Print

مكافحة الإرهاب: عزم العرب والتباس الغرب

 العرب محمد قواص

فيما استبشر المحللون بأن الانتفاضات أسقطت رؤى الجهاديين، فإن 'إنجازات' القاعدة تعكس انتعاشا عبد طريقه ما لاح من أن الإسلام السياسي يترجل حاكما في بلدان 'الربيع'.

لم تعدْ عملية مكافحة الإرهاب همّاً تحتكر مكافحته واشنطن وحلفاؤها الغربيون. انتقل الأمر من دهاليز أجهزة الأمن الدولية باتجاه غرف عمليات تلك المحلية. لم يعدْ تعبيرُ الإرهاب ملتبساً يوضع بين مزدوجين أو يُسبق بصيغة “ما يسمى”، بل أصبح تعبيراً مباشراً مُداناً من قِبَلِ المنطقة العربية أنظمة وأجهزة وإعلاماً ومجتمعاً مدنيا.

لم يعدْ الإرهاب ظاهرةً هامشيةً عابرةً طارئةً في بلادنا. فمنذ أن أطل “الربيع” على العرب، أصبح هذا الإرهاب شريكاً مضارباً في قسمة إرث من قضى، أو في تهديد بقاء من بقى. وفيما استبشرَ المحللون خيراً بأن الانتفاضات الجماهيرية هنا وهناك أسقطت رؤى الجهاديين وأبطلت معادلاتهم، فإن “إنجازات” القاعدة وأخواتها تعكسُ انتعاشاً تاريخياً وفّرته حالات الفوضى والعبث، كما عبّد طريقُه ما لاحَ من أن الإسلام السياسي الإخواني يترجلُ حاكماً في بلدان “الربيع”.

أخطأ الغربيون حين اعتبروا أن رعايتهم لقاطرة الإخوان بقيادة أنقرة ستؤدي إلى استيعاب قوى التطرف داخل الحراك الإسلامي الحاكم. في ذلك الاعتبار شيءٌ جديرٌ بالتأمل، ذلك أن خبراء “الجماعات” في العالم كانوا يتوقعون عودة الجهاديين إلى تحت العباءة التي خرجوا منها أصلاً. لكن المقاربةَ الاستشراقية تلك، أغفلت أن شروط الحكم الإخواني لم تكن تروم تدجينَ تلك الجماعات، بل استخدامها أدوات لتمكين وتحصين وحماية آليات الحكم الجديد.

ما أراده الغرب تفريقاً تبسيطيا، وربما ساذجاً، بين اعتدال وتطرف، انتهى إلى تضخّم يتأسسُ على قيام دولة الشريعة و”الحكم بما انزل الله” وفق روايات متعددة متنوعة بين ما هو إخواني وسلفي وجهادي ودعوي. في ميكانزمات الغاية اتفق الغرب والإخوان على هدف السلطة ترياقاً، لكن وسائل ذلك أتت بغير ما تشتهي سفن واشنطن وحلفائها.

فجأة بدا أن ما اعترفت به هيلاري كلينتون من مسؤولية واشنطن في ترويج ظاهرة الجهاد والجهادييين منذ أفغانستان، يستمرُ بالانسحاب حتى السنوات الأخيرة على المنطقة، من خلال دعم واضح لسياق “ديمقراطي” بليد يأتي بالإسلام السياسي حاكماً. وإذا ما   انقلب الجهادُ الأفغاني، بطبعتيْ القاعدة وطالبان، على “الصديق” الأميركي، فإن مقتلَ السفير الأميركي في ليبيا على يد تلك الجماعات هي إعادة مُملة لحكاية قديمة بين الغرب والجهاديين.

في التباسِ تلك الحكاية وتفاقمِ وقعها، يتحركُ الجيش اليمني في حملة غير مسبوقة ضد القاعدة في اليمن، فيما تأتي خارطة طريق عبد الفتاح السيسي وحراك المؤسسة العسكرية المصرية لتحسم خيارات التعامل مع الإرهاب، ويخلط نوري المالكي حساباته الداخلية ويحرك جيشه نحو الأنبار تحت مسمى مكافحة الإرهاب، ويختلط الأمر في سوريا بين نظام ومعارضة على وقع ادعاء كل منهما محاربة الإرهاب، ويطلُّ اللواء خليفة حفتر في ليبيا واضعاً حراك “جيشه الوطني” في إطار مكافحة الإرهاب وتخليص بلاده من عبث الجماعات.

بدا للمراقب أن الربيع العربي مثّل استدارة طويلة ودراماتيكية للعودة بأنماط متباينة نحو الدولة، حتى في أشكالها القديمة “العميقة”. وما هو قديم عند العرب لا يمتُّ للديمقراطية والحداثة بالمعنى الغربي بصلة. تمثّل الدولة منذ الاستقلال السلطة الواحدة والقوة الفارضة للأمن والاستقرار، أياً تكن وسائل ذلك. وإذا ما كان المتفائلون تأملوا أن ينقلهم الربيع العربي إلى “الدولة الفاضلة”، فإن أغلبية من صنعوا هذا الربيع، وليس من التحق به انتهازاً، باتوا يائسين من حال الفوضى والعبث التي لا تنتهي، مبشّرين بسلطة العزم والحزم لفرض الأمن والاستقرار، حتى لو كان ثمن ذلك تأجيل الديمقراطية بنموذجها الغربي لعدة عقود، على ما حسمه “المرشح” عبد الفتاح السيسي في مصر.

حراك العسكر في مصر كما في ليبيا، كما هو نسبيا في اليمن، لا تواجهه قوى مدنية حداثية تغييرية، لا بل بإمكاننا اعتبارها رافعة مروّجة لهذا الحراك، بل يلقى معارضةً في السياسة والأمن من قِبل القوى الإسلامية وشركائها. وربما انتخاب عبد العزيز بوتفليقة لولاية جديدة، رغم اعتراض المعترضين، يعكس مثالاً آخراً على استسلام العامة والنخب على السواء لفكرة الاستقرار والمحافظة، بدل المغامرة في أي تغيير.

وإذا ما ذهبت الحالة المصرية بعيدا في جهدها الإستئصالي ضد الاخوان والجهاديين، فإن حالتي اليمن وليبيا تحتاجان إلى مراقبة وتأمل. فالسمات القبائلية الملتصقة بالحالتين تجعل حساب الأرباح والخسائر أكثر تعقيداً يصعب إدراكه ببساطة. في الحالة اليمنية يتحركُ الجيش متكئا على إجماع مجتمعي خرج من آليات الحوار وقراراته، وينطلقُ مستنداً على شرعية تاريخية، ثم ثورية، لا لُبس فيها.

في الحالة الليبية، يبدو حراك خفتر وكأنه يمثّل موجة ثانية بعد الأولى في “17 فبراير” يتحرى شرعية يبارز فيها برلماناً تنقصه الشرعية، ورئيس وزراء وحكومة يلهثون نحو شرعية عرجاء، وجماعات وفصائل تحتل الفضاء العام منذ سقوط القذافي ونظامه.

ينشطُ المشهدُ المحليّ في مكافحته “الحاسمة” للإرهاب على خلفية دولية ضبابية مترددة. يكفي تأملُ الموقف الغربي من التطورات في مصر وليبيا واليمن، كما تلك في سوريا (وحتى في العراق)، لملاحظة هذا التلعثم في عملية لطالما كانت حاسمة جازمة في عهد بوش الابن في البيت الأبيض. تُحرّك واشنطن المارينز من قاعدتها في صقلية باتجاه تلك في أسبانيا “تحسباً لتطورات ما في شمال أفريقيا”، دون أن يصاحب ذلك موقف واضح مما يجري في ليبيا منذ “عملية الكرامة” التي أطلقها حفتر. وفيما يحمّل “المشير” في مصر هذا الغرب مسؤولية أخلاقية في ما آلت اليه أمور الجارة ليبيا، ينأى هذا الغرب بنفسه عن الخوض في ما أصبح ربما غامضاً في منطقتنا.

من حقّ المراقب أن يتأمل توقيت الحراك في ليبيا عشية الانتخابات الرئاسية في مصر. ومن حقّ المراقب أن يعتبر التفصيل الليبي مكمّلا لذلك المصري. ومن حقّ المراقب أن يرى في حراك “حفتر” انعكاساً لقلق أبداه “السيسي” ولأداء يتجاوزُ الحدود لطالما لمّح إليه. على أن حشود الجزائر على الحدود، واهتمام تونس بمراقبة الشأن الليبي، يدلُ أن الشأن الليبي لم يعد ليبياً، وأن حراك المارينز كما حراك دول الجوار يؤسس لمقاربة أخرى لحالات العبث في المنطقة.

وإذا ما كانت قيادات ليبية عسكرية ودبلوماسية وسياسية قد هرولت لدعم اللواء خفتر، بعد لحظات تردد، فإن ذلك عائد إلى إدراك بتبدل مزاج الليبيين كما المزاج الدولي العام باتجاه خيارات الرجل. وإذا ما لاحَ ردُّ فعل داخلي يهدد بحرب أهلية، فإن حسماً واضحاً جلياً تُبديه البيئتان الإقليمية والدولية كفيل بسحب البساط والغطاء من تحت، وفوق، القوى المعاندة.

تحرك الفرنسيون بقوة ضد الإرهاب في مالي، ويجري نقاش حول سبل مكافحته ضد بوكو حرام في نيجيريا. تستمر دول شمال أفريقيا في استنفار قواها لضرب الإرهاب القديم، وذلك القادم من وراء الحدود الليبية، وتستمر الأدوات الأطلسية في التحرك جواً لملاحقة بؤر الإرهاب في باكستان واليمن. وإذا ما جرى الالتحام الحقيقي بين القوى الدولية وتلك المحلية (لاحظ التشريعات الخليجية الأخيرة ضد الإرهاب)، فإن عنوان مكافحة الإرهاب سيكون كلمة السرّ التي قد تجتاحُ المنطقة من اليمن انتهاء بليبيا، والذي قد يؤسس لمدخل ما لتسوية الأزمة في سوريا. الخارج الذي يبتعد عن ميدان سوريا، قد يضطر وقوى المنطقة للتدخل علنيا ومباشرة لوقف انزلاق البلد وجيرانه نحو أتون الإرهاب الذي أصبح خارج السيطرة متمرداً على احتمالات أية تسوية.

صحافي وكاتب سياسي لبناني