Print

حدث في القسطنطينية
بقلم : عبده مباشر

..‏ والامبراطورية الرومانية الشرقية‏(‏ البيزنطية‏),‏ تقف علي أبواب الخروج من التاريخ‏,‏ كان أهلها الذين ظنوا أنهم من الأخيار‏,‏ يناقشون قضية إيمانية‏,‏ بدت لهم في ذلك الوقت عظيمة الأهمية ولايمكن تجاهلها أو تأجيلها أو الالتفاف من حولها‏,‏ ألا وهي‏,‏ هل الملائكة من نور أم لا؟ ولكن‏,‏ لماذا هذا السؤال؟

والإجابة التي حملها لنا التاريخ‏,‏ أن الإجابة عن هذا السؤال‏,‏ ستقود الي الإجابة عن سؤال أكثر أهمية‏,‏ ألا وهو‏:‏ هل يمكن للملاك المرور من سم الخياط‏(‏ ثقب الإبرة‏)‏؟ فلو كان الملائكة من نور‏,‏ فإنهم يستطيعون المرور من ثقوب الإبر‏.‏

هل رأيتم أهمية الأسئلة‏,‏ وأهمية الإجابات؟
لذا لا غرابة أن ينشغل مجتمع الأخيار‏!!‏ في بيزنطة بهذه القضية الإيمانية‏,‏ وقد انشغلوا‏,‏ في حين كان محمد الفاتح الامبراطور العثماني يحشد جيوشه من حول العاصمة القسطنطينية‏,‏ استانبول فيما بعد‏,‏ ووضع الخطط‏,‏ وتوصل لحلول عبقرية للتغلب علي حصون وقلاع المدينة‏,‏ التي أوشكت علي الغروب‏,‏ غروب بلا شروق‏.‏

وظل أهل القسطنطينية‏,‏ غارقين في مناقشاتهم وخلافاتهم وجدلهم حول الملائكة‏,‏ الي أن دهمهم الجيش العثماني‏,‏ وأخرجهم من التاريخ‏.‏

وتحولت مناقشاتهم الي عبرة تاريخية‏,‏ يضرب بها المثل‏,‏ حيث يوصف الجدل الذي لا طائل من ورائه سوي الخسران‏,‏ بأنه جدل بيزنطي أو مناقشات بيزنطية‏.‏ لقد كانت المدينة جيدة التحصين‏,‏ وذات قلاع منيعة الي حد كبير‏,‏ وكان بمخازنها ما يكفي احتياجات سكانها من السلاح والطعام والشراب لفترات حصار طويلة‏,‏ ولأنها كذلك‏,‏ فقد استعصت علي كل محاولات الغزو الإسلامية التي بدأت في العصر الأموي‏,‏ وصمدت في مواجهة عمليات الحصار التي تعرضت لها‏.‏

ولو انشغل أهل القسطنطينية بحال المدينة‏,‏ وناقشوا سبل وأساليب مواجهة الجيش العثماني‏,‏ لحالوا بين الغزاة واقتحام مدينتهم‏,‏ ولكن الجدل الإيماني العميق حول نوع وجنس الملائكة‏,‏ كان أكثر أهمية‏,‏ لأنه قضية ايمانية‏,‏ في حين أن مواجهة الغزاة قضية دنيوية‏,‏ والايماني بالنسبة لمن يظنون أنهم من الأخيار المتدينين‏,‏ وأنهم من أهل التقي والورع الكنسي‏,‏ أهم من كل شئون الدنيا‏,‏ لأنه الطريق الي الله‏,‏ والي الجنة‏,‏ والي خير الدنيا أيضا‏,‏

وليس بغريب أن تقودهم نظرتهم تلك الي نهايتهم‏,‏ ونهاية دولتهم‏.‏ اذا ما ابتعدنا عن أهل القسطنطينية‏,‏ ونظرنا حولنا‏,‏ سنتبين أن أخيار مصر وأشرارها غارقون في مناقشة قضيتي الحجاب والنقاب‏,‏ باعتبارهما من القضايا الإيمانية‏,‏ وانهما الطريق الي رضاء المولي وخير الدنيا‏,‏ وأنه لا صلاح في الدنيا إلا بالحجاب‏.‏ وقد نجحت مجموعات من المتشددين والمحافظين الذين تأثروا بالمذهب الوهابي وفقه البدو ونهجوا نهج أحفاد من وأدوا البنات في جرجرة أهل المحروسة للخوض في هذا الجدل‏,‏ ولم يتورعوا عن ممارسة الإرهاب الفكري‏,‏ ورفع سيوف التكفير في مواجهة من يختلف معهم‏,‏ ليظل صوتهم هو الصوت الوحيد علي الساحة‏,‏

ولتذهب قضايا الوطن وتقدمه وتطوره ونهضته الي الجحيم‏,‏ فماذا يساوي كل ذلك أمام حماية المجتمع من فتنة المرأة‏,‏ فالحجاب هو الطريق لستر المرأة‏,‏ وحماية الذكور منها‏.‏ لقد طغت قضية عورات المرأة‏,‏ وضرورة سترها علي ما عداها من قضايا‏,‏ وهذه النظرة الدونية للمرأة‏,‏ ليست نظرة مصرية اطلاقا‏,‏ فالمرأة في مصر كانت أما وملكة وزوجة‏,‏ وفي كل الأحوال كانت تلقي الاحترام‏,‏ في حين أنها في دول الصحراء‏,‏ كانت متاعا أولا وعاشرا‏,‏ ثم تأتي أدوارها الأخري‏,‏ وفي كل الأحوال كانت الأغلبية من سكان الصحراء يرونها عارا وعورة‏,‏ ويفضلون لها الموت وهي مازالت في المهد‏.‏

هذا التيار السياسي الإسلامي بجماعاته المتشددة والمحافظة والمتطرفة والإرهابية يثير المخاوف‏,‏ سواء بأهدافه أو بأساليبه وتناقضاته‏.‏ واذا ما نظرنا الي قضية الحجاب‏,‏ فهي بداية ونهاية‏,‏ قضية شكل‏,‏ ولا تعد من جوهر الدين أو من أساسياته‏,‏ ولا أعتقد أن ارتداء كل نساء العالم الاسلامي للحجاب‏,‏ سوف يقود الي أي تقدم‏,‏ كما أنه لن يسهم في دفع أي من الأخطار التي تهدده وتحيط به سواء من الداخل أو الخارج‏.‏ وما أشبه هذه القضية‏,‏ بالقضية التي ناقشها أهل القسطنطينية‏,‏ ويقينا فإن الاستغراق في مناقشتها والجدل والاختلاف من حولها‏,‏ سيقود الجميع الي المصير نفسه الذي انتهي إليه أهل القسطنطينية‏.‏

إن للتقدم والتطور والنهضة أكثر من منطق وطريق‏,‏ ولكن ليس منها الاستغراق في الشكل والغرق فيما لا يجدي أو يثمر‏.‏ ثم كيف نأخذ هذا التيار بجدية‏,‏ ونقتنع أنه يدافع عن قضية وموقف إسلامي‏,‏ وأياديهم ملوثة بدماء الضحايا الأبرياء من المصريين والأجانب؟ وبالنسبة للحجاب سنروي واقعة ستساعد علي اضاءة الكثير من أبعاد هذه القضية‏.‏ فبعد أن أعلن الاخوان المسلمون تأييدهم لثورة‏23‏ يوليو يوم‏26‏ يوليو‏1952,‏ طلب المستشار حسن الهضيبي المرشد العام لقاء أحد رجال الثورة‏,‏ فالتقي به جمال عبدالناصر بمنزل صالح أبورقيق العضو البارز بالجماعة‏..‏

وكان من بين ما طلبه الهضيبي في اطار محاولة فرض الوصاية علي المجموعة اليوليوية‏,‏ إصدار قانون بفرض الحجاب حتي لا تخرج النساء سافرات‏,‏ وبغلق دور السينما والمسرح باعتبارها دورا للفساد والإفساد‏.‏ ورد عبدالناصر علي هذا المطلب بقوله‏,‏ إنه لو استجاب لهذا المطلب وغيره من مطالب الاخوان فسيدخل في معركة مع سكان مصر أو نصفهم علي الأقل‏,‏ ثم استطرد قائلا‏:‏ إنه لا طاقة له علي فرض الحجاب‏.‏ فرد الهضيبي‏,‏ بأنه مصمم علي طلبه‏,‏ فما كان من عبدالناصر إلا أن ذكر الهضيبي بأن ابنته الطالبة بكلية الطب‏,‏ تذهب الي كليتها سافرة‏,‏ وأنه اذا كان كمرشد للاخوان عاجزا عن فرض الحجاب علي ابنته‏,‏ فكيف يطلب منه‏,‏ فرض الحجاب علي المجتمع كله؟ وأسقط في يد الهضيبي‏,‏ ولم يجد ما يقوله‏,‏ فقد خسر معركته‏,‏ لأنه طالب بما لم يفعل‏,‏ أي ان اقواله لم تتطابق مع أفعاله‏,‏ وبذلك دخل في دائرة من يقولون ما لا يفعلون‏,‏

وتناسي وهو مرشد الاخوان المسلمين أن المولي قال في كتابه الكريم كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏.‏ وتاريخ الجماعة يؤكد أنه لم يكن وحده في ذلك‏,‏ كما أن الشيخ حسن البنا لم يتطرق الي موضوع الحجاب أو النقاب‏,‏ ومن الجدير بالذكر أن زوجة عمر التلمساني المرشد العام الثالث لم تتحجب إلا بعد أن أصبح زوجها مرشدا‏,‏ ولم تتحجب زوجة مأمون الهضيبي إلا عام‏1996,‏ أي بعد أن أصبح زوجها نائبا للمرشد العام مصطفي مشهور‏.‏ ومع أن بنت الهضيبي كانت سافرة هي وغيرها ممن أشرنا إليهن‏,‏ فإن أحد أعضاء الجماعة قال لافض فوه‏,‏ إن ما قاله فاروق حسني دعوة للانحلال‏(‏ ليه‏,‏ لاسمح الله‏,‏ هو قال إيه بالضبط؟‏),‏ انه يعلم أنه لم يقل سوي جملة تفضيلية حول زي معين‏,‏ أي أنها وجهة نظره في هذا الزي‏,‏ فهل يعد مثل هذا الموقف الشخصي من أحد الأزياء‏,‏ دعوة للانحلال؟

ثم قال هذا العضو متصورا انه يخاطب جماعة من الحمقي‏,‏ إن ما قاله الوزير مؤامرة صهيونية‏.‏ أما الذي قال‏,‏ إنها قضية تمس الأمن القومي‏,‏ فربما لا يعرف أنه أطلق نكتة شديدة المرارة‏.‏ ويبدو أنهم نسوا ما قاله المولي في كتابه الكريم فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر فما بالنا‏,‏ والأمر مجرد رأي شخصي في زي معين؟‏!