المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  

كيف عامل المسلمون الأقباط فى مصر

 

maqrizi

 

...

 

   الجزء الرابع   

 ( 165 من 167 ) 

وفي سنة إحدى وثمانين وثمانمائة أقيم داميانو بطركًا بالإسكندرية

وكان يعقوبيًا فأقام ستًا وثلاثين سنة ومات في ثامن عشري بؤنة وفي أيامه خربت الديارات وأقام الملكية لهم بالإسكندرية بطركًا منانيًا اسممه أتناس فأقام خمس سنين ومات فأقيم بعده يوحنا وكان منانيًا ولقب القائم بالحق فأقام خمسة أشهر ومات فأقيم بعده يوحنا القائم بالأمر وكان ملكيًا فأقام إحدى عشرة سنة ومات وفي أيام الملك طيباريوس ملك الروم بنى النصارى بالمدائن مدائن كسرى هيكلًا وبنوا أيضًا بمدينة واسط هيكلًا آخر‏.‏

وفي أيام الملك موريق قيصر زعم راهب اسمه مارون أن المسيح عليه السلام طبيعتان ومشيئة واحدة واقنوم واحد فتبعه على رأيه أهل حماه وقنسرين والعواصم وجماعة من الروم ودانوا بقوله فعرفوا بين النصارى بالمارونية فلما مات مارون بنوا على اسمه دير مارون بحماه‏.‏

وفي أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامّة بلاد الشام وقتلوا النصارى بأجمعهم وأتوا إلى مصر في طلبهم فقتلوا منهم أمّة كبيرة وسبوا منهم سبيًا لا يدخل تحت حصر وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل وقرية الناصرة ومدينة صور وبلاد القدس فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم وخرّبوا لهم كنيستين بالقدس وحرّقوا أماكنهم وأخذوا قطعة من عود الصليب وأسروا بطرك القدس وكثيرًا من أصحابه ثم مضى كسرى بنفسه من العراق لغزو قسطنطينية تخت ملك الروم فحاصرها أربع عشرة سنة وفي أيام فوقا أقيم يوحنا الرحوم بطرك الإسكندرية على الملكية فدبر أرض مصر كلها عشر سنين ومات بقبرص وهو فارّ من الفرس فخلا كرسيّ إسكندرية من البطركية سبع سنين لخلوّ أرض مصر والشام من الروم واختفي من بقي بها من النصارى خوفًا من الفرس وقدّم اليعاقبة نسطاسيوس بطركًا فأقام اثنتي عشرة سنة ومات في ثاني عشري كيهك سنة ثلائين وثلاثمائة لدقلطيانوس فاستردّ ما كانت الملكية قد استولت عليه من كنائس اليعاقبة ورم ما شعثه الفرس منها وكانت إقامته بمدينة الإسكندرية فأرسل إليه انباسيوس بطرك أنطاكية هدية صحبة عدّة كثيرة من الأساقفة ثم قدم عليه زائرًا فتلقاه وسر بقدومه وصارت أرض مصر في أيامه جميعها يعاقبة لخلوّها من الروم فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور وراسلوا بقيتهم في بلادهم وتواعدوا على الايقاع بالنصارى وقتلهم فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفًا وهدموا كنائس النصارى خارج صور فقوي النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم خلق كثير وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية وغلب الفرص بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدّد ما خرّبه الفرس منها فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدّموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمّنهم ويحلف لهم على ذلك فأمّنهم وحلف لهم ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة فوجد المدينة وكنائسها وتمامتها خرابًا فساءه ذلك وتوجع له وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وايقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس وأنهم كانوا أشدّ نكاية لهم من الفرس وقاموا قيامًا كبيرًا في قتلهم عن آخرهم وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمّنهم من غير أن يعلم بما كان منهم وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كلّ سنة عنه على ممرّ الزمان والدهور فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى فكتب البطارقة والأساقفة إلى جميع البلاد بإلزام النصارى بصوم أسبوع في السنة فالتزموا صومه إلى اليوم وعرفت عندهم بجمعة هرقل وتقدّم هرقل بعمارة الكنائس والديارات وأنفق فيها مالًا كبيرًا‏.‏

وفي أيامه أقيم ادراسلون بطرك اليعاقبة بالإسكندرية فأقام ست سنين ومات في ثامن طوبه فخربت الديارات في مدّة بطركيته وأقيم بعده على اليعاقبة بنيامين فعمر الدير الذي يقال له دير أبوبشاي ودير سيدة أبو بشاي وهما في وادي هبيب فأقام تسعًا وثلاثين سنة ملك الفرس منها مصر عشر سنين ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر وأقام فيرش بطرك الإسكندرية وكان منانيًا وطلب بنيامين ليقتله فلم يقدر عليه لفراره منه وكان هرقل مارونيًا فظفر بمينا أخي بنيامين فأحرقه بالنار عداوة لليعاقبة وعاد إلى القسطنطينية فأظهر الله دين الإسلام في أيامه وخرج ملك مصر والشام من يد النصارى وصار النصارى ذمّة للمسلمين فكانت مدّة النصارى منذ رفع المسيح إلى أن فتحت مصر وصار النصارى من القبط ذمّة للمسلمين‏.

منها مدة كونهم تحت أيدي الروم يقتلونهم أبرح قتل بالصلب والتحريق بالنار والرجم بالحجارة وتقطيع الأعضاء‏.

ومنها مدّة استيلائهم بتنصر الملوك‏.‏

دخول النصارى في طاعة المسلمين من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية واتخاذهم ذمّة لهم وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء‏.‏

اعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم أحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم ورأيهم وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية وكانت عدّتهم تزيد على ثلاثمائة ألف روميّ‏.‏

والقسم الآخر عامّة أهل مصر ويقال لهم القبط وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطي من الحبشيّ من النوبيّ من الإسرائيليّ الأصل من غيره وكلهم يعاقبة فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم ومنهم أهل الفلاحة والزرع ومنهم أهل الخدمة والمهنة وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمنع مناكحتهم ويوجب قتل بعضهم بعضًا ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرة جدًّا فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها فلما قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين معه إلى مصر قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعًا لهم عن بلادهم فقاتلهم المسلمون وغلبوهم على الحصن كما تقدّم ذكره لْطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرّهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها وصاروا معه عونًا للمسلمين على الروم حتى هزمهم الله تعالى وأخرجهم من أرض مصر وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أمانًا في سنة عشرين من الهجرة فسرّه ذلك وقدم على عمرو وجلس على كرسيّ بطركيته بعدما غاب عنه ثلاث عشرة سنة منها في ملك فارس لمصر عشر سنين وباقيها بعد قدوم هرقل إلى مصر فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها كلها وانفردوا بها دون الملكية ويذكر علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أمانًا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن وأنه جلس في وسط صحن كنيسة القمامة فلما حان وقت الصلاة خرج وصلى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده ثم جلس وقال للبطرك‏:‏ لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي وقالوا هاهنا صلى عمر وكتب كتابًا يتضمن أنه لا يُصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلاّ واحد واحد ولا يجتمع المسلمون بها للصلاة فيها ولا يؤذنون عليها وأنه أشار عليه البطرك باتخاذ موضع الصخرة مسجدًا وكان فوقها تراب كثير فتناول عمر رضي اللّه عنه من التراب في ثوبه فبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة فلما كانت أيام عبد الملك بن مروان أدخل الصخرة في حرم الأقصى وذلك سنة خمس وستين من الهجرة ثم إن عمر رضي اللّه عنه أتى بيت لحم وصلى في كنيسته عند الخشبة التي ولد فيها المسيح وكتب سجلًا بأيدي النصارى أن لا يُصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلاّ رجل بعد رجل ولا يجتمعوا فيه للصلاة ولا يؤذنوا عليه ولما مات البطرك بنيامين في سنة تسع وثلاثين من الهجرة بالإسكندرية في إمارة عمرو الثانية قدّم اليعاقبة بعده أغانو فأقام سبع عشرة سنة ومات سنة ست وخمسين وهو الذي بنى كنيسة مرقص بالإسكندرية فلم تزل إلى أن هُدمت في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان في أيامه الغلاء مدّة ثلاث سنين وكان يهتم بالضعفاء فأقيم بعده إيساك وكان يعقوبيًا فأقام سنتين وأحد عشر شهرًا ومات فقدّم اليعاقبة بعده سيمون السريانيّ فأقام سبع سين ونصفًا ومات وفي أيامه قدم رسول أهل الهند في طلب أسقف يقيمه لهم فامتنع من ذلك حتى يأذن له السلطان وأقام غيره وخلا بعد موته كرسي الإسكندرية ثلاث سنين بغير بطرك ثم قدّم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس فقام أربعًا وعشرين سنة ونصفًا وقيل خمسًا وعشرين سنة ومات سنة ست ومائة ومرّت به شدائد صودر فيها مرّتين أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار وفي أيامه أمّر عبد العزيز بن مروان فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية عن كلّ راهب دينار ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان اشتدّ على النصارى واقتدى به قرّة بن شريك أيضًا في ولايته على مصر وأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها وكان عبد اللّه بن الحبحاب متولي الخراج قد زاد على القبط قيراطًا في كلّ دينار فانتقض عليه عامّة الحوف الشرقيّ من القبط فحاربهم المسلمون وقتلوا منهْم عدّة وافرة في سنة سبع ومائة واشتدّ أيضًا أسامة بن زيد التنوخيّ متولي الخراج على النصارى وأوقع بهم وأخذ أموالهم ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد فيها اسم الراهب واسم ديره وتاريخه فكل من وجده بغير وسم قطع يده وكتب إلى الأعمال بأن من وجد من النصارى وليس معه منشور أن يؤخذ منه عشرة دنانير ثم كبس الديارات وقبض على عدّة من الرهبان بغير وسم فضرب أعناق بعضهم وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب ثم هدمت الكنائس وكسرت الصلبان ومحيت التماثيل وكسرت الأصنام بأجمعها وكانت كثيرة في سنة أربع ومائة والخليفة يومئذٍ يزيد بن عبد الملك فلما قام هشام بن عبد الملك في الخلافة كتب إلى مصر بأن يجري النصارى على عوايدهم وما بأيديهم من العهد فقدم حنظلة بن صفوان أميرًا على مصر في ولايته الثانية فتشدّد على النصارى وزاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم وجعل على كلّ نصرانيّ وسمًا صورة أسد وتتبعهم فمن وجده بغير وسم قطع يده ثم أقام اليعاقبة بعد موت الإسكندروس بطركًا اسمه قسيمًا فأقام خمسة عشر شهرًا ومات فقدّموا بعده تادرس في سنة تسع ومائة بعد إحدى عشرة سنة‏.‏

وفي أيامه أحدثت كنيسة يوقنا بخط الحمراء ظاهر مدينة مصر في سنة سبع عشرة ومائة فقام جماعة من المسلمين على الوليد بن رفاعة أمير مصر بسببها‏.‏

وفي سنة عشرين ومائة قدّم اليعاقبة ميخائيل بطركًا فأقام ثلاثًا وعشرين سنة ومات‏.

وفي أيامه انتقض القبط بالصعيد وحاربوا العمال في سنة إحدى وعشرين فحوربوا وقُتل كثير منهم ثم خرج بجنس بسمنود وحارب وقُتل في الحرب وقُتل معه قبط كثير في سنة اثنتين وثلاثين ومات ثم خالفت القبط برشيد فبعث إليهم مروان بن محمد لما قدم مصر وهزمهم وقبض عبد الملك بن موسى بن نصير أمير مصر على البطرك ميخائيل فاعتقله وألزمه بمال فسار بأساقفته في أعمال مصر يسأل أهلها فوجدهم في شدائد فعاد إلى الفسطاط ودفع إلى عبد الملك ما حصل له فأفرج عنه فنزل به بلاء كبير من مروان وبطش به وبالنصارى وأحرق مصر وغلاتها وأسر عدّة من النساء المترهبات ببعض الديارات وراود واحدة منهنّ عن نفسها فاحتالت عليه ودفعته عنها بأن رغبته في دهن معها إذا ادّهن به الإنسان لا يعمل فيه السلاح وأوثقته بأن مكنته من التجربة في نفسها فتمت حيلتها عليه وأخرجت زيتًا ادهنت به ثم مدّت عنقها فضربها بسيفه أطار رأسها فعلم أنها اختارت الموت على الزنا وما زال البطرك والنصارى في الحديد مع مروان إلى أن قُتل ببوصير فأفرج عنهم‏.‏

وأما الملكية فإن ملك الروم لاون أقام قسيمًا بطرك الملكية بالإسكندرية في سنة سبع ومائة فمضى ومعه هدية إلى هشام بن عبد الملك فكتب له بردّ كنائس الملكية إليهم فأخذ من اليعاقبة كنيسة البشارة وكان الملكية أقاموا سبعًا وسبعين سنة بغير بطرك في مصر من عهد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى خلافة هشام بن عبد الملك فغلب اليعاقبة في هذه المدّة على جميع كنائس مصر وأقاموا بها منهم أساقفة وبعث إليهم أهل بلاد النوبة في طلب أساقفة فبعثوا إليهم من أساقفة اليعاقبة فصارت النوبة من ذلك العهد يعاقبة‏.‏

ثم لما مات ميخائيل قدّم اليعاقبة في سنة ست وأربعين ومائة انبامسنا فأقام سبع سنين ومات‏.‏

وفي أيامه خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة وصاروا في جمع فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرًا فأتاهم القبط ليلًا وقتلوا عدّة من المسلمين وهزموا باقيهم فاشتد البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف وهُدمت الكنائس المحدثة بمصر فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودة بمصر وهدمت كنائس محارس قسطنطين فبذل النصارى لسليمان بن علي أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار فأبى فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر واحتجا بأنّ بناءها من عمارة البلاد وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين فلما مات انبامسنا قدّم اليعاقبة بعده يوحنا فأقام ثلاثًا وعشرين سنة ومات‏.‏

وفي أيامه خرج القبط ببلهيت سنة ست وخمسين فبعث إليهم موسى بن عليّ أمير مصر وهزمهم وقدّم بعده اليعاقبة مرقعى الجديد فأقام عشرين سنة وسبعين يومًا ومات‏.‏

وفي أيامه كانت الفتنة بين الأمين والمأمون فانتُهبت النصارى بالإسكندرية وأحرقت لهم مواضع عديدة وأحرقت ديارات وادي هبيب ونهبت فلم يبق بها من رهبانها إلاّ نفر قليل‏.‏

وفي أيامه مضى بطرك الملكية إلى بغداد وعالج بعض خطايا أهل الخليفة فإنه كان حاذقًا بالطب فلما عوفيت كتب له بردّ كنائس الملكية التي تغلب عليها اليعاقبة بمصر فاستردّها منهم وأقام في بطركية الملكية أربعين سنة ومات ثم قدّم اليعاقبة بعد مرقص يعقوب في سنة إحدى عشرة ومائتين فأقام عشر سنين وثمانية أشهر ومات‏.‏

وفي أيامه عمرت الديارات وعاد الرهبان إليها وعمرت كنيسة بالقدس لمن يرد من نصارى مصر وقدم عليه ديونوسيس بطرك إنطاكية فكرمه حتى عاد إلى كرسيه وفي أيامه انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين فأوقع بهم الإفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد اللّه المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية فبيعوا وسبى أكثرهم ومن حينئذ ذُلت القبط في جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان وغلبهم المسلمون على عامّة القرى فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين وعملوا كتاب الخراج فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة يأتي ذكرها إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ثم قدّم اليعاقبة سيماون بطركًا في سنة اثنتين وعشرين ومائتين فأقام سنة ومات وقيل بل أقام سبعة أشهر وستة عشر يومًا فخلا كرسيّ البطاركة بعده سنة وسبعة وعشرين يومًا وقدّم اليعاقبة يوساب في دير بومقار بوادي هبيب في سنة سبع وعشرين ومائتين فأقام ثماني عشرة سنة ومات‏.‏

وفي أيامه قدم مصر يعقوب مطران الحبشة وقد نفته زوجة ملكهم‏.‏

وأقامت عوضه أسقفاَ فبعث ملك الحبشة يطلب إعادته من البطرك فبعث به إليه وبعث أيضًا عدّة أساقفة إلى إفريقية‏.‏

وفي أيامه مات بطرك إنطاكية الوارد إلى مصر في السنة الخامسة عشرة من بطركيته‏.‏

وفي أيامه أمر المتوكل على الله في سنة خمس وثلاثين ومائتين أهل الذمّة بلبس الطيالسة العسلية وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب وعمل كرتين في مؤخر السرج وعمل رقعتين على لباس رجالهم تخالفان لون الثوب قدر كلّ واحدة منهما أربع أصابع ولون كلّ واحدة منهما غير لون الأخرى ومن خرج من نسائهم تلبس إزارًا عسليًا ومنعهم من لباس المناطق وأمر بهدم بيعهم المحدثة وبأخذ العشر من منازلهم وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبًا وأن لا يشعلوا في الطريق نارًا وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض وكتب بذلك إلى الآفاق ثم أمر في سنة تسع وثلاثين أهل الذمّة بلبس دراعتين عسليتين على الذراريع والأقبية وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمير دون الخيل والبراذين‏.‏

فلما مات يوساب في سنة اثنتين وأربعين ومائتين خلا الكرسي بعده ثلاثين يومًا وقدم اليعاقبة قسيسًا بدير بحنس يدعى بميكائيل في البطركية فأقام سنة وخمسة أشهر ومات فدفن بدير بومقار وهو أوّل بطرك دفن فيه فخلا الكرسيّ بعده أحدًا وثمانين يومًا ثم قدم اليعاقبة في سنة أربع وأربعين ومائتين شماسًا بدير بومقار اسمه قسيما فأقام في البطركية سبع سنين وخمسة أشهر ومات فخلا الكرسيّ بعده أحدًا وخمسين يومًا‏.‏

وفي أيامه أمر نوفيل بن ميخائيل ملك الروم بمحو الصور من الكنائس وأن لا تبقى صورة في كنيسة وكان سبب ذلك أنه بلغه عن قيم كنيسة أنه عمل في صورة مريم عليها السلام شبه ثدي يخرج منه لبن ينقط في يوم عيدها فكشف عن ذلك فإذا هو مصنوع ليأخذ به القيم المال فضرب عنقه وأبطل الصور من الكنائس فبعث إليه قسيمًا بطرك اليعاقبة وناظره حتى سمح بإعادة الصور على ما كانت عليه ثم قدّم اليعاقبة ساتير بطركًا فأقام تسع عشرة سنة ومات فأقيم يوسانيوس في أوّل خلافة المعتز فأقام إحدى عشرة سنة ومات وعمل في بطركيته مجاري تحت الأرض بالإسكندرية يجري بها الماء من الخليج إلى البيوت‏.‏

وفي أيامه قدم أحمد بن طولون مصر أميرًا عليها ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل فأقام خمسًا وعشرين سنة ومات بعدما ألزمه أحمد بن طولون‏.‏

بحمل عشرين ألف دينار باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها وأرض الحبش ظاهر فسطاط مصر وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود وقرّر الديارية على كلّ نصرانيّ قيراطًا في السنة فقام بنصف المقرّر عليه‏.‏

وفي أيامه قُتل الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فلما مات شغر كرسيّ الإسكندرية بعده من البطاركة أربع عشرة سنة وفي يوم الاثنين ثالث شوّال سنة ثلاثمائة أحرقت الكنيسة الكبرى المعروفة بالقيامة في الإسكندرية وهي التي كانت هيكل زحل وكانت من بناء كلابطرة‏.‏

وفي سنة إحدى وثلاثمائة قدم اليعاقبة غبريال بطركًا

 

فأقام إحدى عشرة سنة ومات وأخذت في أيامه الديارية على الرجال والنساء وقدّم بعده اليعاقبة في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة قسيمًا فأقام اثنتي عشرة سنة ومات‏.‏

وفي يوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق ونهبوا ما فيها من الآلات والأواني وقيمتهما كثيرة جدًّا ونهبوا ديرًا للنساء بجوارها وشعثوا كنائس النسطورية واليعقوبية‏.‏

وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قدم الوزير عليّ بن عيسى بن الجرّاح إلى مصر فكشف البلد وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية فأدّوها ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر باللّه فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ من الأساقفة والرهبان والضعفاء جزية وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم‏.‏

وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة قدّم اليعاقبة بطركاَ اسمه‏.‏

فأقام عشرين سنة ومات وفي أيامه ثار المسلمون بالقدس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وحرّقوا كنيسة القيامة ونهبوها وخرّبوا منها ما قدروا عليه‏.‏

وفي يوم الاثنين آخر شهر رجب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة مات سعيد بن بطريق بطرك الإسكندرية على الملكية بعدما أقام في البطركية سبع سنين ونصفًا في شرور متصلة مع طائفته فبعث الأمير أبو بكر محمد بن طفج الإخشيد أبا الحسين من قوّاده في طائفة من الجند إلى مدينة تنيس حتى ختم على كنائس الملكية وأحضر آلاتها إلى الفسطاط وكانت كثيرة جدًّا فافتكها الأسقف بخمسة آلاف دينار باعوا فيها من وقف الكنائس ثم صالح طائفته وكان فاضلًا وله تاريخ مفيد وثار المسلمون أيضًا بمدينة عسقلان وهدموا كنيسة مريم الخضراء ونهبوا ما فيها وأعانهم اليهود حتى أحرقوها ففرّ أسقف عسقلان إلى الرملة وأقام بها حتى مات وقدم اليعاقبة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة تاوفانيوس بطركًا فأقام أربع سنين وستة أشهر ومات فأقيم بعده مينا فأقام إحدى عشرة سنة ومات فخلا الكرسيّ بعده سنة ثم قدم اليعاقبة افراهام بن زرعة في سنة ست وستين وثلاثمائة فأقام ثلاث سنين وستة أشهر ومات مسمومًا من بعض كتاب النصارى وسببه أنه منعه من التسرّي فخلا الكرسي بعده ستة أشهر وأقيم فيلاياوس في سنة تسع وستين فأقام أربعًا وعشرين سنة ومات وكان مترفًا‏.‏

وفي أيامه أخذت الملكية كنيسة السيدة المعروفة بكنيسة البطرك تسلمها منهم بطرك الملكية أرسانيوس في أيام العزيز باللّه نزار بن المعز وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدم اليعاقبة زخريس بطركًا فأقام ثماني وعشرين سنة منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز باللّه تسع سنين اعتقله فيها ثلاثة أشهر وأمر به فألقي للسباع هو وسوسنة النوبي فلم تضرّه فيما زعم النصارى‏.‏

ولما مات خلا الكرسي بعده أربعة وسبعين يومًا وفي بطركيته نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها وذلك أن كثيرًا منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك وكان لا يملك نفسه إذا غضب فقبض على عيسى بن نسطورس النصرانيّ وهو إذ ذاك في رتبة تضاهي رتب الوزراء وضرب عنقه ثم قبض على فهد بن إبراهيم النصرانيّ كاتب الأستاذ برجوان وضرب عنقه وتشدد على النصارى وألزمهم بلبس ثياب الغيار وشدّ الزنار في أوساطهم ومنعهم من عمل الشعانين وعيد الصليب والتظاهر بما كانت عادتهم فعله في أعيادهم من الاجتماع واللهو وقبض على جميع ما هو محبس على الكنائس والديارات وأدخله في الديوان وكتب إلى أعماله كلها بذلك وأحرق عدّة صلبان كثيرة ومنع النصارى من شراء العبيد والإماء وهدم الكنائس التي بخط راشدة ظاهر مدينة مصر وأخرب كنائس المقس خارج القاهرة وأباح ما فيها للناس فانتهبوا منها ما يجل وصفه وهدم دير القصير وانهب العامة ما فيه ومنع النصارى من عمل الغطاس على شاطئ النيل بمصر وأبطل ما كان يُعمل فيه من الاجتماع للهو وألزم رجال النصارى بتعليق الصلبان الخشب التي زنة كل صليب منها خمسة أرطال في أعناقهم ومنعهم من ركوب الخيل وجعل لهم أن يركبوا البغال والحمير بسروج ولجم غير محلاة بالذهب والفضة بل تكون من جلود سود وضرب بالحرس في القاهرة ومصر أن لا يركب أحد من المكارية ذمّيًا ولا يحمل نوتيّ مسلم أحدًا من أهل الذمة وأن تكون ثياب النصارى وعمائمهم شديدة السواد وركب سروجهم من خشب الجميز وأن يُعلق اليهود في أعناقهم خشبًا مدوّرًا زنة الخشبة منها خمسة أرطال وهي ظاهرة فوق ثيابهم وأخذ في هدم الكنائس كلها وأباح ما فيها وما هو محبس عليها للناس نهبًا وإقطاعًا فهُدمت بأسرها ونهب جميع أمتعتها وأقطع أحباسها وبني في مواضعها المساجد وأذن بالصلاة في كنيسة شنودة بمصر وأحيط بكنيسة المعلقة في قصر الشمع وكثر الناس من رفع القصص بطلب كنائس أعمال مصر ودياراتها فلم يردّ قصة منها إلاّ وقد وقع عليها بإجابة رافعها لما سأل فأخذوا أمتعة الكنائس والديارات وباعوا بأسواق مصر ما وجدوا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك وتصرفوا في أحباسها ووجد بكنيسة شنودة مال جليل ووجد في المعلقة من المصاغ وثياب الديباج أمر كثير جدًّا إلى الغاية وكتب إلى ولاة الأعمال بتمكين المسلمين من هدم الكنائس والديارات فعمّ الهدم فيها من سنة ثلاث وأربعمائة حتَى ذكر من يوثق به في ذلك أن الذي هدم إلى آخر سنة خمس وأربعمائة بمصر والشام وأعمالهما من الهياكل التي بناها الروم نيف وثلاثون ألف بيعة ونهب ما فيها من آلات الذهب والفضة وقبض على أوقافها وكانت أوقافًا جليلة على مبان عجيبة وألزم النصارى أن تكون الصلبان في أعناقهم إذا دخلوا الحمام وألزم اليهود أن يكون في أعناقهم الأجراس إذا دخلوا الحمام ثم ألزم اليهود والنصارى بخروجهم كلهم من أرض مصر إلى بلاد الروم فاجتمعوا بأسرهم تحت القصر من القاهرة واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أعفوا من النفي وفي هذه الحوادث أسلم كثير من النصارى‏.‏

وفي سنة سبع وأربعمائة وثب بعض أكابر البلغر على ملكهم قمطورس فقتله وملك عوضه وكتب إلى باسيل ملك قسطنطينية بطاعته فأقرّه ثم قُتل بعد سنة فسار الملك باسيل إليهم في شوال سنة ثمان وأربعمائة واستولى على مملكة البلغر وأقام في قلاعها عدّة من الروم وعاد إلى قسطنطينية فاختلط الروم بالبلغر ونكحوا منهم وصاروا يدًا واحدة بعد شدّة العداوة وقدّم اليعاقبة عليهم سابونين بطركًا بالإسكندرية في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة في يوم الأحد ثالث عشري برمهات فأقام خمس عشرة سنة ونصفًا ومات في طوبه وكان محبًا للمال وأخذ الشرطونية فخلا الكرسيّ بعده سنة وخمسة أشهر ثم قدّم اليعاقبة أخر سطوديس بطركًا في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة فأقام ثلاثين سنة ومات بالمعلقة من مصر وهو الذي جعل كنيسة بومرقوره بمصر وكنيسة السيدة بحارة الروم من القاهرة في أيام بطركيته فلم يقم بعده بطرك اثنين وسبعين يومًا ثم أقام اليعاقبة كيرلص فأقام أربع عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصفًا ومات بكنيسة المختار من جزية مصر المعروفة بالروضة في سلخ ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأربعمائة وعمل بدلة للبطاركة من ديباج أزرق وبلارية ديباج أحمر بتصاوير ذهب وقطع الشرطونية فلم يول بعده بطرك مدّة مائة وأربعة وعشرين يومًا ثم أقيم ميخائيل الحبيس بسنجار في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فأقام تسع سنين وثمانية أشهر ومات في المعلقة بمصر وكان المستنصر باللّه لما نقص نيل مصر بعثه إلى بلاد الحبشة بهدية سنية فتلقاه ملكها وسأله عن سبب قدومه فعرّفه نقص النيل وضرر أهل مصر بسبب ذلك فأمر بفتح سدّ يجري منه الماء إلى أرض مصر ففتح وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع واستمرّت الزيادة حتى رويت البلاد وزرعت ثم عاد البطرك فخلع عليه المستنصر وأحسن إليه‏.‏

وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قدّم اليعاقبة مقاري بطركًا بدير بومقار وكمل بالإسكندرية وعاد إلى مصر ثم مضى إلى دير بومقار فقدّس به ثم جاء إلى مصر فقدّس بالمعلقة فأقام ستًا وعشرين سنة وأحدًا وأربعين يومًا ومات‏.‏

فخلت مصر من بطرك اليعاقبة سنتين وشهرين وفي أيامه حدثت زلزلة عظيمة بمصر هدم فيها كنيسة المختار بالروضة واتهم الأفضل بن أمير الجيوش بهدمها فإنها كانت في بستانه‏.‏

رفي أيامه أبطل عوايد كثيرة للنصارى فبطلت بعده‏.‏

ثم قدّم اليعاقبة غبريال المكنى بأبي العلا صاعد بن تربك الشماس بكنيسة مرقوريوس في سنة خمس وعشرين وخمسمائة بالمعلقة وكمل بالإسكندرية وقدّس بالأديرة بوادي هبيب وأقام أربع عشرة سنة ومات فخلا بعده كرسيّ اليعاقبة ثلاثة أشهر‏.‏

ثم قدّم اليعاقبة ميخائيل بن التقدوسيّ الراهب بقلاية دمشري بطركًا فأقام مدّة سنة وسبعين يومًا ثم أقيم يونس أبو الفتح بطركًا بالمعلقة وكمل بالإسكندرية فأقام تسع عشرة سنة ومات في سابع عشري جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فخلا الكرسيّ بعده ثلاثة وأربعين يومًا وقدم مرقص بن زرعة المكني بأبي الفرج بطرك اليعاقبة بمصر وكمل بالإسكندرية فأقام اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر وخمسة وعشرين يومًا ومات وفي أيامه انتقل مرقص بن قنبر وجماعة من القنابرة إلى رأي الملكية ثم عاد إلى اليعقوبية فقبل‏.‏

ثم عاد إلى الملكية ورجع فلم يُقبل وكان هذا البطرك له همة ومروءة وفي أيامه كان حريق شاور الوزير لمصر في ثامن عشر هتور فاحترقت كنيسة بومرقورة وخلا بعده كرسيّ البطاركة سبعة وعشرين يومًا ثم قدم اليعاقبة يونس بن أبي غالب بطركًا في يوم الأحد عاشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وخمسمائة وكمل بالإسكندرية فأقام ستًا وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا ومات يوم الخميس رابع عشر شهر رمضان سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمعلقة بمصر ودفن بالحبش وكان في ابتداء أمره تاجرًا يتردّد إلى اليمن في البحر حتى كثر ماله وكان معه مال لأولاد الخباب فاتفق أنه غرق في بحر الملح وذهب ماله ونجا بنفسه إلى القاهرة وقد اّيس أولاد الخباب من مالهم فلما لقيهم أعلمهم أن مالهم قد سلم فإنه كان قد عمله في نقائر خشب مسمرة في المركب فصار لهم به عناية فلما مات مرقص بن زرعة سعى يونس هذا للقس أبي ياسر فقال له أولاد الخباب‏:‏ خذ أنت البطركية ونحن نزكيك فوافقهم وأقيم بطركًا فشق ذلك على أبي ياسر وهجره بعد صحبة طويلة وكان معه لما استقرّ في البطركية سبعة عشر ألف دينار مصرية أنفقها على الفقراء وأبطل الديارية ومنع الشرطونية ولم يكل لأحد من النصارى خبزًا ولا قبل من أحد هدية‏.‏

فلما مات قام أبو الفتوح نشو الخليفة بن الميقاط كاتب الجيش مع السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب في ولاية القس داود بن يوحنا بن لقلق الفيوميّ فإنه كان خصيصًا به فأجابه وكتب توقيعه من غير أن يعلم الملك الكامل محمد ابن السلطان فشق ذلك على النصارى وقام منهم الأسعد بن صدقة كاتب دار التفاح بمصر ومعه جماعة وتوجهوا سحرًا ومعهم الشموع إلى تحت قلعة الجبل حيث كان سكن الملك الكامل واستغاثوا به ووقعوا في القس وقالوا لا يصلح وفي شريعتنا أنه لا يقدّم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه فبعث الملك الكامل يطيب خواطرهم وكان القس قد ركب بكرة ومعه الأساقفة وعالم كثير من النصارى ليقدّهوه بالمعلقة بمصر وذلك يوم الأحد فركب الملك الكامل بشجو كبير من القلعة إلى أبيه بدار الوزارة من القاهرة حيث سكنه وأوقف ولاية القس فبعث المسلطان في طلب الأساقفة ليتحقق الأمر منهم فوافقهم الرسل مع القس في الطريق فأخذوهم ودخل القس إلى كنيسة بوجرج التي بالحمراء وبطلت بطركيته وأقاصت مصر بغير بطرك تسع عشرة سنة ومائة وستين يومًا‏.‏

ثم قدّم هذا القس بطركًا في يوم الأحد تاسع عشري شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين وستمائة فأقام سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام ومات يوم الثلاثاء سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين وستمائة ودفن بدير الشمع بالجيزة وكان عالمًا بدينه محبًا للرياسة وأخذ الشرطونية في بطركيته وكانت الديارات بأرض مصر قد خلت من الأساقفة فقدم جماعة أساقفة كثيرة بمال كثير أخذه منهم وقاسى شدائد ورافعه الراهب عماد المرشال ووكل عليه وعلى أقاربه وألزامه وساعده الراهب السني بن الثعبان وأشاع مثالبه وقال لا يصح له كُونية لأنه يقدّم بالرشوة وأخذ الشرطونية وجمع عليه طائفة كثيرة وعقد مجلسًا عند الصاحب معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وأثبت على البطرك قوادح فقام الكتاب النصارى في أمره مع الصاحب بمال يحمله إلى السلطان حتى استمر على بطركيته وخلا كرسيّ البطاركة بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يومًا‏.‏

ثم قدّم اليعاقبة ابناسيوس ابن القس أبي المكارم بن كليل بالمعلقة في يوم الأحد رابع شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة وكمل بالإسكندرية فأقام إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يومًا ومات يوم الأحد ثالث المحرّم سنة ستين وستمائة فخلت مصر من البطركية خمسة وثمانين يومًا‏.‏

وفي أيامه أخذ الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي الجوالي من النصارى مضاعفة وفي أيامه ثارت عوامّ دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد إحراقها ونهب ما فيها وقَتل جماعة من النصارى بدمشق ونَهْب دورهم وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد وقعة عين جالوت وهزيمة المغل‏.‏

فلما دخل السلطان الملك المظفر قطز إلى دمشق قرّر على النصارى بها مائة ألف وخمسين ألف درهم جمعوها من بينهم وحملوها إليه بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابك العسكر‏.‏

وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة كانت واقعة النصارى ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام الملك المنصور قلاون فكان النصارى يركبون الحمير بزنانير في أوساطهم ولا يجسر نصرانيّ يحدّث مسلمًا وهو راكب وإذا مشى فبذلة ولا يقدر أحد منهم يلبس ثوبًا مصقولًا فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشردْ خليل خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقوّوا نفوسهم على المسلمين وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم وكان منهم كاتب عند خاصكيّ يُعرف بعين الغزال فصدف يومًا في طريق مصر سمسار شونة مخدومه فنزل السمسار عن دابته وقبَّل رجل الكاتب فأخذ يسبه ويهدّده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير وهو يترفق له ويعتذر فلا يزيده ذلك عليه إلاّ غلظة وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ومعه عالم كبير وما منهم إلاّ من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار وكان قد قرب من بيت أستاذه فبعث غلامه لينجده بمن فيه فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم فصاحوا عليهم ما يحل ومرّوا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة واستغاثوا نصر الله السلطان فأرسل يكشف الخبر فعرّفوه ما كان من استطالة الكاتب النصرانيّ على السمسار وما جرى لهم فطلب عين الغزال ورسم للعامّة بإحضار النصارى إليه وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير سنجر الشجاعيّ وتقدّم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم فما زالا به حتى استقرّ الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر أن لا يخدم أحد من النصارى واليهود عند أمير وأمر الأمراء بأجمعهم أن يعرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه ومن أسلم استخدموه عندهم ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك فنزل الطلب لهم وقد اختفوا فصارت العامة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها حتى عمّ النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم وأخرجوا نساءهم مسبيات وقتلوا جماعة بأيديهم فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامّة وتلطف به حتى ركب وإلى القاهرة ونادى من نهب بيت نصراني شُنق وقبض على طائفة من العامة وشهرهم بعدما ضربهم فانكفوا عن النهب بعدما نبهوا كنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة ثم جمع النائب كثيرًا من النصارى كتاب السلطان والأمراء وأوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه فرسم للشجاعيّ وأمير جاندار أن يأخذا عدة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين ويضرموا عليهم الحطب نارًا فتقدّم الأمير بيدرا وشفع فيهم فأبى أن يقبل شفاعته وقال‏:‏ ما أريد في دولتي ديوانًا نصرانيًا فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته ومن امتنع ضربت عنقه فأخرجهم إلى دار النيابة وقال لهم‏:‏ يا جماعة ما وصلت قدرتي مع السلطان في أمركم إلاّ على شرط وهو أن من اختار دينه قُتل ومن اختار الإسلام خلع عليه وباشر فابتدره المكين بن السقاعيّ أحد المستوفين وقال‏:‏ يا خوند وأينا قوّاد يختار القتل على هذا الدين الخراء واللّه دين نقتل ونموت عليه يروح لا كتب الله عليه سلامة قولوا لنا الذي تختاروه حتى نروح إليه فغلب بيدرا الضحك وقال له‏:‏ ويلك أنحن نختار غير دين الإسلام فقال يا خوند‏:‏ ما نعرف قولوا ونحن نتبعكم فأحضر العدول واستسلمهم وكتب بذلك شهادات عليهم ودخل بها على السلطان فألبسهم تشاريف وخرجوا إلى مجلس الوزير الصاحب شمس الدين محمد بن السلعوس فبدأ بعض الحاضرين بالمكين بن السقايرّ وناوله ورقة ليكتب عليها وقال‏:‏ يا مولانا القاضي اكتب على هذه الورقة‏.‏

فقال‏:‏ يا بنيّ ما كان لنا هذا القضاء في خلد فلم يزالوا في مجلس الوزير إلى العصر فجاءهم الحاجب وأخذهم إلى مجلس النائب وقد جمع به القضاة فجدّدوا إسلامهم بحضرتهم فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره وما هو إلا كما كتب به بعضهم إلى الأمير بيدرا النائب‏:‏ أسلمَ الكافرونَ بالسيفِ قهرًا وإذا ما خلوا فهُم مُجرمونا سلِموا مِن رواحِ مال وروحٍ فهم سالِمون لا مُسلمونا وفي أخريات شهر رجب سنة سبعمائة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجًا وصار يركب إلى الموكب السلطانيّ وبيوت الأمراء فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرّعون إليه ويقبلون رجليه وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه‏.‏

فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا فلم يزده ذلك إلاّ عتوًّا وتحامقًا فرقّ المغربيّ لهم وهمّ بمخاطبته في أمرهم فقيل له وأنه مع ذلك نصراني فغضب لذلك وكاد أن يبطش به ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان والأمير بيبرس الجاشنكير وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله وتسليط عدوّهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم وأن الواجب إلزامهم الصَغَار وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم وحضر كبراء اليهود والنصارى وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود فأذعنوا إلى التزام العهد العمريّ وألزم بطرك النصارى طائفته النصارى بلبس العمائم الزرق وشد الزنار في أوساطهم ومنعهم من ركوب الخيل والبغال والتزام الصغار وحرّم عليهم مخالفة ذلك أو شيء منه وأنه بريء من النصرانية إن خالف‏.‏

ثم اتبعه ديان اليهود بأن أوقع الكلمة على من خالف من اليهود ما شرط عليه من لبس العمائم الصفر والتزام العهد العمريّ وكتب بذلك عدّة نسخ سيرت إلى الأعمال فقام المغربيّ في هدم الكنائس فلم يمكنه قاضي القضاة تقيّ الدين محمد بن دقيق العيد من دْلك وكتب خطه بأنه لا يجوز أن يهدم من الكنائس إلاّ ما استجد بناؤه فغلقت عدّة كنائس بالقاهرة ومصر مدّة أيام فسعى بعض أعيان النصارى في فتح كنيسة حتى فتحها فثارت العامة ووقفوا للنائب والأمراء واستغاثوا بأن النصارى قد فتحوا الكنائس بغير إذن وفيهم جماعة تكبروا عن لبس العمائم الزرق واحتمى كثير منهم بالأمراء فنودي في القاهرة ومصر أن يلبس النصارى بأجمعهم العمائم الزرق ويلبس اليهود بأسرهم العمائم الصفر ومن لم يفعل ذلك نُهب ماله وحُلّ دمه ومنعوا جميعًا من الخدمة في ديوان السلطان ودواوين الأمراء حتى يُسلموا فتسلطت الغوغاء عليهم وتتبعوهم لْمن رأوه بعْير الزيّ الذي رسم به ضربوه بالنعال وصفعوا عنقه حتى يكاد يهلك ومن مرّ بهم وقد ركب ولا يثني رجله ألقوه عن دابته وأوجعوه ضربًا فاختفي كثير منهم وألجأت الضرورة عدة من أعيانهم إلى إظهار الإسلام أنفة من لبس الأزرق وركوب الحمير وقد أكثر شعراء العصر في ذكر تغيير زيّ أهل الذمّة فقال علاء الدين علي بن مظفر الوداعي‏:‏ لقد ألزمَ الكُفارُ شاشاتَ ذلة تزيدُهُم من لعنةِ اللَّهِ تشويشا فقلتُ لهم ما ألبسوكُم عمائمًا ولكنهم قد ألزموكُم براطيشا

وقال شمس الدين الطيبي‏:‏ تعجبوا للنصارى واليهودِ معًا والسامريينَ لما عُمموا الخرقا كأنما باتَ بالأصباغِ منسهلًا نسرُ السماء فأضحى فوقهم زَرَقا فبعث ملك برشلونة في سنة ثلاث وسبعمائة هدية جليلة زائدة عن عادته عمّ بها جميع أرباب الوظائف من الأمراء مع ما خص به السلطان وكتب يسأل في فتح الكنائس فاتفق الرأي على فتح كنيسة حارة زويلة لليعاقبة وفتح كنيسة البندقانيين من القاهرة ثم لما كان يوم الجمعة تاسع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وسبعمائة هدمت كنائس أرض مصر في ساعة واحدة كما ذكر في أخبار كنيسة الزهريّ وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان وسبب الفحص عن ذلك كثرة تعاظم النصارى وتعدّيهم في الشرّ والإضرار بالمسلمين لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة والمغالاة في أثمانها والتبسط في المآكل والمشارب وخروجهم عن الحدّ في الجراءة والسلاطة إلى أن اتفق مرور بعض كتاب النصارى على الجامع الأزهر من القاهرة وهو راكب بخف ومهماز وبقباء إسكندريّ طُرح على رأسه وقدامه طرّادون يمنعون الناس من مزاحمته وخلفه عدّة عبيد بثياب سرية على أكاديش فارهة فشق ذلك على جماعة من المسلمين وثاروا به وأنزالوا عن فرسه وقصدوا قتله وقد اجتمع عالم كبير ثم خلوا عنه وتحدّث جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه فوعدهم بالإنصاف منهم فرفعوا قصة على لسان المسلمين قُرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة تتضمن الشكوى من النصارى وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان وقرأ القاضي علاء الدين عليّ بن فضل الله كاتب السرّ العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمّة وقد أحضروه معهم حتى فرغ منه فالتزم من حضر منهم بما فيه وأقرّوا به فعدّدت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل ثم يعودون إليها كما فعلوه غير مرّة فيما سلف فاستقرّ الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء ولو أظهروا الإسلام وأن لا يُكره أحد منهم على إظهار الإسلام ويُكتب بذلك إلى الأعمال‏.‏

فتسلطت العامّة عليهم وتتبعوا آثارهم وأخذوهم في الطرقات وقطعوا ما عليهم من الثياب وأوجعوهم ضربًا ولم يتركوهم حتى يُسلموا وصاروا يضرمون لهم النار ليلقوهم فيها فاختفوا في بيوتهم ولم يتجاسروا على المشي بين الناس فنودي بالمنع من التعرض لأذاهم فأخذت العامّة في تتبع عوراتهم وما علوه من دورهم على بناء المسلمين فهدموه واشتدّ الأمر على النصارى باختفائهم حتى أنهم فقدوا من الطرقات مدّة فلم ير منهم ولا من اليهود أحد فرفع المسلمون قصة قرئت في دار العدل في يوم الاثنين رابع عشر شهر رجب تتضمن أن النصارى قد استجدّوا عمارات في كنائسهم ووسعوها هذا وقد اجتمع بالقلعة عالم عظيم واستغاثوا بالسلطان من النصارى فرسم بركوب والي القاهرة وكشفه على ذلك فلم تتمهل العامّة ومرّت بسرعة فخرّبت كنيسة بجوار قناطر السباع وكنيسة بطريق مصر للأسرى وكنيسة الفهادين بالجوّانية من القاهرة ودير نهيا من الجيزة وكنيسة بناحية بولاق التكروري ونهبوا حواصل ما خرّبوه من ذلك وكانت كثيرة وأخذوا أخشابها ورخامها وهجموا كنائس مصر والقاهرة ولم يبق إلاّ أن يخرّبوا كنيسة البندقانيين بالقاهرة فركب الوالي ومنعهم منها واشتدت العامة وعجز الحكام عن كفهم وكان قد كُتِبَ إلى جميع أعمال مصر وبلاد الشام أن لا يُستخدمَ يهوديّ ولا نصراني ولو أسلم وأنه من أسلم منهم لا يمكن من العبور إلى بيته ولا من معاشرة أهله إلاّ أن يُسلموا وأن يُلزم من أسلم منهم بملازمة المساجد والجوامع لشهود الصلوات الخمس والجمع وأنّ من مات من أهل الذمة يتولى المسلمون قسمة تركته على ورثته إن كان له وارث وإلاّ فهي لبيت المال وكان يلي ذلك البطرك وكتب بذلك مرسوم قرئ على الأمراء ثم نزل به الحاجب فقرأه في يوم الجمعة سادس عشري جمادى الآخرة بجوامع القاهرة ومصر فكان يومًا مشهودًا‏.‏

ثم أحضر في أخريات شهر رجب من كنيسة شبرا بعدما هدمت إصبع الشهيد الذي كان يُلقى في النيل حتى يزيد بزعمهم وهو في صندوق فأحرق بين يدي السلطان بالميدان من قلعة الجبل وذرى رماده في البحر خشية من أخذ النصارى له فقدمت الأخبار بكثرة دخول النصارى من أهل الصعيد والوجه البحريّ في الإسلام‏.‏

وتعلمهم القرآن وإن أكثر كنائس الصعيد هُدمت وبُنيت مساجد وأنه أسلم بمدينة قليوب في يوم واحد أربعمائة وخمسون نصرانيًا وكذلك بعامة الأرياف مكرًا منهم وخديعة حتى يُستخدموا في المباشرات وينكحوا المسلمات فتم لهم مرادهم واختلطت بذلك الأنساب حتى صار أكثر الناس من أولادهم ولا يُخفي أمرهم على من نوّر الله قلبه فإنه يُظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهل ما يَعرف به الفطن سوء أصلهم وقديم معاداة أسلافهم للدين وحملته‏.‏

النصارى فرق كثيرة الملكانية والنسطورية واليعقوبية والبرذعانية والمرقولية وهم الرهاويون الذين كانوا بنواحي حران وغير هؤلاء‏.‏

فمنهم من مذهبه مذهب الحرّانية ومنهم من يقول بالنور والظلمة والئنوية كلهم يقرّون بنبوة المسيح عليه السلام ومنهم من يعتقد مذهب أرسطاطاليس‏.‏

والملكانية واليعقوبية والنسطورية متفقون على أن معبودهم ثلاثة أقانيم وهذه الأقانيم الثلاثة شيء واحد وهو جوهر قديم ومعناه أب وابن وروح القدس إله واحد وأن الابن نزل من السماء فتدرّع جسدًا من مريم وظهر للناس يحيي ويُبرئ وينبي ثم قُتِلَ وصُلب وخَرَجَ من القبر لثلاث فظهر لقوم من أصحابه فعرفوه حق معرفته ثم صعد إلى السماء فجلس عن يمين أبيه هذا الذي يجمعهم اعتقاده ثم إنهم يختلفون مْي العبارة عنه‏.‏

فمنهم من يزعم أنّ القديم جوهر واحد يجمعه ثلاثة أقانيم كل أقنوم منها جوهر خاص فأحد هذه الأقانيم أب واحد غير مولود والثالث روح فائضة منبثقة بين الأب والابن وأن الابن لم يزل مولودًا من الأب وأن الأب لم يزل والدًا للابن لا على جهة النكاح والتناسل لكن على جهة تولد ضياء الشمس من ذات الشمس وتولد حرّ النار من ذات النار‏.‏

ومنهم من يزعم أن معنى قولهم إن الإله ثلاثة أقانيم أنها ذات لها حياة ونطق فالحياة هي روح القدس والنطق هو العلم والحكمة‏.‏

والنطق والعلم والحكمة والكلمة عبارة عن الابن كما يُقال الشمس وضياؤها والنار وحرّها فهو عبارة عن ثلاثة أشياء ترجع إلى أصل واحد‏.‏

ومنهم من يزعم أنه لا يصحُ له أن يثبت الإله فاعلًا حكيمًا إلاّ أنه يثبته حيًا ناطقًا ومعنى الناطق عندهم العالم المميز لا الذي يخرج الصوت بالحروف المركبة ومعنى الحيّ عندهم من له حياة بها يكون حيًا ومعنى العالم من له عِلْم به يكون عالِمًا‏.‏

قالوا فذاته وعلمه وحياته ثلاثة أشياء والأصل واحد فالذات هي العلة للاثنين اللذين هما العلم والحياة والإثنان هما المعلولان للعلة ومنهم من يتنزه عن لفظ العلة والمعلول في صفة القديم ويقول أب وابن ووالدة وروح وحياة وعلم وحكمة ونطق‏.‏

قالوا والابن اتحد بإنسان مخلوق فصار هو وما اتحد به مسيحًا واحدًا وأن المسيح هو إله العباد وربهم ثم اختلفوا في صفة الاتحاد فزعم بعضهم أنه وقع بيمن جوهر لاهوتيّ وجوهر ناسوتي اتحاد فصارا مسيحًا واحدًا ولم يُخرج الاتحاد كلّ واحد منهما عن جوهريته وعنصره وأن المسيح إله معبود وأنه ابن مريم الذي حملته وولدته وأنه قُتل وصُلب وزعم قوم أن المسيح بعد الاتحاد جوهران أحدهما لاهوتيّ والآخر ناسوتيّ وأن القتل والصلب وقعا به من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وأن مريم حملت بالمسيح وولدته من جهة ناسوته وهذا قول النسطورية ثم يقولون أن المسيح بكماله إله معبود وأنه ابن الله تعالى الله عن قولهم وزعم قوم أن الاتحاد وقع بين جوهرين لاهوتيّ وناسوتيّ فالجوهر اللاهوتيّ بسيط كير منقسم ولا متجزئ وزعم قوم أن الاتحاد على جهة حلول الابن في الجسد ومخالطته إياه ومنهم من زعم أن الاتحاد على جهة الظهور كظهور كتابة الخاتم والنقش إذا وقع على طين أو شمع وكظهور صورة الإنسان في المرآة إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يوجد مثله في غيرهم حتى لا تكاد تجد اثنين منهم على قول واحد‏.‏

والملكانية تنسب إلى ملك الروم وهم يقولون أنّ الله اسم لثلاثة معان فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد‏.‏

واليعقوبية تقول أنه واحد قديم وأنه كان لا جسم ولا إنسان ثم تجسم وتأنس‏.‏

والمرقولية قالوا الله واحد وعلمه غيره قديم معه والمسيح ابنه على جهة الرحمة كما يقال إبراهيم خليل الله والمرقولية تزعم أن المسيح يطوف عليهم كل يوم وليلة والبوزغانية تزعم أن وعندهم لا بدّ من تنصير أولادهم وذلك أنهم يغمسون المولود في ماء قد أغلي بالرياحين وألوان الطيب في إجانة جديدة ويقرؤون عليه من كتابهم فيزعمون أنه حينئذٍ ينزل عليه روح القدس ويسمون هذا الفعل المعمودية وطهارتهم إنما هي غسل الوجه واليدين فقط ولا يُختتن منهم إلاّ اليعقوبية ولهم سبع صلوات يستقبلون فيها المشرق ويحجون إلى بيت المقدس وزكاتهم العشر من أموالهم وصيامهم خمسون يومًا فالثاني والأربعون منه عيد الشعانين وهو اليوم الذي نزل فيه المسيح من الجبل ودخل بيت المقدس وبعده بأربعة أيام عيد الفصح وهو اليوم الذي خرج فيه موسى وقومه من مصر وبعده بثلاثة أيام عيد القيامة وهو اليوم الذي خرج فيه المسيح من القبر بزعمهم وبعده بثمانية أيام عيد الجديد وهو اليوم الذي ظهر فيه المسيح لتلامذته بعد خروجه من القبر وبعده بثمانية وثلاثين يومًا عيد السلاق وهو اليوم الذي صعد فيه المسيح إلى السماء‏.‏

ولهم عيد الصليب وهو اليوم الذي وجدوا فيه خشبة الصليب وزعموا أنها وضعت على ميت فعاش ولهم أيضًا عيد الميلاد وعيد الذبح ولهم قرابين وكهنة فالشماس فوقه القس وفوق القس الأسقف وفوق الأسقف المطران وفوق المطران البطريق والسُكْرُ عندهم حرام ولا يحلُّ لهم أكل اللحم ولا الجماع في الصوم وكل ما يُباع في السوق ولم تعفه أنفسهم يباحُ أكله ولا يصحُ النكاح إلا بحضور شماس وقس وعدول ومهر ويحرّمون من النساء ما يحرّمه المسلمون ولا يحلُّ الجمع بين امرأتين ولا التسرّي بالإماء إلا أن يُعتقن ويُتزوج بهنّ وإذا خدم العبد سبع سنين عُتِقَ ولا يحل طلاق المرأة إلاّ أن تأتي بفاحشة مبينة فتطلق ولا تحل للزوج أبدًا وحدّ المحصن إذا زنى الرجم فإن زنى غير محصن وحملت منه المرأة تزوّج بها ومن قَتَلَ عمدًا قُتِل ومن قَتل خطأ يُهربُ ولا يحل طلبه وأكثر أحكامهم من التوراة وقد لَعِنَ منهم من لاط أو شهد بالزور أو قامر أو زنى أو سَكِرَ‏.‏


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com