Print

نغمة كراهية أمريكا..

بقلم منير بشاى

 

      أعود الى الموضوع القديم الجديد، وهو كراهية أمريكا، فى اعلامنا العربى، وامامنا اليوم مثالا جديدا على ذلك.  الكراهية من اسمها شعور كريه، والكلام عنها امر كريه، ولكن عدم ادانة الكراهية اكثر كراهية.  وعندما ارى محاولات للكراهية كذبا وعدوانا يتحتم على ان اتكلم وإلا اكون بسكوتى شريكا متضامنا مع الكارهين.  الكراهية ضد الغرب التى يروجها اعلامنا العربى لها جذورها العنصرية والدينية وهى التى تنتج الاعتداءات الارهابية ضدهم مثل ما حدث أخيرا مع الجريدة الساخرةشارلى ايبدو فى فرنسا.  والكراهية تختلف عن النقد الموضوعى، النقد الموضوعى يتناول القضايا ويحللها ويرفض الردىء منها، بينما الكراهية تتجه الى الاشخاص وترفضهم لذاتهم و بدون سبب.

      منذ ايام احمد سعيد، فى ستينات القرن الماضى، واعلامنا العربى لم يتوقف لحظة عن العزف على نغمة كراهية امريكا.  وقد وصلنى مؤخرا فيديو تم بثه فى برنامج صباح أون من قناة صدى البلد.  والفيديو يحمل عنوان "فيديو يكشف حقيقة ادعاءات امريكا بالحفاظ على حقوق الانسان"  ومن العنوان نعرف ان ادانة امريكا هى الهدف وان الفيديو من المفروض انه يقدم الدليل.

       قادنى حب الاستطلاع الى مشاهدة الفيديو لأجد المذيع رامى رضوان يكلم زميلته "خلينا نبدأ من عند ماما امريكا اللى بتدّعى انها بتحافظ على حقوق الانسان تعال نشوف الفيديو ده "  ويتم عرض الفيديو الذى يظهر رجل شرطة امريكى يوجه لكمات لرجل أمريكى يجلس على كرسى متحرك.  وبعد ذلك يستمر المذيع رامى رضوان لعدة دقائق فى موال يلقى فيه جامات غضبه على امريكا التى – حسب قوله - لا رحمة لديها لمعاق ولا تعرف معنى حقوق الانسان.

      وهذا بعض ما قاله: "الولايات المتحدة الامريكية وجمعياتها وادارتها ومؤسساتها صدّعوا دماغنا بحقوق الانسان... يروحوا يشوفوا اللى بيحصل فى بلدهم قبل ما يجوا يكلمونا.  احنا مش ضد حقوق الانسان ولا نتوانى ابدا فى الرد على من يتعدى على حقوق الانسان بل نحذّره ونلومه..ولكن فاقد الشىء لا يعطيه.. هل فيه قانون فى الدنيا يسمح بهذا؟ اين الرحمة؟  يا اخى ارعى حقوق الانسان فى بلدك أولا وبعد ذلك ابقى تعال اتكلم."

       بالمناسبة رامى رضوان هو نفسه من قال ان العملية الارهابية الأخيرة فى باريس كانت من صنع البوليس الفرنسى "لتصدير فكرة العداء لليهود لكى يكسب اليمين المتطرف الانتخابات فى اسرائيل!"  وهى عبقرية يصعب على البسطاء مثلى ان يفهموها كيف ان البوليس الفرنسى يضحى برجاله وبالعدد الكبير من مواطنى بلده ويعرض نفسه للمساءلة لا لشىء الا ليخدم طموحات تيار سياسى فى بلد آخر!

      نعود الى موضوعنا، واعترف ان الفيديو اثار غضبى انا ايضا.  وهذا دفعنى الى الذهاب الى المصادر الاصلية لأعرف الحقيقة، ولأشاهد الفيديو الاصلى (دون مونتاج).  وهذا ملخص ما وجدته:

1-الحدث وقع فى مدينة دولاث محافظة سانت لويس التابعة لولاية ميناسوتا بالولايات المتحدة.  اسم الضابط ريتشارد جوبى (34 سنة) واسم المعتدى عليه انتونى جاكسون (50 سنة)

2-الحدث وقع فى 21 سبتمبر 2012 اى قبل اكثر من سنتين من تاريخ اذاعته فى مصر فى 10 ديسمبر 2014.  ولا ادرى ما الذى فجّر هذه القصة الآن فى اعلامنا المصرى؟  هل هناك من يحاول التنقيب بحثا عن شىء يلوم به امريكا؟  فعثر على هذه القصة القديمة التى انتهى زمانها وكل طرف فيها ظهر امام القضاء واخذ حقه القانونى؟

3-الرجل المضروب انتونى جاكسون ليس بالبراءة التى يصورونها فى مصر.  فالرجل يعيش فى مبنى تابع للحكومة.  وفى ليلة 21 سبتمبر 2012 وصلت للشرطة استغاثة من الجيران ان جاكسون الذى كان تحت تاثير المسكر قام بالتعارك والاعتداء على جارين له فى شقتين مجاورتين وهددهما باستعمال ما بحوزته من سلاح وهو مسدس عيار .38 وآخر عيار .45

4-جاءت الشرطة واقتادت جاكسون الى غرفة الانعاش فى المستشفى القريب لافاقته من تاثير المسكر. وكان جاكسون يجلس على كرسى متحرك ليس لاعاقته او لعجزه عن المشى ولكن لأن هذه هى الاجراءات المتبعة لكل من يدخل المستشفى للعلاج ويستمر على الكرسى الى ان يخرج منها.

5-بعد انتهاء الاجراءات الطبية حاول الضابط ريتشارد جوبى وضع القيود على يديه ولكن جاكسون قاومه وسدد لكمة للضابط.  هذا الجزء محذوف من الشريط الذى بث فى مصر.  هل عن قصد؟

6-ردا على هذا وجه الضابط عدة لكمات لجاكسون ثم القاه على الارض.  الضرب يبدو انه زائد عن الحد ولكن الضابط برره بانه كان يحاول وضع جاكسون فى وضع يستطيع معه السيطرة عليه.

7-الملاحظ فى الفيديو انه كان هناك ضابط آخر واقفا ولم يشترك مع ريتشارد جوبى فى الضرب مما ينفى وجود عنف جماعى من رجال الشرطة ضد الرجل.  كما ان الملاحظ ان الضابط والمعتدى عليه كانا كلاهما ينتميان للجنس الابيض مما ينفى احتمال العنصرية كدافع.

8-استرضاء للرجل المضروب قررت النيابة اسقاط التهم الموجهة ضده.  هذه التهم هى الاعتداء على الجيران ومقاومة القبض والاعتداء المبدئى ضد ضابط الشرطة. اما الضابط فقد قررت النيابة ايقافه عن العمل وتحويله للتحقيق فى التهم المنسوبة له كخطوة نحو عرضه على القضاء.

9-  التحقيق الادارى لجهاز الشرطة وجد الضابط جوبى قد ارتكب اربعة اخطاء تتنافى مع سياسة الشرطة فى تناوله للحادثة.  ونتيجة لذلك تقرر فصله نهائيا من الخدمة فى 15 اكتوبر 2012.

10-                     بلنسبة للشق الجنائى اصدرت هيئة المحلفين فى 20 يونيو 2014 حكمها باجماع الاصوات بتبرءة الضابط من كل التهم الجنائية المنسوبة له.  هيئة المحلفين هيئة مستقلة تتكون من 12من المواطنين العاديين ويتم اختيارهم بواسطة محاميى الطرفين ويستبعد منها من يشتبه فى تحيزه.

    من هذا لا يسع المرء الا ان يتساءل على اى اساس يكيل المذيع المصرى الاتهامات ضد أمريكا؟  هل هذا لأن ضابطا امريكيا، اتهم فى واقعة عنف ضد مواطن امريكي، ومع ان القضاء الأمريكى برأه فى الشق الجنائى ولكن التحقيق الادارى أدانه اداريا وفصله من عمله؟  وهل هذا معناه ان امريكا كدولة ملومة فى مجال حقوق الانسان؟  ماذا كان على امريكا ان تفعله فى هذه الحادثة غير ما فعلت؟

      وهل سمعنا هذا المذيع مرة ينزعج ويعترض بنفس القوة والحماس على ما يحدث فى مصر؟ هل ضايقه مثلا اعتقال رجل اسمه محمد حجازى كانت كل جريمته انه اعتنق الديانة المسيحية؟  هل قال هو او غيره كلمة واحدة دفاعا عن الرجل؟  هل ادانوا تعذيبه واحتجازه فى غرفة الاعدام كوسيلة لارهابه نفسيا والتى استمر  موجودا فيها رغم تقديم الشكاوى على اعلى المستويات دون استجابة؟

      خلاصة القول اننا بصدد حالة واضحة لخلط المعايير.  يحدث هذا الخلط عندما تتهم دولة بأكملها بخرق حقوق الانسان نتيجة وجود ضابط شرطة واحد تجاوز ونال عقابه.  هذا بينما يتم غض النظر عن انتهاكات دولة اخرى اصبح خرق حقوق الانسان فيها اسلوب حياة ياتى من أعلى السلطات.  يحدث هذا بينما اعلامنا يرى هذا حوله ولكنه يختار ان يتظاهر بانه أعمى وأصم وأبكم.  ولكن اعلامنا يبحث دائما عن عيوب فى الغير، بل وما يقدمه لنا على انه عيوب، بينما هى أكاذيب وتلفيقات.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.