Print

 

السياسة والصراع العلمانى الكنسى

 

بقلم منير بشاى

يدور الآن جدل كبير حول العمل السياسى وما اذا كان للكنيسة دور فيه. واذا كان للكنيسة دور سياسى- فهل هناك ضوابط تحكمه؟ وما هو الدور العلمانى السياسى؟ وهل يتصادم مع دور الكنيسة؟ وهل من الممكن ان يحدث انسجام بين الاثنين؟

بداية أدرك ان الموضوع حساس وأن هناك من يأخذ مواقفا متباينة ومتشددة منه. وما اتمناه أن تساعد كلماتى فى هذا المقال- على الاقل- فى القاء الضؤ على الموضوع.

وحتى أشرح فهمى للموضوع أبدأ بتقديم هذا المثال التوضيحى. الكيمياء علم متخصص يعمل فيه علماء متخصصون ومتفرغون. ولكن هناك من أصحاب المهن الأخرى من يستخدم علم الكيمياء فى تخصصاتهم. فالصيادلة يستخدمون الكيمياء فى تحضير الدواء. والعسكريون يستخدمونها فى الحرب. وربات البيوت يستخدمونها فى طهى الطعام وتنظيف البيت. والناس جميعا يستخدمون آلاف المنتجات الكيميائية فى حياتهم اليومية مثل الشامبو والسماد والمبيدات الحشرية والبويات والدهانات...الخ. والمستهلك العادى قد لا يعرف التركيبة العلمية الكيميائية لهذه المنتجات التى يعرفها الكيميائى المتخصص ولكنه كمستخدم لها يعرف فوائدها وكيفية استعمالها ويستفيد من منافعها.

بالمثل فى مجال السياسة هناك المتخصصون المتفرغون الذين يعملون فى تخصص السياسة كمهنة تشغل كل وقتهم ويعيشون منها. ولكن فيما عدا قلة من المتخصصين فجميع الناس يستخدمون السياسة فى حياتهم اليومية. يستخدمونها عندما يذهبون الى صندوق الانتخابات للتصويت أو عندما يشاركون فى مسيرة احتجاج أو عندما يرسلون شكوى لمسئول أو عندما يكتبون مقالا أو تعليقا أو خطابا يمثل رأيهم.

رجل الدين مثل أى مواطن فى المجتمع يشترك فى هذه كلها. ورجل الدين بصفته الدينية والكنيسة كمؤسسة دينية من حقهم ان يعلنوا عن رأيهم فى القضايا التى تمس صميم رسالتهم خاصة فى المسائل الأخلاقية مثل التشريعات التى تتعلق بقضايا الشذوذ الجنسى والطلاق والزواج و القضايا التى تناقش العدل الاجتماعى وتقاوم الظلم والقضايا التى تتعلق بقرارات الحرب والسلام وغير ذلك.

الفارق الأساسى بين رجل الدين ومعه الكنيسة وبين رجال السياسة هو أن رجل الدين عندما يقوم بالعمل السياسى فانه يقوم به مثل أى مستخدم وليس مثل المتخصص المتفرغ. فالسياسة عمل قائم بذاته ورجل الدين لا وقت عنده للتفرغ للسياسة. والفارق الآخر أن العمل السياسى له أساليبه التى يمكن أن تصبح ملتوية ورجل الدين لا يجيد هذه الأساليب بل ولا تليق به.

ولكن الاشكالية التى تواجهنا هى فى تداعيات الموضوع فيما يتعلق بتطبيقه فى مصر. وبالذات عند تحديد من يكون الممثل السياسى الشرعى لاقباط مصر؟ هذا فى ظل عدم وجود القيادات العلمانية التى تحظى باحترام وثقة القاعدة العريضة للشعب القبطى. ومع انه هناك منظمات وقيادات قبطية متعددة فى مصر ومع ان قادتها يتكلمون فى حقوق الاقباط ولكن لا يوجد كيان معترف به من الجميع على انه الممثل السياسى الشرعى لهم.

ونتيجة لهذا وجدت الدولة نفسها تفضل التعامل مع القيادة الكنسية على أنها هى الممثل السياسى للأقباط. وهى ترى فى هذا الوضع الأسهل والاكثر ضمانا للنتائج. هذا خاصة ان معظم مشاكل الأقباط ناتجة عن انتمائهم الدينى. كما أن الدولة تفضل التعامل مع الكنيسة لأنها المؤسسة التى تحظى باحترام كل الأقباط. بالاضافة الى أن الكنيسة يمكن التفاوض معها والوصول الى اتفاقيات وتفاهمات. ومن ناحية أخرى فان الكنيسة لها المقدرة على تنفيذ ما تتعهد به نتيجة ما لها من تأثير على الشعب.

ولكن لوحظ انه عندما تتخطى الكنيسة دورها المرسوم لها من الدولة وتتعرض الى الكلام عن اضطهاد الاقباط فان الدولة لا ترضى بهذا وتصر على ان تلتزم الكنيسة بعدم الكلام فى السياسة تطبيقا لمبدأ لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة.

وبما ان الدولة تحتفظ لنفسها بخيوط حل مشكلات الاقباط بما فيها قرارات بناء الكنائس وحماية الاقباط من الاعتداءات فانها بالتالى تملك فرض مواقف على الكنيسة كثمن لاستمرار العلاقات الطيبة مع الدولة. ومن هذا جاءت دعوة الكنيسة لحشد الاقباط للترحيب بالرئيس امام مبنى لامم المتحدة فى نيويورك اثناء القاءه لكلمته. وهو موقف لم نسمع ان قامت به دولة من ال 150 المشاركة فى فعاليات المؤتمر الدولى غير مصر. واصبح الحشد القبطى سابقة يتحتم على الاقباط تكرارها فى كل عام بغض النظر عن ما اذا كانوا يعانون من اضطهاد.

الوضع الطبيعى هو ان يكون للأقباط قيادات علمانية تمثلهم وتتكلم بلسانهم وتتفاوض نيابة عنهم خاصة فى الامور العلمانية مثل التعيينات والترقيات والتمثيل النيابى وكافة الحقوق الإنسانية والمدنية. وهذا غير متوفر ويحتاج الى اقراره وتنميته.

والمسئولية فى تنمية الدور السياسى العلمانى للاقباط تقع بالدرجة الأولى على عاتق الدولة بتشجيع هذا الدور حتى ينمو. ولكن الحكومات المتعاقبة كانت تتغافل هذا الدور. بل كانت تحرص على هدم كل قيادة قبطية تحاول أن تظهر للوجود. وفى نفس الوقت كانت تلمع البعض الآخر من الآقباط الموالين لها والذين لا يحظون بثقة الأقباط. ولا يعملون لصالحهم.

وتنمية الدور العلمانى يحتاج ايضا الى تأييد الكنيسة وتشجيعها. وهو يخدم مصالح الكنيسة لانه من شأنه أن يزيح عن كاهلها عبء التعامل فى مجال السياسة. ولكن من ناحية اخرى لن ينجح دور العلمانيين اذا كان هدفهم استبعاد الكنيسة والغاء دورها. ومن الطبيعى ان تتردد الكنيسة فى تسليم هذا الدور لقيادات علمانية تناصبها العداء. ويزداد الصدع عندما يتم استخدام عبارات قاسية تتضمن الاهانة والتجريح من بعض العلمانيين ضد قيادات الكنيسة.

فى ظل هذا الجو المشحون بالتوجس سنظل فى مكاننا بل سنتراجع للوراء. وفى النهاية أى عمل علمانى لن ينجح دون ان يحظى بمباركة الكنيسة ورضى الجماهير. الوحدة اساس النجاح، والبيت المنقسم على ذاته يخرب.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.