تحويل الخد الآخر

بقلم منير بشاى – لوس أنجلوس

"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم:لا تقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا" متى 5 : 38 ، 39

من نصوص الكتاب المقدس التى كثيرا ما يساء فهمها ما قاله الرب يسوع فى الموعظة على الجبل بشأن تحويل الخد الآخر. هذا النص كثيرا ما يستعمل لتبرير السلبية والتقاعس وقبول المذلة والخنوع والإستسلام للظلم. بناء على هذا النص يعتقد البعض أن المسيحى ليس مسموحا له الإعتراض على الإساءة، وليس له أن يطالب بأى حقوق، بل كلما إنتهكت حقوقه عليه أن يقدم المزيد لتنتهك. هذه هى حرفية الآية. ولكن بالتأمل فى القرينة، أى ما سبقها ولحقها من آيات، نجد أن الموضوع ليس بهذه البساطة، وأن هناك أبعاد أخرى توضح لنا المغزى من وراء هذا النص.

هذا أمر تصورى وليس حرفى        

أراد الرب يسوع فى الموعظة على الجبل أن يوضح الفارق بين تعاليم العهد القديم والتعاليم التى نادى بها فى العهد الجديد. وقد كرر الرب يسوع هذه العبارة "قد سمعتم أنه قيل للقدماء... وأما أنا فأقول لكم..."

وفى هذا الجزء يتعرض الرب يسوع لمبدأ مقاومة الشر بشر مثله كما ورد فى العهد القديم "العين بالعين والسن بالسن" فكانت تعاليم المسيح بعدم رد الأذى بالأذى. ليس هذا فقط بل أراد أن يوضح بأنه ينبغى أن نظهر المحبة لمن وجه لنا الأذى. ولتوضيح هذا الأمر قدم لنا هذا التصوير لشخص يلطم، فبدلا من رد اللطمة بلطمة يصفح عن من لطمه، ويدير الخد الآخر له. إنه تصوير للتسامح فى تعاليم المسيح بالمقارنة بالإنتقام فى تعاليم العهد القديم.

هذا أمر إرادى وليس فرضى

الذى يدير الخد لمن يلطمه يجب أن يفعل هذا بإرادته من تلقاء نفسه ومن منطلق القوة والشجاعة وليس نتيجة الضعف. لم يسمح من لا يستطيع أن يمنع والذى يديرالخد من المفروض أنه يملك أن لا يفعل هذا وأنه قادر على رد الصفعة مقابل الصفعة. وأما المغلوب على أمره الذى قبل أن يدير الخد يجد نفسه يصفع على الخد الآخر، وقبل أن يفيق من هذا وذاك يجد نفسه يصفع على القفا – هل هذا ينفذ ما قصده السيد المسيح؟ بالطبع لا، لأن الذى صفع لم يسمح له أن يظهر الصفح والتسامح ولكن أجبر على التحقير والإذلال. ولا أعتقد أن السيد المسيح أراد لنا أن نكون أذلاء أو محتقرين أو جبناء.

هذا أمر فردى وليس عمومى

تحويل الخد الآخر يرجع لمن لطم وحده. كل واحد له مطلق الحرية أن يقرر لنفسه إذا لطم ما إذا كان يريد أن يدير الخد الآخر. هذه مسألة شخصية ترجع للشخص المعنى وليس لغيره. ليس من حق بعض الناس أن يقرروا نيابة عن الشخص المتضرر أنه من واجبه أن يدير الخد الآخر. فإذا ما وقع الضرر على الاخرين فإن من واجبنا أن ندافع عنهم وليس من شأننا أن نقترح عليهم إدارة الخد الآخر لمن أساءوا إليهم.

هذا أمر شخصى وليس قانونى

قد نقبل ترك حقوقنا وندير الخد الآخر فى المسائل الشخصية البسيطة، ولكن يجب علينا أن لا نضحى بحقوقنا الشرعية والقانونية. وسنرى أن الرب يسوع وكذا الرسول بولس لم يقبلا أن يصفعا على الوجه، وقدما الإحتجاج القوى عندما مست حقوقهم القانونية.

ولنضرب مثلا: لنفترض أنك بينما تنتظر بسيارتك أمام إشارة المرور إذا بقائد سيارة أخرى يتعدى على حقك فى الطريق ويسبقك. رغبة منك فى التسامح فى حقق الشخصى قد تقبل أن يسبقك فى الطريق. ولكن تصور أنه أراد أن يسرق نقودك، فهل تقبل هذا بسرور وتنفيذا لمبدأ إدارة الخد الآخر تتطوع بأن تعطه ما معك من مجوهرات حتى وإن لم يطلبها ولا يعرف إنها معك؟

طبعا لا يوجد من يقبل أن يضحى بممتلكاته وحقوقه لقطاع الطريق وكاسرى القانون بهذه البساطة. وإلا فلو فرط المسيحى فى واحد من حقوقه فأين يقف؟ وهل سيصل الأمر بنا كمسيحين أن تصبح حقوقنا نهبا لكل من شاء؟ وكيف للمسيحى أن يحس بالأمن والأمان بهذه الطريقة؟

كيف تصرف الرب يسوع عندما لطم على وجه

أثناء محاكمة الرب يسوع أمام رئيس الكهنة، سأل رئيس الكهنة الرب يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. كان الإتهام الذى حاولوا أن يلصقوه به هو عصيان قيصر، وكان من الضرورى أثبات عدد التلاميذ ليثبتوا مدى قوة هذا العصيان المزعوم ضد قيصر. وحاول رئيس الكهنة أن يأخذ من الرب يسوع إعترافا بذلك، ولكن الرب رفض أن يقدم له الإعتراف وعوضا عن ذلك أحاله إلى المصدر السليم للدليل وهو تعاليمه وإجتماعاته التى قام بها علانية، قائلا "أنا علمت كل حين فى المجمع وفى الهيكل حيث يجتمع اليهود دائما وفى الخفاء لم أتكلم بشىء" يوحنا 18 :20

 لقد ظنوا أن الرب يسوع سيصبح فريسة للخوف عند إستجوابهم له بينما هم فى مركز القوة فيعترف فى الحال بعصيانه وتعديه على ناموس موسى. ولكنهم فشلوا فى أن ينتزعوا من الرب أى إعتراف. وفى جرأة مثالية قال الرب يسوع لرئيس الكهنة "لمذا تسألنى أنا؟ إسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا" يوحنا 18 : 21. وإذا قال الرب هذا رفع أحد الخدم يده وصفع الرب يسوع على وجهه قائلا "أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟" يوحنا 18: 22. هذا ورغم صراحة الرب يسوع وجرأته إلا أنه لم يكن قد تعدى حدود الأدب أو اللياقة. ولم يقم هذا الخادم بلطم الرب يسوع إلا تزلفا ّ لأصحاب المنصب وإرضاء لغرور ذوى السلطان. ولكن هذا لم يسكت الرب يسوع عن الدفاع عن نفسه وعن حقه القنونى فى إثبات براءته فأجاب " إن كنت قد تكلمت رديا فإشهد للردى، وإن حسنا فلمذا تضربنى؟" يوحنا 18 : 23

فى تلك الكلمات البليغة يعلن الرب يسوع أنه لا يقبل الظلم مادام بريئا. وبذلك يعطينا المثال القوى أن ندافع عن أنفسنا عندما نكون أبرياء ونرفض الظلم ونحتج عليه.

وكيف تصرف الرسول بولس عندما لطم على وجهه؟

وفى ظروف مشابهة، بينما كان الرسول بولس يحاكم أمام رئيس الكهنة تعرض أيضا للضرب على وجهه. وأيضا رفض الرسول بولس الأمر واحتج عليه بشدة. أمام رئيس الكهنة أعلن الرسول بولس براءته قائلا "إنى بكل ضمير صالح قد عشت لله إلى هذا اليوم" أعمال 23 : 1 وعندما سمع رئيس الكهنة هذه الكلمات أمر الواقفين أن يضربوا الرسول بولس على فمه. فما كان من الرسول بولس إلا أن إحتج قائلا "سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس،وأنت تأمر بضربى مخالفا للناموس؟" أعمال 23 : 3

كانت كلمات الرسول بولس لرئيس الكهنة قوية وشجاعة. وقد كان على حق فى إعتراضه على الضرب على أساس أنه مخالف للناموس. وهو يعطينا درسا أنه من حقنا أن ندافع عن براءتنا ونعترض على الظلم عندما تمس حقوقنا القانونية.

واضح إذن أن كلام الرب يسوع عن تحويل الخد الآخر لا ينفى تمسكنا بحقوقنا القانونية. من حقنا أن نقتدى بالمسيح ونصيح بأعلى صوتنا فى وجه الظلم قائلين: "لمذا تضربنى؟".

 

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com