Print

  

المسيحيون المصريون وهواية «التشرد الطوعى»

جمال فهمي

حكيت أمس قصة مملوك «إمبابة» الذى كان يلبس ثوب التقوى والورع ومع ذلك فإن تقواه وورعه وصلواته التى يحرص على أدائها حاضرًا وفى موعدها تمامًا لم تردعه ولا عطّلته يومًا عن ممارسة هواية صيد البشر الغلابة الذين يسوقهم قدرهم إلى المرور من أمام قصر جنابه فى الفترة ما بين العصر والمغرب.

ونقلت عن سيرة هذا المخبول المجرم أن الإمبابيين لما ضجوا من هذه المذبحة اليومية ذهب وفد منهم إلى الباشا الوالى يشكون له أفعال مملوكه فى خلق الله بناحيتهم، لكن الباشا بعدما سمع الحكاية من طقطق لسلامو عليكو لم يأمر بمعاقبة المملوك الدموى ولا حتى إجباره وإلزامه بالكف عن ممارسة هواية قنص وقتل الأبرياء، وإنما أصدر جنابه «فرمانًا» قضى بمنع الناس من المشى أمام قصر هذا المملوك ومَن يخالف يحق عليه الموت بغير دية ولا تعويض!

كتبت تلك الحكاية بالتفصيل فى زاوية أمس ولم أكن قد سمعت بتصريح أدلى به «النافى الرئاسى» الرسمى، وبدا لى حاملًا طعم ومعنى هذه الحكاية القديمة نفسها، فقد وجدت فى التصريح المذكور أن جناب «النافى» يسير سيرًا منضبطًا جدا على النهج عينه الذى اتبعه وزير الداخلية فى حكومة المجاهيل (الإخوانية الفلولية) الجديدة عندما ردد جنابه الكلام الفارغ العبيط نفسه المنسوب إلى الوزير، أى الإنكار والنفى القطعى لخبر تهجير واقتلاع جماعى قسرى لأكثر من ١٢٠ أسرة مصرية مسيحية من بيوتها وبيئتها الطبيعية فى قرية دهشور على خلفية حادثة «حرق القميص» التى فجّرت حمم بركان الطائفية المقيتة الناشط فى قلب المجتمع وتغذيه يوميًّا معطيات وأسباب مروعة، أخطرها التوسع الرهيب الحالى فى ممارسة جريمة خلط الدين بالسياسة واستعماله بتهور وانعدام ضمير فى تهييج نفوس الغلابة واغتصاب أصواتهم الانتخابية.

لقد اعتبر الوزير والأخ «النافى الرئاسى» معًا، أن نحو خمسة آلاف مواطن من أهالى أحدث قرى «الفتنة اليقظة» إنما تركوا قريتهم وموطنهم الأصلى الذى ولدوا وعاشوا عمرهم فيه بمحض إرادتهم الحرة وبكامل مزاجهم ومن دون عنف ولا إكراه، بل ربما استجابة إلى إلحاح هواية شاذة ورغبة مجنونة استبدت بهم ودفعتهم جميعا، وفى وقت واحد، لنبذ الاستقرار وهدوء السر وتجريب متعة الصعلكة وتذوق طعم حياة المنفيين والمشردين!

طبعا هذا كلام ظريف ومثير للضحك الأَمَرِّ من البكاء، لكنك قد تموت غيظا وكمدا أو تفقد ما تبقى من عقلك إذا حضرتك استعنت على الشقا بالله وتأملت قليلا فى التصريحات التى ألقاها علينا معالى «النافى الرئاسى»، فقد قال -لا فُض فوه- وتكهرب حاسدوه (لن يحدث طبعا لأن الكهرباء مقطوعة)- إن «الرئيس محمد مرسى تلقى تقارير رسمية تؤكد عدم تعرض المواطنين الأقباط فى دهشور للتهجير القسرى من قبل المواطنين المسلمين».. طيب ما الذى حدث يا جناب «النافى» أفندى؟! يعود فيقول لك سيادته نصًّا وبالحرف الواحد «إن من تركوا منازلهم فى القرية (المذكورة) إنما تركوها من تلقاء أنفسهم ولاعتبارات أمنية ولخوفهم من أحداث العنف»!

تستطيع حضرتك طلب رحمة المولى تعالى، وأن يتدخل بقدرته وجلاله لكى يمنع عقلك من الطيران ويحفظ مخك من الانفجار بسبب هذه الافتكاسة العجيبة التى افتكستها الست «رسمية» ووضعتها فى تقاريرها «الرئاسية» وبمقتضاها ميّزت جنابها بين معنى التهجير القسرى لخلق الله ومعنى «الخوف من العنف» الذى يدفع الناس للهرب والهجرة!

غير أن الأخت «رسمية» وتقاريرها التى أقنعت سيادة الرئيس مرسى بأنه مافيش مشاكل خالص البتة، وأن المواطنين المسيحيين فى قرية دهشور (وفى غيرها للأسف) يرفلون فى نعيم التشرد الطوعى والهجرة غير القسرية، يبدو أنها لم تكمل جميلها ولم تتمكن من إقناع الدكتور الرئيس ولا «النافى الرسمى اليومى» بتاع سيادته بأن هؤلاء الذين هاجروا استجابة للغواية والهواية هم فى أتم صحة وأحسن حال، لهذا أعلن معالى السيد النافى فى تصريحاته عينها أن «الرئيس أعطى توجيهاته بضرورة تعويض المضارين من الأقباط ماديًّا عن الأضرار التى تكبّدوها نتيجة أعمال العنف فى القرية».. والسؤال هنا: هل «أعمال العنف» هذه التى فى القرية، ومنها تخريب ونهب وحرق منازل وممتلكات (وكنيسة أيضًا) لا تصلح سببًا للتهجير والاقتلاع القسرى، أم كان يتعين على كل أسرة مسيحية أن تبقى وتصمد فى بيتها، وتنتظر حتى يدركها الموت حرقًا؟!.. لا حول ولا قوة إلا بالله.