عيد الربيع بين السلف الصالح و الخلف الطالح

          

 بيومي قنديل 

   

   نبهني أحد الأصدقاء الأعزاء إلى ما كتبه السيد "أحمد بهجت" في صندوقه بجريدة "الأهرام" يوم 28 ابريل/برمودة 2008. و ما أن قرأت الصندوق حتى تذكرت أن هذه ليست المرة الأولى التي يفجع فيها سيادته الأمة المصرية التي لا أدري ما إذا كان الانتماء إليها ليشرفه أو يُطاطئ جبينه. فلقد اقترح سيادته في تسعينات القرن الماضي تحطيم الأحجار التي تقع من الهرم الأكبر، بدلاً من إعادتها بإجلال و تبجيل لمكانها وفقاً لعلوم الترميم، إلى ميداليات و بيعها للأجانب الذين سيقبلون عليها فينشلوننا من أزماتنا الإقتصادية المتفاقمة، على نحو ما يفعل الإسرائيليون ببيعهم زجاجات مليئة بهواء القدس للمتدينين الأجانب!

 

  

و قد عبَّر الصندوق رهن الحديث عن موقفين للسيد "بهجت" هما موقفه من الربيع و بالتحديد من عيد "شم النسيم" و الآخر هو موقفه من جدنا "فرعون مصر". و هذان موقفان متميِّزان، الواحد عن الآخر، و هو الأمر الذي جعل الربط الذي ارتآه السيد "بهجت" بينهما متعسف. فلقد رأى سيادته دون الاستناد إلى أي تابع من التابعين أو مفسِّر من المفسرين أو فقيه من الفقهاء أن "يوم الزينة" هو أحد أسماء "يوم شم النسيم"، و هو "اجتهاد" خاص بسيادته. و يمضي كي يقول أنه اليوم الذي قابل فيه "موسى" عليه السلام فرعون و سحرته (عليهم "الحرب" بطبيعة الحال). و لهذا السبب، و لفرط تدينه، فيما يبدو، أعلن السيد "بهجت" بفخر أنه "يُقاطع" هذا اليوم.

   و لسوف أوجز ردي على سيادته في موقفه الأوَّل على النحو التالي:   ـ احتفل الساميون عرباّ و عبرانيين و لا يزالون يواصلون احتفالاتهم بآيات الجمال التي حبت بها السماء أرض مصر. و ها هو "إشعياء" النبي العبراني يشير إلى مصر في سفره كالتالي:

   "كجنة الرب كأرض مصر"(الإصحاح الرابع آية رقم 30)

   ـ وها هو الصحابي الجليل و كاتب الوحي و حامل الديانة المحمدية (=الإسلام) إلى مصر "عمرو بن العاص" رضي الله عنه يقف مبهوراً/ مفتوناً/ مُباركاً (لا مقاطعاً) تبدل الفصول بمصر في الرسالة المشهورة التي بعث بها إلى أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رض الله كالتالي:

    "فإذا أحدق الزرع و أشرق سقاه الندى و غذاه الثرى. فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذ هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، إذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء"(النجوم الزاهرة. ابن تغري بردي.ج 1 ص 32/33)

    ـ و هاهم أبناء عمومتنا في عاصمتهم "الرياض" يحتفلون في "يوم شم النسيم"، بما أسموه "يوم الزهور"، فيما نعرف من برنامج "العاشرة مساء" يوم الجمعة 2مايو/بشنس 2008. و لا أشك لحظة في احتفال العبرانيين/ بني اسرائيل أي قوم "موسى" عليه السلام مع البشرية جمعاء بمقدم الربيع.

  

و سؤالي الآن إلى السيد "بهجت":   ـ ألا تجتاح بدنه قشعريرة العزلة في موقفه "المقاطع" لتفجُّر الألوان في المدى الرحيب و رفع العصافير لزقزقاتها إلى أجواز السماء، و "حبلان" الزهور بالثمار التي ستغدو غذاء هنياً لكل من يدب و يسعى و يطير و حتى من "يُقاطع" كل ذلك من كتبة الصناديق؟

   

أما عن الموقف الثاني فألخِّص ردي على سيادته فيما يلي:

   ـ لسوف يظل "فرعون مصر" جداً و رمزاً و ملكاً لنا نحن المصريين المعاصرين، دون سائر البشر، أياً كانت صفة هذا الفرعون، و سواء أكان كافراً أم مؤمناً، خبيثاً أم طيباً، عتياً أم رحيماً. إذ لا ينبغي بالمرة أن يُنسينا "كفره" أو "خبثه" أو "عتوه" أنه أدار موارد مصر إدراة حسنة و بكفاءة فائقة، مكَّنته من أن يجعل من بلادنا قبلة للجياع و العطاش من كافة الأطياف و المشارب طوال حكمه. و ساعدته في أن يترك لأحفاده الذين جئنا من صُلبه، لسوء حظنا أو لحسنه، ثروة هي أعظم من ثروات البترول عن يميننا و يسارنا، لسبب بسيط: البترول ثروة غير متجددة، و لسوف تنضب اليوم أو غداً أما آثار جدنا فرعون مصر، فهي ثروة تتجدد و تتعاظم باستمرار كلما زاد ولع المتحضرين بها في سائر أرجاء العالم. فكل هؤلاء يشعرون أن "فراعنة مصر" كانوا جدوداً لهم أيضاً، يفخرون و يعتزون بهم و يحجون إلى معابدهم و مقابرهم و أهراماتهم. و إليك سيدي ما رآه السلف الصالح من أمثال "أمير المؤمنين" عمر بن الخطاب  رضوان الله عليه في "فرعون مصر"، على نحو ما نعرف من "ابن عبد الحكم" أول مؤرخ عربي كتب عن فتح مصر إذ يُخبرنا أن "أمير المؤمنين"  كتب إلى عامله "عمرو بن العاص" ما يلي:

   "... أما بعد فإني فكَّرت في أمرك و الذي أنت عليه  فإذا أرضك (أي مصر) أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله  أهلها عدداً و جلداً و قوة في برٍ و بحرٍ و أنها قد عالجتها الفراعنة و عملوا فيها عملاً محكماً مع شدة كفرهم و عتوهم".(فتوح مصر و أخبارها. ص 109)

   و معنى القول أن شدة كفر "فرعون مصر و عتوه، لم يحولا دون السلف الصالح و رؤية الجانب الآخر من "أعمال مُحكمة" في تعمير مصر. و على النقيض من ذلك، يحولان أي الكفر و العتو، دون هذا الخلف و رؤية الحقيقة المجردة، و تتمثَّل في الازدهار و الترقي اللذين حازتهما مصر على زمن فرعونها أو بالتحديد فراعنتها.

   أما أغرب ما في صندوق السيد "بهجت" فهو تعميمه لموقفه من حدث مُعيَّن: رفض فرعون مصر السجود لرب "موسى" عليه السلام، بحيث يشمل "مقاطعة" اليوم ذاته بل و الفصل كله، و هو الأمر الذي ينطوي على خطأٍ منطقي يتمثل في تحويله لعلاقة تزامنيةcoincidental لعلاقة ترابطيةRelational. فلقد شنق الانجليز مثلاً جدنا العظيم "زهران" في "دنشواي" بزمام "منوف" في سنة 1906، دون أن يحق لنا أن نربط بين موقفنا من "الشنق" و موقفنا من العام أو الفصل أو حتى اليوم الذي تدلى فيه الجثمان الطاهر من حبل المشنقة.

    أما إذا كان تبدُّل فصولنا و أعيادنا و أفراحنا و موالدنا و أغنياتنا و رقصاتنا و ضحكاتنا وابتسماتنا تسبب للسيد "بهجت" النكد، على حد تعبيره فإنني لا أملك إلاَّ أن أطالب الأمة المصرية التي أعتز بالانتماء إليها و أفاخر القاصي و الداني بالانحدار من صلب فراعنتها العظام، رغم كل ما يحق أو لا يحق للذين يتبرأون منهم أن يُطلقوا عليهم، بأن تواصل الإحتفال بتبدل فصولها و تمد أعيادها و تبسط أفراحها و تتابع موالدها وتصدح بأغنياتها و تصهلل برقصاتها و تعلو بضحكاتها و توسِّع ابتساماتها، فلربما تلمس روح مصر هذه، التي تعشق الحياة و تشكر السماء على آيات الجمال التي حبتها بها و تمتن لخالقها لنعمه العديدة و المتعددة، كل الآذان التي غشيها الصمم، فـ "ليس هناك أشد صمماً ممن لا يريد أن يسمع"Il n'y a pire sourd que ne veut pas entendre، كما يقول الفرنسيون. بعد أن نجحت هذه الروح قديماً في هذه المهمة المتحضرة و هاهي تواصل نجاحها اليوم في قلب شبه جزيرة العرب.

   اتنشرت يوم 6 بشنس/مايو 2008

        

                     


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com