Print

إعــلان الدولـــة الدينيـــة

    وائـل عـبد الفـتاح   

Al-Fagr News Paper      

هل أعلنت الدولة الدينية في مصر الأسبوع الماضي..؟

 

تبدو الامور منذ تصريحات فاروق حسني حول الحجاب حتي الآن وكأنها بروفة اولي لقيام دولة دينية علي موديل المملكة العربية السعودية.الدولة الدينية هي دولة الرأي الواحد.والثقافة الواحدة.دولة القبيلة التي تحكم باسم الدين.حكامها آلهة او وكلاء لله.. يتسلحون بالآيات المقدسة لاخضاع الناس.الحكام في الدولة الدينية لا يناقشون.... يستلهمون شرعيتهم من علاقة خرافية بالله أو بالنبي.كلامهم لايرد.والجماهير في الدولة الدينية حشود جاهلة تسير وراء الصوت العالي و تهز رءوسها في حلقات الذكر.... غير مسموح لها بالتفكير.

كتلة عمياء تسير بدون وعي وراء مجموعة من الحواة والسحرة يملكون القدرة علي اقتياد الجماهير حتي الي الجحيم.ولم يكن ينقص النظام في مصر الا ما حدث الاسبوع الماضي لتكتمل شروط الدولة الدينية.الدولة الدينية بخليط من حكم تنظيم المطوعين الذين يفرضون الشكل الواحد والأخلاق الواحدة علي الجميع تحت إرهاب الصوت العالي والتهديد بالخروج من الجماعة الي غربة ونشوز عن الكتلة المتشابهة.انها دولة التشابه.لا اختلاف فيها.لا حرية شخصية.لم يكن ينقص النظام إلا ان يطلق نجومه الكبار اللحي ويتكلمون باسم الله و الرسول في مسرحية من تأليف واخراج وتمثيل نجوم الحزب الحاكم.انهم نجوم منتخب الفساد الذي يحكم مصر تحت اسم الحزب الوطني.عقيدتهم الوحيدة هي الاستمرار في السلطة.

يرتدون البدلة العسكرية في دولة الجنرالات.ويخلعونها مع موضة الدولة المدنية.ويفصلون الآن عباءات وجلاليب باكستاني لزوم موضة العصر السعيد.عصر زهوة الاخوان كحلم للتخلص من دولة لا هي مدنية ولا هي عسكرية ... لا هي حديثة ولا هي قديمة.. دولة " خليط ".. مهزومة و فاشلة .

هل يحكم الاخوان مصر من الباطن..؟الدكتور محمد حبيب اعلن في الجامعة الامريكية يوم الثلاثاء: سنحكم مصر ان عاجلا او اجلا..لان الامة تريدنا.نائب المرشد كان يتحدث بلهجة هادئة.وفي حوار تديره فتاة جميلة مثقفة هي رباب المهدي خبيرة بموضوعها عن الحركات الاسلامية. لا تضع الحجاب علي راسها.كان لطيفا وفي مزاج الدولة المدنية تحدث عن حق الاقباط في المناصب السياسية و استثني منها الرئاسة.

ولم يستخدم الاسانيد الشرعية(فهو يتحدث مع جمهور مدني لا يهتز من الشعارات الدينية كما لا يمنع ذكر النصوص ..قدرته علي التفكير)..استخدم ردا عمليا قال:"..لن ينجح بالطبع مرشح قبطي في دولة اغلبيتها مسلمة..".رد مقبول .وطريقة ذكية في معرفة الجمهور و تغيير الخطاب حسب مزاج القاعة.الاخوان يلعبون لعبة انهم البديل.والبديل " الاسلامي".اي المستوحي من الدين.والدين مهم بالنسبة للمصريين عموما .

ارتفعت اهميته عندما هزمت الدولة الحديثة اولا في ظهيرة يونيو 1967 و دائما بصعود ثروة البترول من تحت الارض في دولة لم تكن اكثر من قبيلة.الثروة استقرت في دولة دينية.وافواج المهاجرين المصريين الي ثروة البترول هاجرت معهم احلامهم و صورتهم عن الحياة التي يباركها الله.فعادوا بنموذج الدولة ونموذج الزي.. ونموذج العلاقات.عادوا ممزقين بين ثقافة مصرية.. تعترف بالتعدد في الدين والثقافة...وثقافة بدوية من الحجاز لا تعرف سوي المذهب الواحد والثقافة الواحدة والصورة الواحدة.

وهذا كان انتصاراً للاخوان والجماعات التي خرجت من عباءتها... جاء هدية من الدولة التي تكونت بتحالف بين عائلة سعود ..وعائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.تحالف يمنح السلطة الدينية للوهابيين.. والسلطة السياسية للسعوديين.الاخوان حاولوا لعب الدور علنيا مع السادات.لكنهم نجحوا مع مبارك.ولكن من الباطن.

لم يظهر الحجاب في مصر قبل سنة 1977.اول محجبة رأيتها كانت صدمة.كانت عائدة من الخليج.وكانت غريبة علي مجتمع ترتدي النساء فيه ملابس عصرية.لافرق بين مسلمة ومسيحية.هل ظهر الاسلام في مصر مع الحجاب..؟!هل لم يكن هناك مسلمون مصريون قبل ان تضع النساء قطعة قماش علي الرأس...؟الحقيقة ان الحجاب ليس رمز الاسلام كما يتوهم البعض.بل رمز جماعات تريد الحكم باسم الاسلام. تريد العروش تحت راية الدين.

وهي نجحت في ذلك واصبح الاخوان يحكمون بالريموت كنترول.يلعبون علي التناقضات التي خرجت بعد هزيمة موديل الضباط. ويتحركون علي ارض صنعها الوهم الساحر وغذتها فكرة الاحساس بالذنب لدي الكتلة العريضة التي تجد نفسها في مواجهة الحاح كبير يفسر الاوضاع الحالية علي انها نتيجة "الابتعاد عن الدين ". وبدا أن الحركات الاصولية " الإسلامية " (بداية من الاخوان المسلمين وحتي الجهاد و ما بينهما من تنظيمات استفادت من الهوجة) استغلت الهزيمة (العسكرية في يونيو 1967 وما تلاها من الانفتاح و الحلم الامريكي في السبعينيات) وسحبت المجتمع الي مملكة " الوهم " حيث التفسير المريح لكل مشاكلنا السياسية والاجتماعية بأنها "عقاب الهي ".. ليدخل المجتمع في حالة نادرة من الشعور بالعار من كل ما حلم به (الدولة الحديثة القوية - العدالة الاجتماعية - المساواة علي أساس المواطنة) ولتترجم تنظيمات الاصولية هذا الشعور الي حسابات جارية في بنك الصراع السياسي حتي تصل الي اعادة صياغة المجتمع علي هواها من الأفكار والعلاقات الي الأزياء وشكل الوجوه.

من هنا عاد الحجاب الذي خلعته هدي شعراوي في محطة القطار لحظة عودتها من روما رمزا لتحرر المرأة وخروجها من كهف القرون الوسطي.عاد بالتدريج .اولا كشعار سياسي لجمهور الحركات الأصولية الواسع والممتد في الجامعات والمصالح الحكومية. جمهور محبط من انظمة تقهره وتوعده بالخروج من عنق الزجاجة وهي تغلقها عليه.

كان الحجاب وقتها معركة علي قطعة قماش هي علامة ورمز قبل ان تصعد موجات التدين الفردي بعيدا عن التنظيمات. تدين فردي. وفي بعض الاحيان بديل عن نماذج التحرر الموجودة في امريكا واوروبا نفسها . انه احتماء بما يراه الشخص القلق خاصاً في بيئته . وتحرر عن نموذج يراه سائدا. وهذا المزيج من الاحتماء والتحرر هو الشكل العصري لتناقضات قائمة منذ 200 سنة بيننا وبين المجتمعات الحديثة . لكنها الان علي اية حال تناقضات اخف . اقل تطرفا .

والحجاب هنا لم يعد شارة دينية او سياسية او حتي دليلاً علي تخلف او رغبة في الرجوع للوراء (فقط) كما كان في السبعينيات وحتي التسعينيات.ربما هو اعلان فردي عن رفض التورط في "الحرام " السياسي و الاجتماعي . وربما هو خيمة شخصية يجمع فيها شخص ما شتات نفسه الضائعة في مجتمع مفكك . او خيمة عمومية مثل التي تقام لحظات الاوبئة والكوارث الكبري.

هل الحجاب هو بديل الميني جيب..؟ليس صحيحا بالطبع.كما انه ليس الفرض السادس في الاسلام.انه اختيار شخصي.والمشكلة ليست فيه او في الموديل الذي تختاره امراة من موديلاته الحديثة.لكن في ان يكون الموديل الوحيد.ان يكون علامة الايمان الوحيدة . علامة الفصل العنصري بين المسلمين والمسيحيين. او بين المسلمين المنصاعين لرأي المجموع. والمسلمين الخارجين عن الطوابير والكتل العمياء.الحجاب مشكلة اذا تحول الي رمز للايمان والاسلام.وهي لعبة سياسية تختبر قدرة الجماعات الاصولية وعلي رأسها الاخوان علي التاثير وصناعة صورة سكان مصر علي هواها.والناس كما اطاعت السلطة من عبد الناصر الي الان.. تطيع الاخوان الان.. ويرددون كلاما لم يفكروا به.هل صحيح ان الحجاب (وهو لم يذكر ابدا في القرآن) فرض علي نساء الاسلام ام كان علامة تمييز لنساء النبي محمد..تمييز اجتماعي كان يحدث قبل الاسلام بين النساء السادة...والنساء العبيد ..؟اي انه علامة تمييز لصالح الطبقة العليا...وليس علامة لا علي الاخلاق ولا التدين ولا الايمان..؟وهل الحجاب زي اسلامي..؟.. ام ماخوذ من عقائد و ثقافات اخري.. من اليهودية الي المجوس..ولم ينتشر في البلاد الاسلامية إلا مع ظهور المملكة السعودية التي خضعت لفكرة ان الحياة الحديثة ضد الاسلام.. وان الاسلام لم يخلق الا ليثبت شكل الحياة في الجزيرة العربية ايام الرسول والصحابة.. وهي رؤية متخلفة.. ضد تصور ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان.. فهذه المقولة لا تعني ان الاسلام موديل واحد ونموذج واحد.. تعني انه يتوافق مع تغير الاماكن و الازمنة...؟

لم يفكر هتيفة الحجاب..والغاضبون من تصريحات فاروق حسني في هذه الاسئلة.وهذا يخصهم وحدهم.ما يخصنا انهم حولوا الحجاب الي قضية كبيرة.وهو موضوع تافه ومتخلف.. ويعبر عن شيزوفرينيا المجتمع اكثر مما يعبر عن ايمانه وتقواه.فالمجتمع الذي يريد حماية الجسد.. تحت قطعة القماش.. لم يهتز عندما نشرنا قبل اسبوعين انتهاك جسد رجل كامل الرجولة في قسم بوليس..واغتصابه بادخال عصا في مؤخرته.مجتمع لم يهتز و يخرج مظاهرات غضب من انتهاك الجسد و الكرامة الي هذا الحد.هل هي هستيريا الهوس الديني؟ام هي دوران العجلة باتجاه معاكس.كيف اصبحت تغطية النساء قضية حياة او موت لجموع مهزومة.. بعد ان كان خروج المراة و الكشف عن وجهها وحريتها معا اول بشائر النهضة والحرية؟!يغلي الدم في العروق دفاعا عن قطعة قماش " تحجب " النساء خلفها.لم تغل الدماء وتخرج المظاهرات دفاعا عن حقنا في فرصة للتعليم الجيد و مساحة للذكاء والموهبة في ظل انظمة تسرق الروح ضمن سرقتها العمومية للمجتمعات والدول. لم نتظاهر دفاعا عن رغبتنا مشاركة العالم صناعة حضارة نغني اناشيد حماسية حول اننا اول من اسسها.

لم نحتج علي ضياع فرصة مساهمتنا في تغيير البشرية بالعلم. ولم نغضب لاننا نستهلك حضارة نلعن اصحابها ونرضي بظلم سياسي واجتماعي واقتصادي يدفعنا الي حافة الياس.وهذا هو جوهر معركة الحجاب.الحجاب اصبح الآن في السلطة...بعد سنوات طويلة في المعارضة.نجوم الحزب الحاكم قدموا استعراضاً ميلودرامياً للدفاع عن الحجاب. استعراضات قوية لم يحاسبهم احد في الدولة علي ضعفها الفني.مسرحية فاشلة.غير فيها الممثلون ملابسهم وبدلا من ان يدافعوا عن الفساد و يحموا الفاسدين..

غضبوا من اجل الحجاب.الحجاب في السلطة.والحزب الحكام يدافع عنه .ليس مهما ان تكون السيدة الاولي غير محجبة.لم يفكر الممثلون في النص.فهم دفعوا الي الخشبة بدون بروفات. ارادوا سرقة الاضواء من نواب الاخوان الذين خرجت مدفعيتهم من نائب لم يجد مانعا لديه من التلسين علي فاروق حسني بشائعات شخصية.لم تمنعه الأخلاق الاسلامية من الضرب تحت الحزام.

لم يخجل و هو يعتبر ان الاختلاف حول الحجاب قضية ضد الدستور والدين.يلغي عقل المستمعين ويضللهم بالضبط كما فعلت الحكومة عندما اشعلت الفتيل في المعركة لتغطي علي فضائحها وخطاياها.لعبة اكتملت بها الدولة الدينية في مصر.الدولة الدينية تضطهد الاقلية دائما.تعترف بهم... لكنها تعاملهم كما تعامل الضيوف.اتفق الاخوان والحزب الوطني علي ان غير المحجبة خاطئة .ولا فرق هنا بين المسجد الذي يمكن ان

يقال فيه هذا الكلام.. كمادة للتطرف الاعمي والتعصب للدين او للمذهب.وبين مجلس الشعب الذي يحمي حقوق الجميع و في مقدمتها الاقليات.لم يعد هناك فرق بين البرلمان والجامع..؟ولا بين السياسي والشيخ..؟ماحدث الاسبوع الماضي تاكيد علي حقيقتين: ان الحجاب لم يعد التعبير عن جماعة مضطهدة في المعارضة.بل عن سطوة جماعة تحكم بالغوغائية المستوردة من قبائل البترول.. مجتمع ثقافته غريبة و هجرته الي الدولة الحديثة.. مطاردة... وفي الوقت الذي تضعف فيه دولة المطوعين والاجبار علي الطاعة العمياء في السعودية مثلا تقوي في مصر.. ولا فرق فيها بين حكومة واخوان.كلهم في القهر... والتخلف.. شرق.