Print

المسكنة المطلوبة والمسكنة المرفوضة

بقلم منير بشاى

 

      هناك اعتقاد شائع عند الكثيرين ان المسيحية ديانة المسكنة.  وبالتاكيد هناك جانب من المسكنة السليمة المطلوبة التى لا يمكن فصلها عن المسيحية.  ولكن هناك مسكنة مرفوضة يتبناهاالبعض ممن اختلطت معهم الامور وهى تدفعهم الى المذلة واهدار الكرامة وتسىء لهم ولإيمانهم.

      المسكنة المطلوبة هى مسكنة الروح (الوداعة والتواضع)

      وهى ما اشار اليها السيد المسيح وامتدحها فى موعظته على الجبل.  وكان السيد المسيح قد صعد الى الجبل لتقديم موعظة تهدف الى اعداد التلاميذ للخدمة.  كان اول ما قاله لهم "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (متى 5: 3).  كان السيد المسيح يعلم انه فى طريق خدمتهم سينجز التلاميذ اعمالا عظيمة، ويجرون معجزات خارقة، ويقفون امام الرؤساء والسلاطين، ويأخذون كرامة كقادة ومرشدين،  ولذلك كانوا يحتاجون الى التسلح بالوداعة والتواضع ليتغلبوا على العظمة الأرضية والغرور الباطل.  وفى نفس الوقت كانوا ايضا سيتعرضوا للاضطهاد وفى النهاية سيقدّموا الى ساحة الاستشهاد.  وفى كلتا الحالتين سواء فى وجه التمجيد او وجه الاضطهاد كان التلاميذ بحاجة الى سلاح التواضع الذى يجعلهم يتّكلون تماما على قوة الله.  وهذا كله موجود فى الفضيلة الجميلة وهى مسكنة الروح التى ستدفعهم الى الاعتماد بالكامل على غنى الله وقدرته غير المحدودة.

والمسكنة المرفوضة هى مسكنة النفس (المذلة والوضاعة)

     

بعد ان قدّم السيد المسيح عظته على الجبل للتلاميذ والتى حثّهم فيها على طلب مسكنة الروح نزل ووقف فى موضع سهل هو وجمع من تلاميذه وجمهور من الشعب.  ووجدها فرصة ان يتكلم عن مسكنة أخرى تفرض علينا من هذا العالم المادى، قال لهم "طوباكم ايها المساكين لأن لكم ملكوت االله"  لوقا 6: 20.  وهى مسكنة غير مرتبطة بالروح ويمكننا ان نطلق عليها مسكنة النفس.

      عندما تكلم السيد  المسيح عن مسكنة الروح كان يتكلم بصفة العموم "طوبى للمساكين بالروح" ، ولكنه عندما تكلم عن مسكنة النفس فقد تكلم بصفة التخصيص ووجّه كلامه للمساكين بصفتهم الشخصية "طوباكم ايها المساكين".  كان السيد المسيح فى الحالة الثانية يتكلم مع اناس فرض عليهم التحقير والاذلال وهذا من اقسى انواع الاضطهاد وبديهى انه لا يتمشى مع عدالة الله ولا يتفق مع مشيئته.

      والمسيح هنا يدخل فى تفاصيل هذا النوع من الاضطهاد الذى يشمل الجوع والبكاء والكراهية والفرز والتعيير والاذلال.  وهى امور يتعرض لها كل المستضعفين فى الارض وخاصة المؤمنون بالمسيح.  وقد وعدهم المسيح بتعويض الله فبدلا من البكاء سيمنحهم الفرح وبدلا من الجوع سيختبروا الشبع وان اجرهم سيكون عظيما فى السماء.  (لوقا 6: 21- 23)

      ولكن ليس معنى اننا سنأخذ تعويضا فى السماء عن هذه المظالم انها اصبحت فرض عيّن علينا بحيث يتحتم علينا ان نقبلها أو، اسوأ من هذا، ان نسعى لها.  على العكس فالكتاب المقدس يحفزنا على الخروج من دور المسكنة المهينة وان نسعى لنكون على قدم المساواة مع غيرنا من الناس.  وحتى ان كنا لا نستطيع منع الاساءات تماما فى جميع الاحوال فعلى الاقل يجب ان نرفضها ونطالب بحقوقنا الانسانية كلما استطعنا الى ذلك سبيلا.

      ولنا فى حياة الرسل فى الكنيسة الاولى مثالا يحتذى به.  فنجد الرسول بولس يرفض الاهانة ويصر على اخذ الحقوق التى يكفلها له القانون.

      وايضا لنا فى حياة السيد المسيح أسوة حسنة فى انه دافع عن حقوقه ولم يستسلم للظلم.  فعلى سبيل المثال عندما ضربه احد الخدام على وجهه لم يستسلم او يترك حقه واعترض قائلا "ان كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردى وان حسنا فلماذا تضربنى" يوحنا 18: 20

      لقد حان الوقت ان نعترف ان سلوكنا الضعيف كمسيحيين هو ما جعل الآخرين يستأسدون علينا.  حتى لقد تصوروا ان الله هو الذى يامرهم "وضربنا عليهم (اهل الكتاب من المسيحيين واليهود) الذلة والمسكنة وباءوا بغضب عظيم" البقرة 61  وعندما فرضت عليهم الجزية كان دفع الجزية مصحوبا بالاذلال "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (أذلاء)" التوبة 29

      إن تبرير قبول المذلة والمسكنة بأنها اقتداء بالسيد المسيح هو خروج واضح وصريح عن الحق الالهى.  حقا قال جبران خليل جبران "ان البشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويا ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية".

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.