسة البنا الفكرية أو تلميذ متخرج منها» ويقول «نعم إن سيد قطب استفاد من فكر الإخوان المسلمين الذي غذاه البنا ونماه، ويحتمل كثيرا أننا لم نكن لنجد سيد قطب المفكر المسلم لولا الإخوان المسلمين ولولا البنا، ولكن ذلك لا يعني أنه كان تلميذاً نجيباً فحسب، بل هو مجدد حقيقي في مدرسة الشهيد البنا». وإذا كان البعض قد حاول التمييز القاطع بين فكر الإخوان وفكر سيد قطب فإنه ينجح في ذلك فقط إذا ما تجاهل كثيراً من كتابات الأستاذ البنا وغيره من مفكري جماعة الإخوان.
«وجيل كيبل» يبحث عن الفوارق بين البنا وقطب فيقول «كان تعبير الجاهلية كوصف للمجتمع القائم هو الإضافة الفكرية التي أضافها سيد قطب وجعلته ينفصل عن المعتقدات التقليدية للإخوان المسلمين».


ويقول باحث آخر «كانت فكرة المفاصلة والعزلة عن المجتمع الجاهلي هي إحدي الإضافات الخطيرة والحادة التي أضافها سيد قطب لفكر جماعة الإخوان» .
علي أننا إذا ما تجاوزنا المغايرة اللفظية في ألفاظ مثل «الجاهلية» و«المفاصلة» وتجولنا بحرص وتدقيق في فكر جماعة الإخوان نكتشف أن قطب قد شرب حتي الثمالة من ذات النبع.. نبع جماعة الإخوان.


فالأستاذ حسن البنا يحدد في «رسالة التعاليم» واجبات الأخ المجاهد وعددها 38 واجبا.. الواجب 25 منها يأمر الأخ «أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة» وفي البند 37 يأمره «أن تتخلي عن صلتك بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك».
هذا عن فكرة المفاصلة. أما عن التكفير والجاهلية وما إلي ذلك فإننا نقرأ للأستاذ عبد القادر عودة «من الأمثلة الظاهرة علي الكفر بالامتناع في عصرنا الحالي الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبيق القوانين الوضعية بدلا منها، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزني لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعاً». والمفكر الإخواني د. علي جريشة يقول هو أيضاً «ولا خلاف في جهاد من منع بعض شريعة الله، وأولي به من منع كل الشريعة، والقعود عن الجهاد تهلكة نهي الله عنها»

.
إنه ذات النبع الإخواني المريرة مياهه، أليس كذلك؟
ونحاول بعد ذلك أن نقدم مطالعة سريعة لبعض ما كتب سيد قطب.
ولعله من الجدير بالملاحظة أن إسلامياته قد بدأت معتدلة هادئة ومفعمة بالمطالبة بالعدل الاجتماعي ففي 1948 يكتب «وظيفتنا أن نحرر هؤلاء العبيد جميعا، عبيد الشيوعية والفاشية والرأسمالية والإباحية، وظيفتنا أن نطلب العدالة الاجتماعية، وسنقول في مظالم المجتمع ما لا يجرؤ الشيوعيون في مصر علي قوله لكننا لن نكون شيوعيين، وظيفتنا أن نفضح مطامع روسيا في الشرق العربي وخيانتها للعرب، ولكننا لن نكون دعاة للاستعمار، وظيفتنا أن نورث الأحقاد المقدسة ضد الانجليز، وضد الأمريكان، وضد الاستعمار في كل مكان ، ولكننا لن نكون ذيلا للروس. وظيفتنا أن نثير الاشمئزاز ضد الإباحية والتبذل والانحلال الفرنسي والأوربي عامة، ولكننا لن نكون جامدين ولا متزمتين».
ولأن فكرة العدل الاجتماعي كانت تتألق في الوجدان المصري في نهايات الأربعينيات، ولأنها جذبت إلي ساحتها الكثير من المفكرين والكتاب والسياسيين، فإن سيد قطب- وكان هذا طبيعيا- قد تلامس معها بالضرورة.


وهو كعادته ما أن تستهويه فكرة أو موقف أو رؤية حتي يتجه إليها بكليته، ينقض عليها ليشبعها كتابة.
وأصدر سيد قطب وهو في أمريكا(1949) كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» وجاء الإهداء لافتا للنظر «إلي الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديداً كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لايخافون لومة لائم» وفهم البعض من الإخوان (الذين كانوا يعانون آنذاك محنة الحل والسجن والتعذيب) إنه يقصدهم فاقتربوا منه. لكنه علي أية حال نفي ذلك في إقراره الذي دونه بخطه في السجن الحربي. و إن كان قد أقر بأن عدداً منهم بدأ في زيارته بعد عودته من أمريكا. لكن كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» حمل في طياته الكثير من بذور وأجنة التطرف والتي تولد منها فكرة الأخير.
ولهذا فإننا سنعود إليه فيما بعد.


ونأتي إلي صيحته الاجتماعية والمجتمعية التي رأت في الإسلام دينا للفقراء، واتخذت سمتاً تقدمياً واضحاً يستحق التقدير والاعجاب في آن واحد

.
ونقرأ «أن هذا الوضع الاجتماعي السيئ الذي تعانيه الجماهير المصرية غير قابل للبقاء والاستمرار، ولا يحمل عنصراً واحداً من عناصر البقاء، أن صوتاً سيرتفع بعد ذلك كله ولن يمكن إسكاته أبداً، صوت المعدات الخاوية التي تملأ جنبات هذا الوادي، صوت الملايين التي تبذل العرق والدماء ولا تنال مقابلها لقمة خبز جافة ولا خرقة كساء متواضعة».. ثم يتساءل «من ذا الذي يستطيع أن يقول إن وضعاً اجتماعياً تلك ثماره المتعفنة الخبيثة يمكن أن يدوم مهما أقيمت له الدساتير المنتحلة من فتاوي المحترفين أو مقالات المأجورين، أو عسف الطغاة المستغلين» ثم يعلو صوته كعادته «إني أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تهدر الكرامة الإنسانية، وتقضي علي كل حقوق الإنسان» ثم أكد

«أن الأوضاع الاجتماعية القائمة مناقضة في جملتها وتفصيلها لروح الدين».
ثم يقول «إن بعض الباشوات أصحاب الكروش يتحدثون بين الحين والحين عن العدالة الاجتماعية وعن الطبقات المحرومة وعن ضرورة تحسين الأحوال. وكثير هم الباشوات الذين يطلقون للعدالة الاجتماعية البخور في هذه الإيام، إذ كان ذلك ألطف مخدر للجماهير الكادحة يهدئ أعصابها ويسيل لعابها ويمنيها بالعدل الاجتماعي الذي لا تكافح من أجله وحدها بل يكافح معها الباشوات العظام، فما عليها إلا أن تستريح وتستبشر وتنام، لكن شيئاً من ذلك لن يجدي فتيلا فالطبيعة والحياة والدين والحضارة الإنسانية والاقتصاد والعقل ضدها جميعاً، إنما هي تعلات فارغة ذاهبة مع الريح والهواء». ونذكر - فقط ودون أية محاولة للتشكيك - إنه في هذه الفترة بالذات عاد أحمد حسين باشا من أمريكا ليبشر بالعدالة الاجتماعية كضمان ضد الشيوعية وليؤسس في صخب جمعية أسماها «جمعية الفلاح».


ونواصل رحلتنا مع سيد قطب الآخر الذي لا يعرفه الناس، أو بالدقة الذي تعمد تابعوه وخصومه معا إلا يعرفه الناس معرفة متكاملة.. ونقرأ في كتابه «التصوير الفني في القرآن » كيف إنه غرق في كتب التفسير لكنه لم يجد فيها ذلك القرآن اللذيذ الذي كان يجده في طفولته وصباه..ولهذا عاد ليقرأ القرآن في صفاء «ووجدت قرآني الجميل الحبيب.. لقد تغير فهمي له، فعدت إليه الآن أرتل آياته وأجد مراميها وأغراضها، وأعرف أنها مثل يضرب لا حادث يقع. الحمد لله لقد وجدت القرآن».
إن العبارة الأخيرة ذات قيمة بالغة، ولقد تمر علي القارئ دون أن تستوقفه، لكنها يتعين عليها أن تستوقفنا. فهي لا تأخذ بمدرسة الفهم النصي للقرآن وما تمترس فيه وحوله سيد قطب فيما بعد، وتمترس فيه وحوله كل «القطبيين» وغيرهم من المتأسلمين، إنه يقرر أنه فهم الآيات ووجد «مراميها وأغراضها وعرف أنها مثل يضرب وحادث يقع» أنه فهم آخر ومدرسة أخري لا تأخذ بالتفسير النصي وإنما بأسباب النزول.


وهو متحرر من فكرة «الزي الإسلامي الخاص» ويقول «حتي تلك الأزياء الخاصة للمشايخ والدراويش أنها ليست شيئاً في الدين فليس هناك زي إسلامي وزي غير إسلامي، والإسلام لم يعين للناس لباساً، فالملبس مسألة إقليمية ومجرد عادة تاريخية، ومحمد بن عبد الله لم يلبس جبة وقفطانا وكاكولة، وإنما لبس ثيابه العربية التي كان يلبسها قومه وجيله. كذلك لبس المسلمون في فارس ثيابهم الفارسية، والمسلمون في مصر ثيابهم المصرية».
ولم تكن معركته ضد الزي الأزهري وحده، بل ضد الفكر الذي كان يروج من الأزهريين إذ ذاك. ونقرأ له «أما أنت أيها الأزهر، فقد أضعت الدين، وأفسدت الدنيا بسكوتك المريب علي مفاسد المجتمع ومظالمه».
بل هو يشن هجومه علي «هيئة كبار العلماء» قائلا «أصدرت هيئة كبار العلماء عريضة مرفوعة إلي رئيس الوزراء تتحدث عن فزع كبار العلماء من الفجور والمجون، ومن حفلات ماجنة خليعة يختلط فيها الرجال والنساء، إلي أندية يباح فيها القمار ، إلي شواطئ في الصيف يخلع فيها العذار ويطغي فيها الفجار» ويمضي سيد قطب قائلا «وي، وي أو هذا هكذا أيها العلماء الأجلاء؟ يا سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حقا أنه أمر جليل يوجب النقمة ويستوجب اللعنة، ولكن وقد قدر لشفاهكم الشريفة أن تنفرج عن كلام في المجتمع أفما كانت هناك كلمة واحدة تقال عن المظالم الاجتماعية الفاشية وعن رأي الإسلام في الحكم، ورأيه في المال، ورأيه في الفوارق الاجتماعية التي لا تطاق ؟» وما الذي كنتم تنتظرونه أيها السادة الأجلاء من أوضاعنا الاجتماعية التي تجد منكم السند والنصير، والتي يصيبكم البكم فلا تشيرون إليها من قريب أو بعيد لأن السكوت عليها من ذهب، ذهب إبريز».


أما موقفه من ابناء الديانات الأخري فإنه يتبدي موقفاً ليبرالياً حريصاً علي احترامهم وعلي التآخي معهم.. فهو يكتب عن فترة وجوده في أمريكا قائلا «كنت ذات ليلة في إحدي الكنائس ببلدة جربلي بولاية كولورادو فقد كنت عضوا في ناديها، كما كنت عضواً في عدة نواد كنسية في كل جهة عشت فيها» ونقارن بين هذا المقال الذي كتب في 19/11/1951، وبين موقفه المتعنت إزاء المسيحيين في كتاب «معالم في الطريق»، لندهش من المسافة التي قطعها سيد قطب في طريق التطرف.


وفي كتابه «نحو مجتمع إسلامي» نقرأ «أن الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي ليست الصور النهائية لهذا المجتمع، بل هناك صور متجددة أبداً، فكيف إذا لفكرة ثابتة أن تواجه حاجات وأصولاً مجددة؟ وكيف يمكن لهذه الحاجات والأحوال أن تتحرك وتنمو في ظل فكرة ثابتة؟» ثم يقول «إن تشريعات الفقه كانت تلبية لحاجات زمنها، وأي نقل منها من زمن لفرضها علي زمن آخر ليس من شرع الله، ولا من عمل رسول الله (صلعم) فهي لا تحصل إلا للاسترشاد والاستشهاد بها في الحالات المشابهة التي تشهدها الأجيال المتجددة، ولكنه لا يبلغ حد الالزام المطلق لأنه مجرد رأي بشري في شريعة الله، وليس جزءاً من الشريعة الثابتة الصادرة من الله» ويقول «أما فيما يتعلق بالمجتمع وأطواره فإن الصورة التاريخية للمجتمع الإسلامي لا تحدد ولا تستوعب كل الصور الممكنة للمجتمع الإسلامي ولكل جيل أن يبدع نظمه الاجتماعية في حدود المبادئ الإسلامية وأن يلبي حاجات زمانه ياجتهادات فقهية قائمة علي الأصول الكلية للشريعة». ويقول : «الفقه من صنع البشر استمدوه من فهمهم وتفسيرهم للشريعة، الشريعة ثابتة والفقه متغير» ثم «ويمكن التجاوز عن الفقه».


ويواصل «لقد استمر نمو الفقه الإسلامي وتطوره إلي نحو القرن الثامن بعد انتقال الرسول (صلعم) إلي الرفيق الأعلي، وكان في نموه وتطوره متابعاً لنمو المجتمع الإسلامي وتطوره، وملبيا لحاجاته المتجددة بسبب بروز تلك الحاجات. ثم ركد الفقه تبعا لركود المجتمع الإسلامي. حتي إذا قفزت الحياة قفزاتها الواسعة في القرون الثلاثة الأخيرة وتجدد المجتمع الإسلامي لم يكن الفقه الإسلامي علي استعداد لمسايرة الحياة المتوثبة، وبذلك وجدت فجوة تاريخية ضخمة في تسلسل هذا الفقه ومسايرته للحياة الجديدة وحاجاتها التي تضاعفت أضعافاً كثيرة»

.
ثم هو يؤكد «لقد انتهت الحضارة الأوربية - الأمريكية إلي أن تقصر همها علي إنتاج المصانع أما في حقل المبادئ فأنها ظلت تجتر مبادئ الثورة الفرنسية التي فقدت مدلولها، فتحولت الحرية الشخصية إلي حرية استغلال رأس المال للطبقات العاملة أو تحولت إلي حرية الشهوة الغريزية، والإخاء تحول بفضل الاستعمار إلي استنزاف للشعوب المقهورة والمساواة لا يمكن تحقيقها في عالم مادي حين تختل الموازين الاقتصادية وحين ينقسم الناس إلي ملاك ورأسماليين في جانب، وعمال ضعفاء في جانب آخر»


ثم .. «ومع انحسار الشيوعية والحضارة الغربية فإن قيادة البشرية صائرة إلي الإسلام».
إنه يؤكد الحاجة إلي فقه جديد يتمشي مع المعطيات الجديدة، أو بالدقة إلي فقه يتجدد دوما، وهذا إيجابي. وهو ينعي علي الحضارة الغربية خلوها من النزعة الإنسانية وافتتانها وفقط بالتقدم التكنولوجي، وهذا صحيح لكننا لا نلبث فيما بعد أن نجد أن مياها أخري جري تسريبها إلي هذه القنوات فالتجديد في الفقه أصبح يعني العودة أربعة عشر قرنا إلي الخلف، ونقد الحضارة الغربية تحول إلي جعلها هي وكل الدول الإسلامية التي تتعامل مع معطيات هذه الحضارة ديار حرب جاهلية.
لكننا بهذا نسبق الحدث ونسبق الحديث.


فإن سيد قطب ومنذ هذه البدايات أصبح يسير بالقارئ في طريق ثم لا يلبث أن ينحني به عكس ما يتوصل إليه القارئ من معان.. والنماذج لذلك عديدة نختار واحداً منها. ففي كتابه «السلام العالمي والإسلام» نقرأ «الإسلام يبدأ محاولة السلام أولا في ضمير الفرد، ثم في محيط الأسرة، ثم في وسط الجماعة، وأخيراً يحاول في الميدان الدولي بين الأمم والشعوب. أنه ينشد السلام في علاقة الطائفة بالطوائف، وفي علاقة الأفراد بالحكومات ثم ينشده في علاقة الدولة بالدول الأخري. وأنه ليسير في تحقيق هذه الغاية الأخيرة في طريق طويل يعبر فيه من سلام الضمير، إلي سلام البيت، إلي سلام المجتمع، إلي سلام العالم في نهاية المطاف».


ونوشك أن نصفق اعجاباً بهذا الفهم السمح والمعتدل للإسلام لكنه لا يلبث أن يقفز بنا إلي الحديث عن «ضرورة الجهاد لحماية المؤمنين ونشر الدعوة والقضاء علي أي ظلم في الأرض حتي تسود الحاكمية وتتحقق ربوبية الله في الأرض».


إنها رائحة معالم في الطريق. أليس كذلك؟


ولا نملك إلا أن نتعقب تلك الرائحة، لنجد لها بدايات وأجنة في كتابات لقطب تعود إلي نهاية الأربعينيات.
ففي كتابه «المستقبل لهذا الدين» نقرأ موقفا متشدداً ضد الحضارة الغربية، كل الحضارة الغربية «إن الحضارة الغربية استنفدت أغراضها، ولم يعد لها ما تعطيه للبشرية من قيم تصلح لبقائها ورقيها، لقد أصيبت بالعقم، وهي نبت شيطاني وتحمل في طياتها عوامل انهيارها

».
وكان مثل هذا الهجوم علي مطلق الحضارة الغربية سمة لأعداء حركة التجديد، تلك الحركة التي سبق أن خاض قطب معركة الدفاع عنها في الثلاثينيات واتهم بسبب دفاعه هذا بالكفر.