Print

   

الأنبا ميخائيل كما عرفته

بقلم منير بشاى

          بالنسبة لى، وللغالبية الساحقة من شعب اسيوط، كان الأنبا ميخائيل هو المطران الوحيد الذى عرفناه فى حياتنا لايبارشية اسيوط.  استمرت حبريته ما يقرب من سبعة عقود (68 سنة)، وقبله كان الكرسى شاغرا لعدة سنوات بعد ان اصبح مطران اسيوط السابق الانبا مكاريوس بطريركا.

        سيم الأنبا ميخائيل مطرانا لأسيوط وهو بعد فى الخامسة والعشرين من عمره.  ولكن ذلك الشاب الحديث السن كان عملاقا فى شخصيته، حازما فى أرائه، وحاسما فى قراراته، ينفذها على الجميع دون تفرقة.

  كانت أوائل القضايا التى واجهت المطران الشاب هو إقرار مبدأ التعامل بالمسواة بين افراد الشعب فى أسيوط.  كانت العادة ان يمشى المطران فى مواكب جنازات أعيان البلد التى تبدأ من قصورهم وتمر بشوارع البلد الرئيسية الى ان تصل الى مقر المطرانية.  وكانت اسيوط زاخرة بعدد من العائلات ذات الثراء الغير العادى مثل عائلات ألكسان ودوس وويصا وخياط وغيرهم.  فعندما توفى أحد هؤلاء الاعيان طلبوا من الانبا ميخائيل ان يمشى فى جنازته ولكنه رفض.  وحدث صدام بين المطران والاعراف السائدة وقتها والتى كانت تعطى الاغنياء امتيازات خاصة.  وانتظر االشعب نتيجة هذا الصدام بقلق.  ولكن فى النهاية كانت كلمة المطران هى التى نفذت.  واولئك الذين لم يعجبهم قراره غضبوا فترة ولكنهم اضطروا فى النهاية الى قبول الوضع والخضوع له.

        فى المقابل اقر الانبا ميخائيل مبدأ عاما طبقه على الجميع بالتساوى وهو انه فى حالات الوفاة كان يذهب هو شخصيا الى سرادق العزاء ليقوم بواجب العزاء.  ولا انسى عندما توفى والدى وكنت صبيا صغيرا ان الانبا ميخائيل جاء للمواساة وطلب ان يجتمع معنا جميعا ابناء المتوفى ليقدم لنا كلمات التعزية التى ما تزال عالقة بذهنى رغم مرور الزمن الطويل.

        كان الانبا ميخائيل لطيفا عطوفا مع الضعفاء ولكنه كان اسدا فى الحق، لا يلين ولا يهادن.  لم يكن يحسب العواقب او يغير المواقف طبقا لشدة العاصفة، او تحسبا لمن هو وراء العاصفة.  وكان عندما تشتد الازمات يعلن الحداد ولا يتقبل التهنئة فى الاعياد فيأمر بغلق بوابة المطرانية ويرفض استقبال الزوار حتى وان كانوا من كبار المسئولين.

        كانت للأنبا ميخائيل مواقف جريئة مع المحافظ المتعصب محمد عثمان اسماعيل.  وهو الذى انشأ جامعة الأزهر فى أسيوط لترجيح كفة التعليم الجامعى لصالح المسلمين نكاية فى شعب اسيوط المسيحى.  ويقال انه هو الذى اوعز للسادات باكذوبة ان الاقباط ينوون اقامة دولة قبطية فى صعيد مصر عاصمتها اسيوط.  ويقال ان هذا كان له الاثر فى قرارات السادات فى خريف 1981 بتحديد اقامة قداسة البابا شنودة فى الدير والقبض على العديد من الأساقفة والكهنة واراخنة الشعب.  وظن ذلك الحافظ انه وجد فرصته للوقيعة بين الانبا ميخائيل والشعب القبطى.  فطلب من الأنبا ميخائيل ان يصحبه لمقابلة السادات فى القاهرة لتهدئة الأمور.  سافر الاثنان على طائرة خاصة وتقابل الأنبا ميخائيل مع السادات ثم خرجا معا ليفاجأ بالسادات يعانقه بينما كان المصور جاهزا ليلتقط الصورة.  وتنشر الصحف المصرية صورة العناق لتظهر الأنبا ميخائيل وكأنه كان راضيا بالسادات وبقراراته.  وطبعا كان هذا عاريا من الصحة، وقد كشفت الأيام الحقيقة، واظهرت كيد الكائدين.

        على المستوى الشخصى كانت لى عدة معاملات مع الانبا ميخائيل اذكر هنا بعضها.

        فى سنة 1992عندما تم الاعتداء على قرية ويصا التابعة لأسيوط، والتى استشهد فيها 14 قبطيا، اتصلت من لوس انجلوس لأعزى الانبا ميخائيل.  كنت اتوقع ان يرد على سكرتيره وان اترك رسالة للمطران على احسن تقدير.  ولكن رد على مكالمتى شخص ظننته السكرتير فطلبت منه ان يحولنى الى الانبا ميخائيل اذا امكن، ففوجئت به يقول لى: انا المطران اتفضل اتكلم.  ارتبكت قليلا ولكننى استجمعت قواى لأقول له إننا نقدم لنيافتك التعازى ثم سألته اذا كان هناك شىء يريدنا ان نعمله.  رد على بحزم انهم لا يحتاجون لشىء لأن الله هو الذى يسندهم فى كل الظروف.

        ولكن كمحاولة للمساهمة فى مساعدة الأسر المنكوبة فى القرية فتحنا باب التبرع وتجمع لنا مبلغا من المال أرسلناه لأسيوط باسم الانبا ميخائيل لتوزيعه على هذه الأسر.  وفى مكالمة اخرى اتصلت بنيافته لأتأكد من وصول الخطاب وعدم وجود مشكلة فى صرف الشيك.  وفى المكالمة لامنى الأنبا ميخائيل كثيرا على ارسال المبلغ، مؤكدا ان الله يقوم بسداد كل احتياجاتهم، ولم ينهى المكالمة الا بعد ان تعهدت له بعدم تكرار هذا فى المستقبل.

        اما قمة تعاملى مع الانبا ميخائيل فكانت زيارتى له فى ابريل 2007 عندما سافرنا من لوس انجلوس لزيارة مسقط راسى مدينة اسيوط بعد غياب 28 عاما من الزيارة السابقة.

        استرعى انتباهى فى مقابلتى للأنبا ميخائيل ذاكرته الحادة رغم تقدمه فى السن.  كان يروى التفاصيل الدقيقة لمكالماتى معه. وكان فى كلامه يستخدم الجماليات اللغوية التى يجيدها مثل السجع والجناس والطباق بتلقائية عجيبة ودون تكلف.  وفى النهاية وضع صليبه الخشبى على جبهتى بالبركة وكان يخبط به بقوة وهو يصلى.  احسست ببركة غامرة تسرى فى كيانى، (كما حمدت الله ان الصليب كان من خشب).  ولكن توجيهاته وتشجيعه بالنسبة لنشاطنا فى المهجر كان يدل على ان هذا الرجل، الذى يعيش فى صعيد مصر، على دراية واسعة بما يجرى حول العالم.  وكانت له رؤية متوازنة فى فهم الروحيات بالمقارنة بالمسئوليات الدنيوية التى نحن مطالبون بها ما دمنا فى الحياة.

        شىء لفت نظرى فى تلك الزيارة.  فبعد غيبة طويلة، رأيت مصر التى لم اكن أعرفها.  رأيت عمارات ربما لم يعاد طلاء واجهتها منذ بنائها.  ورأيت قصورا والى جانبها بيوتا متواضعة بعضها لا يصلح لسكنى الأدميين.  رأيت الماديات تسيطر على تفكير الناس رغم الفقر المدقع للبعض والغنى الفاحش للبعض الآخر.  ورأيت النظافة الغائبة والنظام المفقود والقمامة التى تملأ الشوارع وتزكم الأنوف.  هذا بصفة عامة، الا من مكان واحد، كان مثل واحة يانعة وسط صحراء كبرى قاحلة.

        هذا المكان لم يكن فى الاحياء الغنية مثل الزمالك او جاردن سيتى ولكنه كان فى قرية مغمورة فى اسيوط اسمها درنكة حيث يقع دير العذراء أعلى الجبل.  وكنا ونحن صغار نتسلق الطريق الوعر فى الجبل لنصل الى الدير، الذى كان من شدة صعوبته يسمى "العقبة".  ولكننى فوجئت انه اصبح هناك طريقا مرصوفا يتسع للعربات التى تأخذك الى أعلى الجبل.  المغارات فى ذلك الجبل تحوّلت الى كنائس فخمة.  و تم بناء الشاليهات الجميلة  فى قلب الجبل لتستقبل من يريد من ابناء الشعب ان يقضى فترة خلوة روحية.  الدير كله كان على درجة من النظام والنظافة والانضباط وكأنه قطعة من اوروبا.  وقد عرفت السبب ان وراء هذا كان الأنبا ميخائيل الذى يحرص على الانضباط الكامل فى كل شىء ليس مجاراة للأجانب ولكن تمسكا بالاخلاقيات المسيحية الصحيحة.

        وداعا أبينا الحبيب الأنبا ميخائيل.  نٍسأل الله نياحا لروحك الطاهرة فى حضن القديسين، وأن ينفعنا بسيرتك العطرة لنقتدى بإيمانك.  وان يعطى شعب اسيوط راعيا صالحا يسد الفراغ من بعدك.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.