المسيحية في بريطانيا تعلن الثورة على الغبن

ليلي فريد بريطانيا    

 أشياء غريبة تحدث ويلمسها المتتبع لوسائل الإعلام البريطاني في الآونة الأخيرة: المسيحية التي تراجعت طويلا أمام زحف المجتمع المدني والتيارات اللادينية وانكمشت في مواجهة الصوت الزاعق لأتباع العقائد الأخرى، بدأت تجهر بالشكوي من الظلم والتمييز ضدها.

   

    بريطانيا الحديثة بدت وكأنها قد هجرت المسيحية. كنائسها خاوية على عروشها، تباع مبانيها الأثرية بأبخس الأسعار لتتحول إلى شقق سكنية ومطاعم ودور عبادة لغير المسيحيين. أتصور أنه لو أجرى استطلاع للرأي عن مناسبة الاحتفال بالكريسماس لفشلت نسبة لا بأس بها من الإنجليز في الربط بينها وبين ميلاد المسيح!    هذا رغم أن المسيحية قد شكلت حضارة بريطانيا. تاريخها ومؤسساتها وثقافتها قد تشربت بالعقيدة حتى الثمالة.

بدأ انتشار المسيحية فيها خلال القرون الأولي للميلاد وأخذت تحل تدريجيا محل عبادة آلهة الرومان حتى أصبحت الديانة الرسمية للولاية التابعة للإمبراطورية الرومانية. وفي فجر انتشارها قاسى المسيحيون فيها من اضطهاد الأباطرة وتعرضت كنائسهم للدمار.   

ولم تنعزل العقيدة الجديدة داخل حدود الجزيرة بل اتسعت مشاركتها اللاهوتية فساندت الكنيسة الإنجليزية إدانة الأريوسية في مجمع نيقيا عام 325 ميلادية.    

كما عرفت بريطانيا نظام الرهبنة وفي الفترة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، ظهرت أديرة كثيرة صارت مراكز إشعاع تعليمي وثقافي خلال العصور الوسطي وقامت بدور تبشيري واسع. ولأن العديد من رؤساء ورئيسات الأديرة كانوا ينتمون لأعرق الأسر فقد كان تأثيرهم على المجتمع ملموسا بفضل نفوذهم وثروتهم. ومن أهم الأديرة الدير الذي أسسه القديس أوغسطين في كانتربري جنوب انجلترا في القرن السادس وانطلقت منه بعثات التبشير وصار مقرا لرئيس الأساقفة.   

ثم تعرضت الكنيسة الإنجليزية القوية المتحدة لهزة قوية في القرن السادس عشر على يد الملك المزواج هنري الثامن. فعندما لم تفلح كاثرين أولي زوجاته في إنجاب وريث للعرش، تعارضت رغبته في الزواج مرة أخرى مع إرادة البابا، فما كان من هنري إلا أن انشق على الكنيسة الكاثوليكية وجعل من نفسه رئيسا للكنيسة الإنجليزية الأنجليكانية وأغلق العديد من الأديرة التي مازالت باقية حتى اليوم في صورة كنائس أثرية تسمي Abbeys

.    وإلى يومنا هذا مازال الجالس على العرش يرأس الكنيسة ويحمل لقب حامي العقيدة DefenderOfTheFaith

أعلن الأمير تشارلز أنه يوم أن يتحقق حلمه باعتلاء العرش سيغير هذا اللقب

 بحيث تمتد حمايته إلى أصحاب العقائد الأخرى من رعايه    

Defender Of Faith.إلى   

ومازالت هناك علاقة وثيقة بين الكنيسة والدولة، ويضم مجلس اللوردات 26 أسقفا ويشارك رجال الدين في كل الاحتفالات والمناسبات الرسمية، وقسط كبير من الأعمال الخيرية تتولي إدارتها هيئات مسيحية.    ولكن بالطبع بريطانيا دولة علمانية تفصل تماما ما بين الدين والسياسة. وكأي دولة مدنية تطبق القانون الوضعي على كل رعاياها.    

وعلى مستوي الحياة اليومية يبدو وكأنها دولة لا دينية (على الأقل لا مسيحية). تراجع فيها دور الدين وهمش إلى أقصى الحدود. نسبة المواظبة على حضور القداس وصلت إلى أقل من واحد في كل عشرة أشخاص معظمهم من كبار السن مما يعني كارثة مستقبلية. (وإن كان من الجدير بالذكر في هذا المجال أن المهاجرين من مسيحي أفريقيا: معظمهم ينتمون إلى طائفة Pentecostals وكاثوليك أوربا الشرقية وأتباع الكنائس الأرثوذكسية المختلفة قد بدأوا يحتلون المقاعد الشاغرة في الكنائس).

    ووصل الحال في منطقة ويلز إلى أنها أصبحت تستقدم كهنة من القبائل الهندية التى اعتنقت المسيحية على يد البعثات التبشيرية من ويلز لتسد النقص الحاد في رعاة الكنائس المحلية.    يوم الأحد لم يعد هو يوم الرب، ولذا تلجأ الكنيسة الإنجليزية إلى محاولات مستميتة للوصول إلى الناس حيث أماكن تواجدهم في هذا اليوم: المقاهي والنوادي الرياضية وحتى البارات.   

وكأن كل هذا لا يكفي، فبسبب التطبيقات الجامدة لمفاهيم التعددية الثقافية Multiculturalism والصواب السياسي Political Correctness  (بمعني عدم إستعمال تعبيرات تحمل إساءة) بالإضافة إلى الحيرة والتخبط في فهم ومواجهة ظاهرة العنف والإرهاب على يد مسلمي بريطانيا ومحاولات استرضائهم بشتي الوسائل – حتى على حساب المسيحيين- لعل هذا يخفف من حدة الكراهية التي يحملونها للمجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، أصبحت المسيحية كأنها جريمة ينبغي الإعتذار عنها، وحملت كبريات الصحف تساؤلات مريرة على شاكلة: "كم بقي من الزمن على اعتبار المسيحية مخالفة للقانون البريطاني؟!"وتتابعت الضربات تسير في نفس الاتجاه، فعلي سبيل المثال: ·        

- انقطعت المساعدة المالية التي يقدمها مجلس المدينة لإحدي الهيئات الناجحة في معالجة الإدمان وذلك لأن برامج إعادة التأهيل تتضمن جوانب روحية اعتبرت أنها تندرج تحت إسم التبشير بالمسيحية.-

هدد مركز لإيواء المشردين بإيقاف الإنفاق الحكومي عليه لأنه يوفر لنزلائه الكتاب المقدس ويجعلهم يتلون الصلوات قبل تناول الطعام.·        

- بدأت بعض الجامعات في سحب الأناجيل من مساكن الطلاب حتى لا يشعر غير المسيحيين بأنهم غير مرحب بهم. ·        

 - تتعرض اتحادات الطلبة المسيحيين في الجامعات لضغوط شديدة ومحاولات لفرض أعضاء في مجالس إدارتها لا يشاركونهم قناعاتهم الدينية وذلك بحجة ضرورة تطبيق التعددية.·        

 - منعت إحدي المدارس الطالبات من ارتداء حلقة من الفضة محفور عليها آية من الإنجيل يلبسها في إصبعه الشباب المسيحي الذي قطع على نفسه عهدا بالامتناع عن ممارسة الجنس قبل الزواج.

·         - خلال مسيرة لتأييد المثلية الجنسية قبض على شخص مسيحي كان يوزع بصورة سلمية نشرة تحمل كلمات من الكتاب المقدس تدين هذه الممارسات وتدعو أتباعها إلى التوبة. وكانت جريمته أن منشوراته قد وصفت المثلية بأنها خطيئة.·        

 - وجدت هيئة رقابية أن المسيحية ورموزها (دونا عن الديانات الأخرى) مستهدفة من قبل البرامج الساخرة ونجوم الكوميديا.ولكن يبدو أن قدرة المسيحيين على الاحتمال قد تجاوزت مداها.

ومن الغريب أن القشة التي قسمت الظهر جاءت على يد سيدة قبطية ذات ملامح وديعة اسمها نادية عويضة. حكايتها باختصار أن شركة الطيران البريطانيةBA التي تعمل في أحد مكاتبها قد أوقفتها عن العمل لأنها رفضت إخفاء صليب صغير معلق في رقبتها، وخيرتها بين خلع الصليب أو النقل إلى وظيفة أخرى ليس فيها احتكاك بالجمهور (الذى قد لا يستريح بعضه لرؤية الصليب).

 واحتجت نادية بأن الشركة تسمح لغير المسيحيين بإظهار شارات دينية مثل الحجاب الإسلامي والعمامة المميزة للسيخ.   

 وفوجئت بريطانيا )وطبعا (BA بثورة احتجاجية لم يسبق لها مثيل وكأن مخزون الصبر على اضطهاد المسيحيين على يد المؤسسات البريطانية قد نفذ.    وتزعم الاحتجاج ما يقرب من مائة عضو في البرلمان وأربعة عشر أسقفا على رأسهم أسقف كانتربي ووزراء وأعداد لا تحصي من رجال الدين والصحفيين والكتاب ومن عامة الشعب (دينيين ولا دينيين فالمسألة أصبحت مسألة مبدأ).

 وأمام تهديداتهم الجدية بمقاطعة الشركة تراجعت امبراطورية BA عن قرارها الجائر.    ثم جاءت العاصفة الأخرى مع حلول أعياد الميلاد. أصاب الناس الزهق والقرف من القيود التي بلغت حد أن صار من الصعب أن تسمي مناسبة عيد الميلاد بإسمها الحقيقي "عيد الميلاد". قررت قيادات الكنيسة ومن ورائها الشعب المتدين شن حملة لإعادة الروح المسيحية إلى الاحتفالية والوقوف بحزم ضد المحاولات الجارية لتفريغ المناسبة من فحواها الديني. والتى تشمل:

·         استبدال عبارات التهنئة المعتادة على كروت الكريسماس بعبارات فضفاضة بلهاء على مثال: تهانينا "بموسم الأجازات" أو "باحتفالات الشتاء"! ونادي أحد الكتاب اللامعين بإلقاء كل كارت لا يحمل تهنئة صريحة بعيد "الميلاد" في سلة المهملات.

·         استبعاد الصور الدينية من على الطوابع التي تصدر في هذه المناسبة.

·         توقف المدارس عن السماح للتلاميذ بأداء التمثيلية التقليدية التي تحكي قصة ميلاد المسيح وترديد الترانيم وألحان الميلاد المعروفة، مراعاة لمشاعر الطلبة غير المسيحيين وأولياء أمورهم.

·         محاولة إحدي المدارس استبدال وجبة عيد الميلاد المعتادة والمكونة من الرومي العتيد مع الحواشي التي تتضمن رقائق من لحم الخنزير، بوجبة "حلال" لضمان مشاركة الطلبة المسلمين.

·         منع تعليق الزينات في بعض أماكن العمل تفاديا لجرح مشاعر الأقليات الأخرى.    ويتزعم الدعوة إلى الدفاع عن القيم المسيحية واستعادة التراث المسيحي النجم الساطع في سماء الكنيسة الإنجليزية د. جون سنتامو أسقف يورك وأول أسقف أسود في بريطانيا (من أصل أوغندي).    وهو من قاد الحملة الشعواء ضد الخطوط الجوية البريطانية إثر إيقاف نادية عويضة واتهم محطة BBC بالانحياز ضد المسيحية والإساءة إليها بصورة لا تجرؤ المحطة على اتباعها مع الديانات الأخرى وذلك لإطمئنانها إلى أن رد المسيحيين لن يكون مصحوبا بالعنف أو التهديد.   

ويبدو أن الرسالة القوية التي يحملها أسقف يورك ومعه العديد من رجال الكنيسة وعلى رأسهم أسقف روتشستر: مايكل نازيرعلى، تتماشي مع المزاج الحالي للأمة ورغبتها في التصالح مع التقليد المسيحي العريق. هناك جوع إلى الإيمان وإلى الانتماء بين البريطانيين ويظهر أن هذا الجوع يجد في كلماتهم ما يشبعه.   

وأظهرت استطلاعات الرأي التي قام بها مركز أبحاث أنشأ حديثا، ويحمل اسم "ثيوس" وهي الكلمة اليونانية التي تعني الله، أن جيل الشباب أكثر تقبلا لدخول الدين الحياة العامة من جيل الأباء، مما يعني أن المستقبل واعد لدعاة استعادة الوجود المسيحي.   

 تلوح في الأفق ملامح مقاومة يقودها رجال دين وعلمانيون مثقفون ضد شطب المسيحية من قاموس الحياة في بريطانيا. لا يسعي هؤلاء إلى تديين الدولة أو إلى أن تصبح المسيحية هى القوة المحركة للمجتمع أو إلى أن تتحول إلى عصبية تستبعد الأقليات الأخرى. ولكنهم يطالبون بأن يلعب الدين دورا أكبر استنادا إلى أن أهميته ليست مقصورة على حياة الأفراد بل يسهم في تقدم المجتمع وتحويله من مجتمع لا أخلاقي جشع إستهلاكي تتفشي فيه الجريمة إلى مجتمع عطوف متماسك آمن.   

 إنهم يهاجمون قلب مفاهيم العدالة رأسا على عقب بحيث يصبح أي نشاط يخلو من "التعددية الثقافية" نشاطا محرما ينبغي القضاء عليه. يحاربون التفرقة والتمييز والعنصرية التي أصبحت تمارس ضد المسيحيين في بريطانيا ومحاولات كسب ود الأقليات على حسابهم.   

 هؤلاء يعلنون بوضوح أن المسيحية قد تغلغلت في تاريخ وثقافة وعمارة أمتهم. الفن والأدب واللغة كلها تحمل بصمة الكنيسة والإنجيل. ولذا فإن بريطانيا لوفقدت المسيحية ستفقد هويتها وتماسكها.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.

 


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com