Print

رحلات المصير!

بقلم منير بشاى

      الحياة مجموعة من الرحلات، بعضها عادى وبعضها مصيرى.  هى رحلات نقوم بها بارادتنا، او تفرضها علينا ظروف الحياة، او هى قرار الهى.  تبدأ هذه الرحلات المصيرية برحلة مولدنا فى هذه الدنيا، وبعد فترة نواجه برحلة الانتقال من مرحلة الدراسة والاعتماد على الولدين الى مرحلة العمل والاعتماد على الذات، ثم تاتى رحلة الخروج من حياة العزوبية الى حياة الزوجية، والبعض يقرر القيام برحلة يترك فيها الدين الذى ورثه ثم يختار لنفسه دينا آخرا، وهناك رحلة يقوم بها البعض وهى هجرة الوطن الى وطن جديد.  وتنتهى الحياة بآخر وأهم رحلة وهى رحلة الخلود والتى، عندما ياتى وقتها، ستاخذنا من هذا العالم الى مقرنا الأبدى.  وهذه بعض تلك الرحلات:

     

هجرة الوطن هى واحدة من اخطر رحلات الحياة المصيرية.  وقد وجدت نفسى جزءا منها مع اننى بطبعى لا اميل الى المخاطرة.  فعندما بدأت موجة الهجرة فى مصر فى ستينات القرن الماضى، ورايت كثيرين من اصدقائى قد قدموا طلبات للهجرة، وجدت نفسى منساقا الى السير على نفس الخطى.  فى البداية أقنعت نفسى انها مجرد ورقة ساقدمها وليس معنى هذا اننى ساسير فى الموضوع الى النهاية.  قلت لنفسى اننى لم اربط نفسى بشىء ومن حقى التراجع متى اشاء.

      ولكن خطوة قادت الى الاخرى.  وجاء الرد من امريكا بالموافقة المبدئية وتحدد لنا موعدا لمقابلة السفيرة الامريكية.  ذهبنا الى المقابلة وانا اقول فى نفسى يا رب نترفض وتبقى جت منك يا جامع.  كانت السفيرة معروفة بمعاملتها الجافة لطالبى الهجرة.  كانت اسئلتها لى تتسم بهذا وفى المقابل كانت ردودى لها بشموخ وإباء.  فى قرارة نفسى كنت اتمنى ان يؤدى هذا الى رفضنا كما فعلت مع غيرنا وتنتهى المشكلة.  ولكن كانت المفاجأة ان رد السفيرة فى النهاية كان التاشير بالقبول.  ربما رات فى اجاباتى نوعا من الثقة بالنفس جعلها توافق.  احسست اننى اغوص فى الموضوع تدريجيا ولم اعرف كيف اخرج نفسى منه.  كنت اريد ان ينتهى الامر، وكنت استطيع ان انهيه، ولكن تمنيت ان ياتى الرفض من غيرى حتى لا الوم نفسى فى يوم من الايام.

      قدمت طلب الاستقالة من العمل لغرض الهجرة.  ومرة اخرى فرحت عندما علمت ان الوزارة جمدت طلبات الهجرة لأجل غير مسمى.  ولكن بعد بضع اسابيع فتح الباب مرة اخرى ومعه جاءت الموافقة بالهجرة وتحدد لى آخر يوم لترك العمل.

      وتتوالى الخطوات بسرعة من اجراء الكشف الطبى وبيع ما استطعنا من اثاث المنزل وشراء التذاكر وتحديد موعد السفر.  وفى الايام السابقة للسفر اخذت افكر:  لقد دخلنا الفخ بارجلنا والآن لا نستطيع الفلات منه.  واخذت اسال نفسى: هل صحيح اننا سنترك مصر نهائيا بعد ايام؟  هل سنذهب الى بلد غريب ونبحث عن عمل جديد ونتعامل بلغة جديدة ومع شعب جديد وعادات وتقاليد جديدة؟ وعندما تهبط بنا الطائرة فى نيويورك الى اين سنذهب؟ وماذا سنعمل عندما ينفذ ما لدينا من المال القليل؟  وفى النهاية سلمنا امرنا الى الله وانطلقنا مثل أبينا ابراهيم الذى ترك اهله وعشيرته "وهو لا يعلم الى اين يذهب" (عبرانيين 11: 8).

      مرت السنوات فى العالم الجديد، وحتى بعد ما استقرت بنا الامور، كان ما يزال يتردد فى فكرى من وقت لآخر التساؤلات: هل صحيح ان ما حدث لنا كان حقيقيا ام كان مجرد حلم؟  وكنت اتوقع ان نستيقظ فجأة لنكتشف اننا ما زلنا فى مصر وان هذا كله كان (كابوس).

      الرحلة الى خارج مصر لغرض الهجرة كانت رمزا لرحلات مصيرية اخرى فى حياة كل منا واهمها على الاطلاق الرحلة التى ستأخذنا من هذه العالم الى عالم الخلود.

      لا يوجد من ينكر ان هذه الرحلة حقيقية.  فنحن نراها تحدث من حولنا فى كل يوم لأناس نقرأ عنهم أو نعرفهم او تربطنا بهم صلة صداقة او قرابة، وفى يوم من الايام سيأتى دورنا.  وعندما تاتى ساعتنا لن نستطيع الامتناع او التأخر.  قيل عن الملك فؤاد انه فى آخر لحظات عمره كان يبكى ويقول: لا اريد ان اموت.  ولكن الامر كان قد خرج من يديه.

      والغريب مع أنه لا يوجد من ينكر انه سيقوم بهذه الرحلة فى يوم من الايام، الا انه لا يوجد من يعطى الموضوع الجدية والحتمية بان هذا سيحدث له شخصيا.  هو يتعامل مع الأمر كفكرة بعيدة باهتة وليس كحقيقة واقعة.

      والبعض يفضل طرد الموضوع تماما من ذاكرته لانه لم يتصالح مع الامر، ولكن التغافل عن الامر لن يغير منه شيئا.  وعندما ياتى الوقت الذى فيه نعلم ان وجودنا على الارض قارب الانتهاء وان رحلتنا للخلود قد حان موعدها عندئذ نبدأ نسال انفسنا: هل صحيح ان حياتنا قد وصلت الى نقطة النهاية؟  وكيف ستكون رحلتنا من الارض؟  وماذا سيحدث عندما نصل الى الشاطىء الآخر؟

      على عكس الرحلات الاخرى، هذه الرحلة ستاتى بنا الى حالة المعرفة الكاملة الكاشفة لكل الاسرار.  ما كنا يوما نطلق عليه غيبيات نقبلها بالايمان ستنكشف وتتضح ونراها عيانا.  ولن نسأل انفسنا وقتها اذا كان ما نراه حقيقة ام خيال لاننا سنعرف يقينا انه الحقيقة.  وسندرك ان حياتنا على الارض هى التى كانت اشبه بالخيال.  "انما كخيال يتمشى الانسان" مزمور 39: 6

      المؤكد انه، سواء طال بنا العمر او قصر، فنحن راحلون.  معرفتنا لهذه الحقيقة يجعلنا نقيّم الامور بقيمتها الحقيقة "الوقت منذ الآن مقصر. الذين يبكون كأنهم لا يبكون، والذين يفرحون كأنهم لا يفرحون، والذين يشترون كأنهم لا يملكون والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه.  لأن هيئة هذا العالم تزول." 1 كورنثوس 7: 29-31

      ونحن فى مفترق عامين، يثير هذا فينا التامل فى العمر الذى يجرى والاحساس ان خط النهاية فى سباق الحياة بدأ يلوح فى الافق.  بالنسبة لمن يعانون ألم المرض فهذه اخبار سارة حيث يقترب موعد تحرير الانسان من آلام الجسد.  ولكن من الطبيعى ان غريزة حب البقاء تجعلنا نتشبث بالحياة رغم ما فيها من آلام وظلم وتعب، فنظل نردد "الحياة حلوة".

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.