Print

العَشَاءُ السَّيِّديُ

(رويةٌ آبائيةٌ)

بقلم القمص أثناسيوس جورج

قام المسيح في خميس العهد بالتأسيس الإلهي لسر عشائه السري الأخير،‏ الذي أرشد عنه من خلال الحرف،‏ وأكمله من خلال الروح،‏ وعلَّم به من خلال الرموز،‏ ووهبَهُ بالنعمة من خلال الأعمال. كمَّل المسيح تقدمة هذه الذبيحة المَهوبة كعطية للخلود ووعْد بالحياة الأبدية،‏ كي نكون نحن شركاء الدعوة السماوية.

أسس الرب عهدً جديدًا وميثاقًا أبديًا مع شعبه،‏ عهدًا موثَّقًا بدم ابن الله الوحيد،‏ دم قائم كل يوم على المذبح ننظره ونتناول منه،‏ ونصير أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه،‏ ونكون واحدًا معه ممتزجين به،‏ مُرهِبين للشيطان عندما يُغذِّينا بجسده الخاص‏٬ ويجعلنا جنسًا كريمًا‏٬ ويعطينا رجاء الخيرات العتيدة،‏ فتتجلىَ فينا صورته الملوكية،‏ وننال بهاءه الذي لا يزول،‏ فَمُنا يمتلئ بالنار الإلهية ولساننا يصطبغ بالدم الكريم،‏ فتهرب منَّا الشياطين خائرة وتقترب منا الملائكة وتُعيننا.

في الخميس الكبير نحتفل بالأسرار المقدسة ونشترك في الدعوة السماوية،‏ لنأخذ مؤونة الخلود،‏ مكملين ركض السباق الروحي... نلبس ثوب العُرس الذي للإيمان‏٬ ونتقدم كمحتاجين إلى هذاالعشاءالسري،‏ حيث المسيح محب البشر يخدمنا ويُضايفنا... فالعِجل المسمَّن قد ذُبِح،‏ حمل الله الذي يحمل خطية العالم،‏ الآب يفرح والابن يقدم نفسه ذبيحة بإرادته الذاتية وسلطانه وحده،‏ مؤكدًا على آلامه الخلاصية الطواعية.

فلنترك عنا الجهالات لنحيا ونسير في طريق الفَهم،‏ لأن الحكمة قد بَنَتْ بيتها،‏ ونَحَتَتْ أعمدتها السبعة،‏ ذَبَحَت ذبحها... مزجت خمرها،‏ ورتبت مائدتها،‏ كي نشترك في مسرّتها ووليمتها الحاضرة الوفيرة المقدسة السرية المثمرة اللذيذة‏٬ التي تم إعدادها والموضوعة أمامنا والمعطية حياة.

فلنتقدم على هذا الرسم إلى هذه الذبيحة الإلهية التي تشتهي الملائكة أن تراها،‏ التي ليس دم الناموس حولها ولا بِرّ الجسد،‏ ذبيحة الجسد المقدس والدم الكريم الذين لعمانوئيل إلهنا والذين لخلاصنا،‏ الجمرة الحقيقية الروحانية السرية،‏ والصعيدة السمائية العظيمة العقلية الكريمة المباركة المُحيية المَخفية منذ الدهور والأجيال التي من الجنب الإلهي غير الدنس،‏ الذبيحة المخوفة المعقولة المقدسة المكرمة الناطقة‏٬ شجرة الحياة غير الجسمية وغير الدموية٬ وغير المرئية من المرئيين،‏ موهبة النعمة السرائرية الروحانية التي أعدها لنا الله وهيأها‏٬ لتكون لنا موضع خضرة وكأسًا مُروية وترياقًا للخلاص ومَصل الخلود،‏ مُنعشة فائضة ومترعة للفرح السري العجيب والأبدي.

إنها سر اللاهوت،‏ سر جميع الأسرار الذي كل من يشترك فيه ينال إيمانًا بغير فحص ورجاءًا ثابتًا وصبرًا كاملاً ونِيَّة مملوءة دالة وشفتين غيرساقطتين وعافية وفرحًا وعدم فساد وغفرانًا للخطايا والآثام والجهالات والسيئات والزلات،‏ ينال نعمة ودالة أمام المنبر المخوف،‏ وننال النجاة من الأعمال غير النافعة ومن أفكارها وحركاتها ومناظرها ومجسّاتها... تُبطِل وتطرد المجرِّب‏ وتنتهر حركاته المغروسة فينا‏٬ وتقطع عنا لذات الجهل والأسباب التي تسوقنا إلى الخطية،‏ فنهرب إلى التمام من كل أمر رديء،‏ ونصير شركاء في خلافة المسيح،‏ جسدًا وروحًا واحدًا،‏ مملوئين من الروح القدس ومن شركة الحياة الأبدية؛ نائلين نصيب ميراث القديسين.

فيالعشاءالأخير كشف لنا المخلص محبته الفادية مسبقًا،‏ فقدم ذاته في هذاالعشاءالفصحي قبل أن يقدمه على الصليب،‏ تلك المحبة التي هي جوهر تدبير الخلاص،‏ حتى عندما نتناول من جسده ودمه الأقدسين نثبُت فيه ويثبُت فينا،‏ وتنطبع فينا صورته وشكله،‏ ونقتات به للحياة،‏ ونمتزج ونتحد به،‏ فيكون هو خبزنا وكأسنا المُروية،‏ حياتنا وعصارتنا وحزمتنا،‏ نذوق وننظر ما أطيب مائدته التي رتبها لنا تجاه أولئك الذين يضايقوننا،‏ مائدة تجلب الفرح والنصرة... مائدة تجدد طبيعتنا وتُزيل مراراتنا،‏ فنحمل ثمارًا عطرة ونزداد سمنة من الذي يعطي طعامًا لكل ذي جسد،‏ فتمتلئ قلوبنا فرحًا ونعيمًا وتزداد نفوسنا في كل عمل صالح،‏ ولا يقوىَ علينا موت الخطية لأننا قد نلنا الحياة الباقية والأسرار التي تشتهي الملائكة أن تطّلع عليها.

أيُّ راعٍ هذا الذي يعُول رعيته بأعضائه الخاصة ويمزجها به بكل وسيلة،‏ فلا تكون فيما بعد مجهولة المصير خائفة أو مرتعبة٬ بعد أن استُئهلت لهذه القوة التي أعطاها الحمل المذبوح الجالس على العرش‏٬ والذي أخلى ذاته في الخبز والخمر ليحمل ضعفاتنا وفسادنا ويوحِّدنا به ومعه،‏ صعيدة مقبولة... وهو أيضًا أظهر نفسه بعد قيامته عند كسر الخبز ليفتح العيون ويهب معرفته ويدركنا برحمته كل أيام حياتنا.

إنه ينشر مجده باعتباره رأس الزاوية وأساس البناء،‏ فيكون هذا المجد لكل حجر ولكل عضو... ويملأ المجدُ بيته الذي هو كنيسته المسكن الأعظم والأكمل،‏ حيث نتقدم في بيته بروح ساكبة الطِيب وبروح الأرملة صاحبة الفلسين لنشارك في المجد الذي صار لنا - (نحن بيته) -‏ نائلين خلاصنا ومجدنا بإله معونتنا،‏ ناصرنا فلا نتزعزع أبدًا... وكما حمل إسحق حطب المحرقة؛ كذلك حمل المسيح خشبة الصليب،‏ وكما رجع إسحق حيًا؛ هكذا قام المسيح حيًا من الأموات،‏ ومازال يظهر في أرواحنا – حيًا قائمًا من الموت – يُغرَس في كياننا عندما نتناوله.

ليتنا لا نكون جاحدين لإحساناته ولا لوليمة عشائه السري،‏ لأن هذا هو مجده،‏ وهذه هي عجيبة لاهوته،‏ وثمرة اشتراكنا فيها هي اقتناء مجد الابن،‏ فنصبح في يد الآب وبذراعه العالية يملك فينا ونصير شركاءه،‏ هو قوتنا وتسبيحنا؛ وقد صار لنا خلاصًا مقدسًا.


القمص أثناسيوس چورچ.
www.ixoyc.net
www.frathanasiusdublin.com