مسيحية أم ماسوشية؟

بقلم منير بشاى – لوس أنجلوس

 

    هل أصبح التلذذ بالألم، أو ما يسمى بالماسوشية، عنصرا مكملا للإيمان المسيحى فى تفكير بعض الناس؟ كتب احد المعلقين على مقال هذه الكلمات: "يجب على الحركة القبطية أن تدعو لحمل الصليب والتألم على الأرض حتى نتمجد فى السماء وليس أن نرتاح على الأرض ونخسر مجد السماء"

هذا التعليق لا يمثل مجرد رأى فرد ولكن للأسف يمثل رأى العديد من الناس بين أفراد الشعب القبطى الذين يعتقدون أن الألم واسطة لدخولنا إلى الملكوت. وإذا صح هذا التفكير فالويل للبعض منا الذين من سوء حظهم أنهم لم يتعذبوا أو يضطهدوا فى هذه الحياة بما فيه الكفاية – فكيف يستطيع من لم يضطهدوا أن يضمنوا دخولهم إلى ملكوت السموات؟ ربما كان المفروض - طبقا لهذا التفكير- بدلا من المطالبة بوقف الإضطهاد أن نطالب بإستمراره وزيادته!! وهذا دفعنى للتساؤل: هل الألم والإضطهاد شر يجب أن نتخلص منه أم بركة يجب أن نسعى لها؟

    لاشك أن الذى يغذى هذا المفهوم أن الإضطهاد بركة عند الكثيرين هو تكرار ما نسمعه من شعارات: "نحن أبناء الشهداء" و "الكنيسة قد إرتوت بدماء الشهداء". وكأن أفضل ما نجيده كمسيحيين هو أن نموت من أجل المسيح.

    وأرجو بادىء ذى بدء أن لا يساء فهمى. فأنا لا أحط من قدر تضحيات أجدادنا الشهداء الشجعان. كما لا أقول أن الكنيسة تستطيع فى كل الأحوال أن تتفادى الإضطهاد. ولا أقترح أن الألم من أجل المسيح أمر مرذول، بل على العكس هو شرف ومجد.

    ولكن الشىء الذى أريد أن أؤكده هو أن هناك فارقا بين الإضطهاد كأمر يحدث لنا نتيجة إيماننا بالمسيح، وبين الإضطهاد كهدف نسعى إليه، وأريد أن أشير هنا أن التلذذ بالعذاب ليس ظاهرة صحية، بل قد يكون تعبيرا عن مرض نفسى يسمى الماسوشية (masochism) . كما أريد أن أوضح أن الهروب من الأضطهاد ليس دائما جبنا، وليس دائما مناقضا للإيمان وأنه مع إستعدادنا للموت من أجل المسيح، ولكن ينبغى أن يكون هدفنا أن نحب الحياة ونسعى إلى أن نعيش للمسيح ونمجده فى حياتنا.

    نصوص كتابية أحيانا يساء فهمها

    لعل السبب الرئيسى عند البعض لقبول الظلم والرضى عن الإضطهاد هو سوء فهم لبعض النصوص الكتابية. وهذه أمثلة لذلك، مع شرح لما يقصده الوحى الإلهى من النصوص.

 

    "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هى مرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة" (رومية 13 : 1 -2)

المقصود من الخضوع للسلطان هنا هو أن نسلك كمواطنين صالحين، نطيع الحاكم ونحترم القانون طالما كان عادلا ولا يتعارض مع الناموس الإلهى، أما إذا تعارض، فنحن غير مطالبين بإطاعته. وقد رأينا كيف أن الرسل فى سفر الأعمال قد رفضوا ما وجه لهم من أوامر عندما طولبوا بالتوقف عن المناداة بإسم المسيح، وقالوا: "ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس". (أعمال 5 : 29 )

    "وأما هم (الرسل) فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل إسمه". (أعمال 5 : 41 )

    لا شك أن الإهانة من أجل المسيح شرف يستحق أن نفرح من أجله. ولكن الإهانة هنا قد فرضت على الرسل ولم يسعوا هم أليها، ولو كان فى إستطاعتهم أن يتفادوها لفعلوا كما نقرأ فى أماكن كثيرة فى سفر الأعمال.

    "بضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أعمال 14 : 22 )

هذا النص معناه أنه فى رحلة جهادنا الروحى لابد أن نمر بضيقات كثيرة. ليس معنى هذا أن الضيقات هى تذكرة الدخول لملكوت الله. إن دم المسيح هو الذى إشترى لنا حق الدخول فى ملكوت الله.

    نصوص كتابية تدعونا إلى تفادى الإضطهاد

    وحتى لا نقع فى خطأ إقتباس الآية الواحدة، علينا أن نرجع إلى النصوص الكتابية الأخرى والكثيرة التى تطالبنا برفض الظلم وتفادى الإضطهاد إذا كان فى إمكاننا أن نفعل ذلك دون أن ننكر إيماننا بالمسيح. وهذه أمثلة لذلك:

 

* الرب يسوع عندما كان طفلا هرب من محاولة هيرودس لقتله. وكان هذا بأمر إلهى إذا ظهر ملاك الرب إلى يوسف ليأخذ الطفل يسوع وأمه القديسة مريم ويهرب إلى أرض مصر ويظل هناك ألى أن تنتهى فترة حكم هيرودس (متى : 2 : 13 – 20 ).

* المؤمنون فى الكنيسة الأولى قد تشتتوا من جراء الإضطهاد عندما وقع عليهم فى أورشليم وتركوها إلى البلاد المحيطة. يقول الكتاب المقدس: "وحدث فى ذلك اليوم إضطهاد عظيم على الكنيسة التى فى أورشليم، فتشتت الجميع فى كور اليهودية والسامرة، ماعدا الرسل".  (أعمال 8 : 1).

* الرسول بولس هرب من المكيدة التى دبرت لقتله "ولما تمت أيام كثيرة تشاور اليهود ليقتلوه، فعلم شاول بمكيدتهم. وكانوا يراقبون الأبواب أيضا نهارا وليلا ليقتلوه. فأخذه التلاميذ ليلا وأنزلوه من السور مدلين إياه فى سل". (أعمال 9 : 23 – 25 ).

* الرسول بولس طالب بالإعتراف العلنى ببراءته عندما ظلم، ولم يرضخ للظلم ويقبله. فعندما وضعوه ظلمّا فى السجن، وبعدها أرادوا أن يطلقوا سراحه سراّ، رفض ذلك قائلا: "ضربونا جهرا غير مقضى علينا، ونحن رجلان رومانيان، وألقونا فى السجن. أفالآن يطردوننا سرا؟ كلا! بل ليأتوا هم أنفسهم ويخرجونا" (أعمال 16 : 37 )

* الرسول بولس إعترض على ضربه بالسياط وطالب بحقه كمواطن رومانى أن لا يضرب، فلما مدّوه للسياط قال بولس لقائد المئة الواقف: "أيجوز لكم أن تجلدوا إنسانا رومانيا غير مقضى عليه؟" (أعمال 22 : 25 ).

* الرسول بولس إستغل ما يكفله له القانون من حقوق ليحصل على محاكمة عادلة. وقد مارس حقه كمواطن رومانى أن يحاكم أمام قيصر. فقال : "لأننى إن كنت آثما، أو صنعت شىء مما يشتكى علىّ به هؤلاء، فليس أحد يستطيع أن يسلمنى لهم. إلى قيصر أنا رافع دعواى" (أعمال 25 : 11 ).

* الرسول بطرس قام بعملية تمويه حتى لا يتمكنوا من القبض عليه. فبعد خروجه من السجن بمعجزة لم يستمر فى المكان الذى تعود أن يوجد فيه بل غيّر موضع إقامته حتى لا يجدوه ويرجعوه إلى السجن مرة أخرى (أعمال 12 : 17 )

    حالات خاصة آثر المسيحيون فيها أن يظللوا تحت الإضطهاد.

هناك حالات خاصة فى الكتاب المقدس نجد المسيحين فيها يرفضون الهروب من الإضطهاد ويفضلون الإستمرار فيه. وليس هذا حبا فى الإضطهاد ولكن لأن هناك واجبا مقدسا يلزمهم أن يبقوا فى مكان الإضطهاد وهذه بعض الأمثلة:

·       الرب يسوع كان مثلنا الأعلى فى هذا. فيذكر الكتاب عنه أنه رغم المحاولات الكثيرة للقبض عليه وتسليمه للمحاكمة، إلا أنه كان فىكل مرة يفلت منهم "لأن ساعته لم تكن قد جاءت بعد" (يوحنا 7 : 30 و 8 : 20 ). ولكن عندما جاء التوقيت الإلهى ليقوم المسيح بعملية الفداء للجنس البشرى على عود الصليب فإنه لم يتردد ولم يتراجع. يقول الكتاب: "وحين تمت الأيام لإرتفاعه ثبّت وجهه لينطلق إلى أورشليم". (لوقا 9 :51 )

·       عندما تشتت المسيحيون فى عصر الكنيسة الأولى بسبب الإضطهاد نجد أن الرسل قد بقوا فى أورشليم ولم يغادروها (أعمال 8 : 1 ). كان الرسل فى موقفهم هذا يتصرفون كالقادة المخلصين فى ميدان المعركة. كانوا يريدون أولا أن يضمنوا سلامة المؤمنين قبل أن يسعوا للحصول على سلامتهم. كما أنهم آثروا أن يبقوا فى مركز الخدمة فىأورشليم لمباشرة قيادة العمل، وليضمنوا إستمرارية الخدمة.

·       عندما طلب الروح القدس من بولس الرسول أن يذهب إلى أورشليم أطاع رغم أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن إضطهادا قاسيا كان ينتظره هناك. وعندما حاول التلاميذ أن يثنوا عزمه عن الذهاب رفض قائلا: "....ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبى. لأنى مستعد ليس أن أربط فقط، بل أن أموت أيضا فى أورشليم لأجل إسم الرب يسوع". (أعمال 21 : 13 ).

إن مسئوليتنا كمسيحيين هى أن نخفف من حدة ألم الإضطهاد فى حياتنا وحياة الآخرين قدر ما نستطيع. أما إذا كانت إرادة الله ومسئولية الخدمة تستدعى أن نستمر فى ميدان الإضطهاد من أجل المسيح فعلينا أن نقبل ذلك بصبر وفرح وشجاعة.

 

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.  


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com