التراث القبطى يتفجر بالحياة ويتدفق بالحيوية فى بريطانيا

المتحف البريطانى يدعو لإفراد قاعة خاصة للحقبة القبطية..فهل يستجيب أثرياء الأقباط؟!

ليلى فريد  بريطانيا

يحق لكل مصرى، وليس فقط لكل مسيحى، أن يشعر بالثقة والفخر وهو يرى أن جزءا هاما من تاريخه، ينحسر عنه الغطاء، ويكشف اللثام عن أسراره، ويصبح جماله وغناه  موضعا للاهتمام ومصدرا للإعجاب، فى كل أنحاء العالم.

حركة الاهتمام بإحياء التراث القبطى تزدهر وتتقدم بخطى حثيثة؛ فها هى العديد من الكليات اللاهوتية والجامعات فى أمريكا وكندا واستراليا وأوربا وروسيا، تفسح مكانا فى مناهجها للدراسات واللغة القبطية.

 وها هو العمل المشترك بين مصر (ممثلة فى المجلس الأعلى للآثار و الكنيسة القبطية) والهيئات الدولية، قائم على قدم وساق، لترميم وتجديد المبانى، وإصلاح وتنظيف الصور الجدارية والأيقونات، وحفظ وتسجيل المخطوطات النادرة، فى أديرة مصر وكنائسها الأثرية، من القاهرة القديمة إلى الصعيد ومن البحر الأحمر إلى الصحراء الغربية.

 وها هو المركز الثقافى القبطى بالعباسية، يعد بأن يصير، هو ومكتبته، مصدرا غنيا للمعلومات والوثائق.

وهذا النشاط يسير بسرعة مطردة، فبالإضافة الى العمل المستمر الجارى فى أنشطة الترميم، وفى الدراسات القبطية، سواء فى المناهج الدراسية أو المحاضرات العامة، وفى الإصدارات الدورية من مطبوعات متخصصة و مجلات وجرائد ومواقع الكترونية، تعنى بالحضارة القبطية، نجد  أنه قد وقعت مند بداية العام الحالى (على سبيل المثال) أحداث هامة، من أبرزها:

فى مطلع العام، قام مجلس الدراسات القبطية فى جامعة كليرمونت للدراسات العليا بكاليفورنيا، بتنظيم رحلة لزيارة المعالم المتفردة لمصر القبطية. وأعطت هده الزيارة للأكاديميين المشرفين دفعة قوية للتقدم والاستمرارية، وفتحت شهية العديد من الدارسين للتخصص فى القبطيات.

فى فبراير، نظمت مؤسسة القديس مرقس لدراسة التاريخ القبطى، منتداها المعتاد الدى تقيمه فى مواقع الأديرة، وكان مكانه هذه المرة نقادة فى الصعيد.

فى مارس، أقيمت فى تورنتو الندوة السنوية الأولى للدراسات القبطية، تحت رعاية جامعة تورنتو ومتحف كنيسة مارمرقص.

وفى شهر مايو، أقيم لأول مرة فى بريطانيا، المنتدى الدولى لماضى وحاضر ومستقبل التراث القبطى؛ وهو ما سنتحدث عنه هنا بالتفصيل.

فى شهر يوليو، سينعقد المؤتمر السنوى للدراسات القبطية، الذي تنظمه جمعية الأنبا شنودة فى كاليفورنيا، والتى تتعاون مع جامعة كاليفورنيا التى بدأت فعلا فى تدريس مقرر اللغة القبطية.

فى سبتمبر القادم، سيستضيف قداسة البابا شنودة الثالث فى القاهرة، المؤتمر الدولى التاسع للدراسات القبطية، بالتعاون مع  مؤسسة القديس مرقس.

أما عن المنتدى البريطانى، فقد انعقد فى الفترة ما بين 15 إلى 17 مايو فى المركز القبطى باستيفنج فى مقاطعة هارتفوردشير، قرب العاصمة لندن، تحت رعاية الأنبا أنجيلوس الأسقف العام فى بريطانيا.

وفى الحقيقة (وبدون تحيز بسبب وجوده فى موطنا الثانى بريطانيا)، فقد كان من أفضل التجمعات القبطية التى أتيحت لى فرصة حضورها. ولعل النقاط الرئيسية التى أسهمت فى نجاحه تتلخص فى:

كانت البداية موفقة جدا؛ فقد اختير المتحف البريطانى ليكون مكان اللقاء الأول للمشاركين، حيث استمتعوا  بالمحاضرة الافتتاحية والتى تمشى محتواها مع جو المكان الذي ألقيت فيه؛ فكلاهما حظى بالعراقة والجلال.

تحدث مايكل جونز، المدير المساعد لمركز البحوث الأمريكية بالقاهرة ( وهو عالم أمريكى يعرف اللغة المصرية ودقائق الحياة فى مصر، معرفة أولاد البلد)، عن جهود المحافظة على التراث، والصعوبات التى تواجهها على أرض الواقع، متخدا من أعمال الترميم فى الدير الأحمر قرب سوهاج، مثلا. وعرض صورا للرسوم الجدارية الرائعة وهى تتألق بأصباغها الزاهية، وتفاصيلها البديعة، بعد أن انحسر عنها ما تراكم فوقها على مدى العصور، وحجب جمالها وروعتها.

ثم ألقى أمين قسم آثار مصر القديمة والسودان فى المتحف البريطانى كلمة أعرب فيها عن اعتزاز المتحف بمجموعته التى تعود إلى الحقبة القبطية، وعن اهتمامه بعرضها فى قاعة مستقلة، تبرز أهميتها، وتسهل اطلاع الدارسين والزوار عليها، ودعى المعنيين بهذا الأمر إلى المساعدة فى تحقيقه.

والمعروف أن كل بلدان العالم المتقدم تعتمد فى تمويل مشروعاتها الحضارية على تعضيد الأغنياء بدرجة كبيرة؛ فهل تصل هذه الرسالة إلى أثرياء الأقباط فى كل مكان؟! وهل يستجيبوا لدعوة واحد من أكبر متاحف العالم لتخليد تراث أجدادهم؟! نرجو ذلك.

تجمع فى المنتدى علماء قبطيات من جامعات استراليا والأمريكتين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا. والاستماع للأساتدة الأجانب ( من أمثال إلانا نوبس من جامعة ماكويرى، وكارول داونر من كلية بيركبك، وجوست هاجن من جامعة ليدن، وجون جى من جامعة بريجهام يونج، وهوارد ميدلتون جونز من جامعة سوانسى، ولوسى آن هنت من جامعة مانشستر متروبوليتان،  ونيللى فان دوورن هاردر من جامعة فالباريزو، بالإضافة لمايكل جونز من مركز البحوث الأمريكية)، يبعث دائما على الثقة والاعتزاز، ويحرك مشاعر الحماس والغيرة البناءة، فها هم العلماء الأجانب منبهرون بعظمة وقدم تراثنا، ومخلصون فى الخوف من ضياعه، ومتفانون فى الحفاظ عليه، أفليس من الأولى أن نستميت نحن فى حمايته والحرص على إحيائه ونشره؟!

وعلى عكس ما يؤخد عادة على التجمعات المتعلقة بالدراسات القبطية، من ضعف مشاركة الأقباط أنفسهم فيها، فقد كان فى طليعة المتحدثين فى هذا المنتدى، بالإضافة إلى نيافة الأنبا أنجيلوس والأب القمص بيجول باسيلى والأم الراهبة لويز فرج، عالما الحضارتين الفرعونية والقبطية: د. جودت جبرة و د. أشرف صادق. و كذا د. مريم عياد، د. أحمس باهور، د. نبيل صبرى إسحق، د. صمويل تادرس و د. ليلى فريد.

وأضفت مداخلات  وتعليقات د. أشرف و د. جودت الحيوية والبسمة على المناقشات، و أعطى الاستماع لحديث المعتزين بلسانهم الأصيل، وعلى رأسهم الأب بيجول و د. نبيل و د. أحمس، باللغة القبطية، نكهة خاصة محببة لهدا التجمع. وأمتع د. صمويل الحضور بالاستماع للألحان القبطية الجميلة.

وبالإضافة للمتحدثين، حضر الكثير من الأقباط، والبعض سافر لمسافات بعيدة، من أجل المشاركة بالاستماع والمناقشة.

الأوراق المقدمة كانت كلها جذابة شيقة، وحتى المغرق منها فى العلمية والأكاديمية ، قدم بطريقة بسيطة مفهومة. وتميزت بالتنوع، فغطت مواضيع كثيرة شملت: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: من الأمس، لليوم، وإلى الغد. التراث القبطى من منظور المتخصص فى المصريات. حقيقة تواجد الأضاحى البشرية فى مصر القديمة. علاقة كنيسة الإسكندرية بالقوانين الرومانية. قوة تأثير الكلمة المكتوبة، من وحى خطابات توصية فى بداية دخول المسيحية مصر. حياة وأنشطة أسرة قبطية فى الصعيد، فى القرن الثامن، من واقع ما سجلته أوراق البردى.  تناولت ورقتان بلاد النوبة: إحداهما عن شهداء المسيحية، والأخرى عن اللغة والتراث فى نهاية العصور القديمة والعصور الوسطى. الأسطورة فى الأدب القبطى. الكشف عن بعض النواحى المجهولة فى رحلة تحول مصر إلى المسيحية. استخدام اللغة القبطية فى الحياة اليومية، ومشروعات إحيائها، والتوسع فى مفرداتها. أحوال الزراعة فى مصر فى الفترة ما بين القرن الثالث إلى السابع الميلادى. مسح أثرى لشبه جزيرة سيناء فى الحقبة القبطية.  إنشاء مركز معلومات لتسجيل الأديرة المصرية باستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا. صور جدارية رومانية فى معبد الأقصر. تأريخ لإحدى مجموعات العصر القبطى فى المتحف البريطانى. المشاكل التى تعترض الدراسات القبطية، والحفاظ على التراث القبطى فى مصر، وكيفية التغلب عليها. التصور المسبق فى العقائد المصرية القديمة لبعض الأفكارالدينية و اللاهوتية التى وردت فى الكتاب المقدس. نماذج من الفنون فى القاهرة القديمة فى العصور الوسطى. التوسع حديثا فى إظهار العنصر النسائى فى التراث القبطى المرئى. ماذا يعنى الفن المقدس لشباب القرن الواحد والعشرين. الترانيم القبطية على مدار العام.

حظى المنتدى يدرجة عالية من التنظيم والانضباط؛ فالجميع احترم الوقت وآداب الحوار؛ فبالرغم من حرارة المناقشات، لم يحتد صوت، ولم تسمع كلمة مسيئة. و بالرغم من جدية  العمل، كان الجو السائد مريحا، مرحا، خاليا من الشد أو التجهم. وبدا جميع الحاضرين فى نهاية الأيام الثلاثة، وكأنهم أصدقاء قدامى، وحرصوا قبل الافتراق على التواعد للقاء فى التجمع القادم.

ولابد هنا من أن نتوقف لنعزى الفضل فى التنظيم والإعداد إلى أهله:

فبداية، لايسع كل من يتابع الأنبا أنجيلوس فى أمثال هذه المحافل الدولية، إلا أن يشعر أنه يمثل أفضل واجهة لكنيستنا فى الغرب. فبالإضافة للبعد الروحى والعمق اللاهوتى، يحظى بقدر كبير من الثقافة العامة والوعى والكياسة، التى تتيح له التواصل بسرعة وسهولة مع الناس من مختلف الأجناس والأعمار والمستويات الثقافية والتوجهات العقائدية. وتمكنه الكامل من اللغتين العربية والإنجليزية، يمتعه بميزة كبيرة تزيل أى عقبة تقف فى طريق التفاهم مع الآخرين. أما بساطته ورحابة أفقه، فهما مدخله الأول إلى نفوس الشباب الذى عادة ما يصعب إرضاؤه!

وبذلت الدكتورة مريم عياد، المدير المساعد لمعهد الفنون و الآثار المصرية بجامعة ممفيس، جهدا كبيرا فى التنظيم والإعداد. ود. مريم شابة قبطية تبعث على الفخر؛ لاتتمتع فقط بالملامح الفرعونية الأصيلة الجذابة، بل أيضا بالتميز العلمى الذي مكنها من الوصول إلى هذا المركز المرموق.

وقام شعب الكنيسة وكاهنها الأب شنودة عشم، بأداء الأدوار المساعدة الضرورية لإنجاح المؤتمر، وراحة ضيوفه، وتصوير وقائعه، بمحبة وكرم.

أما أكبر دواعى الفرح فى هذه المناسبة، فقد كانت مشاركة شباب فى مقتبل العمر: أقباط ومسلمين، مصريين وأجانب، منهم من جاء للاستماع والمساعدة، ومنهم من قدم أوراقا جميلة حية، استعرضوا فيها أنشطتهم وأبحاثهم فى مجال القبطيات. فاستمعنا إلى منة الله الدورى من المتحف المصرى بالقاهرة، ومونيكا حنا من جامعة بيزا فى إيطاليا ( ويجدر بالذكر أن منة الله ومونيكا، كانتا من أوائل المستفيدين من إدخال الدراسات القبطية فى مناهج الجامعة الأمريكية بالقاهرة مند عام 2003). كما استمعنا إلى إليزابيث أوكونل من المتحف البريطانى، وجنيفر كرومول من جامعة أكسفورد. وكم كان مبهجا الاستماع لفادى هانى ميخائيل، فنان الأيقونات الشاب، الذي تتلمذ على الرائد إيزاك فانوس، وتبدت موهبته الفائقة فى أيقوناته البديعة التى تضمها كاتدرائية القديس مارجرجس فى استفنج.

لقاء هام وممتع، يدعم التواصل بين دارسى القبطيات، ويخرج منه الإنسان مشبعا بالفخر والاعتزاز بجذوره العظيمة، وبالثقة والأمل فى أن التراث القبطى لن يموت، بل سيستمر متدفقا بالحيوية، متفجرا بالحياة، عبر الأجيال.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com