البابا العلماني للأقباط

نبيل شرف الدين 

  
«المعتدلون لم يصنعوا التاريخ ولم يغيروه، وكل من تركوا بصمات في الحياة، كانوا راديكاليين علي نحو ما»، بهذه العبارة رد «عدلي أبادير يوسف» الذي يشكل حالة استثنائية بين نشطاء أقباط المهجر، فرغم أنه يقف علي عتبات التسعين، لكنه مازال قادراً علي إثارة الجدل، يهلك في حبه قومٌ، وفي بغضه أقوام، فهو رجل علي حد السكين، لا يمكن أن تكون محايداً حياله.

حين واجهته بعشرات الانتقادات الموجهة إليه، خاصة تلك اللغة الحادة التي يستخدمها للتعبير عما يراه مظلمة للأقباط، ورحت أشرح له كيف أن هذا الخطاب يمكن أن يكون سبباً لخسارة قضيته، وكنت أتحدث بحماس مفرط والرجل الذي يتجاوز عمر أبي بعقدين يستمع بصبر حتي انتهيت، وهنا سألني: كم من العقلاء حذروا الأنظمة التي تعاقبت علي حكم مصر منذ ١٩٥٢ من مغبة الانزلاق لمناخ طائفي صار الآن حقيقة لا ينكرها سوي مكابر؟، ولم ينتظر إجابتي،

بل استرسل قائلاً: إن هذه الأنظمة تصّر علي خداع الناس، وتسوق دائماً حججاً واهية لا يصدقها أحد، وهذا السلوك المراوغ لا يقتصر علي الشأن القبطي فحسب، بل يمتد لجميع القضايا التي تهم ملايين المصريين، وبالتالي فلم تدع سياسات هذه الأنظمة للناس أي مساحة للاعتدال ولا الثقة.

سألته: لماذا لجأ لهذا الأسلوب الخشن في شيخوخته، ولم يفعل ذلك قبل عقود، فأقر بأن الأمل ظل يراوده طويلاً في إمكانية التغيير باللين خلال نشاطه بالمجلس الملّي، لكنه دفع ثمن ذلك «الوهم» بتلفيق قضية له ـ كما يؤكد ـ حُبس علي إثرها احتياطياً، وخاض عدة جولات قضائية قبل أن تبرئ محكمة النقض ساحته، وأنه منذ اليوم الأول في السجن تحطم الوهم والخوف، وأدرك أن الحقوق لا تُمنح بل تنتزع.

واسترسل عدلي أبادير قائلاً إنه حين قرر الهجرة كان قد تجاوز الستين، وهي السن التي يتقاعد فيها الناس، لكنه بدأ من جديد كرجل أعمال لملم جراحه حتي تمكن من الوقوف علي أقدامه مجدداً، وهنا يصمت لحظة ويقول: هل تعرف أنني أفلست عدة مرات في حياتي، لكني لم أنكسر بل بدأت من جديد، وحين بلغت الثمانين شعرت بأن الله لم يمهلني لهذه العمر إلا لهدف وحيد، أن أدافع عن حقوق المظلومين،

ولأن رجلاً مثلي لا سبيل لإرهابه بسيف المعز ولا حاجة به لذهبه، ولو لم أكن قد حققت سوي تحريك ركود معظم الأقباط وسلبيتهم، ليرفضوا الظلم فهذا يكفيني، كما لا يعنيني بالمرة أن يقال إنني سليط اللسان وشتام، فلم أقل أكثر مما يردده ملايين الناس في مجالسهم الخاصة، لكني أقوله علانية.

من يري العم عدلي للوهلة الأولي لا يصدق أن هذا الرجل المُسّن هو من أثار كل هذه الضجة، فقد كان أول من حرك الموجة الأحدث من احتجاجات أقباط المهجر منذ أن نظم سلسلة مؤتمرات في زيورخ وواشنطن وغيرهما ومع ذلك فالرجل الثمانيني «ابن بلد» يملك حسّاً فكاهياً وبديهة حاضرة،

لدرجة تثير الدهشة، ويتمتع بكاريزما طاغية لحد أجبر مئات النشطاء من معظم المنظمات القبطية في شتي دول العالم، والذين لا يتفقون عادة إلا في أمور قليلة، لعل أبرزها الإقرار بفضل الرجل في تحريك المسألة القبطية، لدرجة أن وصفه أحدهم بأنه «البابا العلماني للأقباط».

قصاري القول إن عدلي أبادير، اتفقنا معه أو اختلفنا، يظل طرازاً نادراً من المصريين القابضين علي هويتهم، فقد كان بوسعه أن يمضي شيخوخة هادئة يستمتع بأمسياته علي بحيرة زيورخ، وألا يغضب منه أحداً،

لكن الرجل آمن بقضية كان يدرك جيداً أنه سينفق عليها الكثير من ماله وسلامه النفسي وصحته المتدهورة أساساً، وبالفعل تكبد عناء كل هذا عن طيب خاطر، وكلي ثقة أن التاريخ سينصفه ذات يوم.

This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com