«بهية» هذا الزمان  

 


24/10/2008 
إكرام يوسف

ارتبط اسم "بهية" بمصر ـ الوطن المجسد في الأم والحبيبةـ عند معظم أبناء جيلي، فما أن يأتي ذكر الاسم حتي يتذكر معظمنا صوت الشيخ إمام عيسي شاديا "مصر يامه يا بهية"، وترد إلي الخاطر فورا صورة  المبدعة الرائعة محسنة توفيق في "عصفور" يوسف شاهين، وفي الحالتين يتماهي  الاسم مع الصوت والصورة لتمتلئ الروح إحساسا بمصر المتوثبة لصباح يشرق بحياة أكرم لأبناء «بهية» وعشاقها.

تدافعت هذه الأفكار في رأسي وأنا أري علي شاشة الكمبيوتر صورة "بهية" هذا الزمان.. من لحم ودم ومشاعر! تشي عيناها بكل صور القهر والضياع والإحباط، لتجسد صورة حية لما يمكن أن تصل إليه صورة بهية حلمنا/مصر!..


فعلي أحد المواقع شاهدتها: أماً مصرية بسيطة من فقراء الوطن، بائعة متجولة في ريف البلاد، لم تكن لتلفت نظر مذيع أو معد برامج يجري معها أي نوع من أنواع الحوار، لولا تلك الظروف "العبثية"، التي وضعتها دون رغبة منها في مواجهة مجتمع انقلبت أحواله، فبدلا من أن يبذل أولو الأمر جل جهدهم لتوفير حياة كريمة لأبنائه في هذه الدنيا؛ راحوا يفتشون في قلوب الناس باحثين عن اختياراتهم في "الحياة الآخرة"، وإجبارهم علي اتباع السبيل الذي يراه "آخرون" طريقا للجنة.


بهية ..التي يقولون أن والدها اختار التحول عن دينه ـ  بملء إرادته وابنته طفلة لم تزل ـ ثم عاد إليه، لأسباب تخصه إلي أن وافته المنية، يحرص البعض علي معاقبتها لكونها لم تتبع ديانة اعتنقها والدها لبعض الوقت، ولا يرون مبررا لاتباعها الديانة التي نشأت عليها وتزوجت من أحد أتباعها وأنجبت أبناء انتموا لدين والدهم ـ الذي لم يغيره حتي الآن ـ بهية الفقيرة البسيطة ترتبك في مواجهة الكاميرا.. أسقط في يدها عندما سألها المذيع عما يمكن أن تقوله لمن أصدر عليها حكما بالسجن بناء علي أوراق تقول أنها زورت في أوراق رسمية بادعائها ديانة غير التي اعتنقها والدها  ـ لبعض الوقت ـ فبدا علي وجهها المتعب الارتباك وأخذت تحاول تجميع كلمات تشبع فضول المذيع، ثم قالت في عفوية: "أقول له.. ظلمتني.. وبس"!


بهية هذا الزمان ـ يا سادة ـ لا تجيد تدبيج الخطب العصماء والحديث عن حقوق الإنسان وحرية العقيدة والحق في التعبير عنها.. هي لا تعرف سوي أنها نشأت في بيت تربت علي قيمه وذهبت إلي بيت العبادة الذي ترتاده عائلتها، وتعلمت تعاليم تري أن فيها طريقها إلي جنة الله الذي تؤمن به، فما دخل الحكومة بسلطاتها وموظفيها في كل هذا؟.


قصدت ألا أسمي ديانة "بهية" التي تحملها في قلبها، ولا الدين الذي اتبعه والدها ـ لبعض الوقت ـ لأن الموضوع ليس له علاقة بالأديان، بقدر ما له علاقة بسلطات "دنيوية" تركت مسئوليتها عن توفير الحياة اللائقة لشعب تولت أمره ـ بصرف النظر عن الملابسات ـ وانشغلت بالتدخل في شئون "أخروية" ليست من شأنها.


"بهية" ـ يا قوم ـ مواطنة مصرية، تستحق أن تعيش في بلدها آمنة ترعي أسرتها تحت مظلة تأمينات اجتماعية وصحية ومستوي معيشي يليق بالآدمي يوفره لها نظام يحكم "كل المصريين" أصحاب هذا الوطن، وحكومة وظيفتها الأساسية تحقيق هذا المستوي في "الحياة الدنيا"، أما "الحياة الآخرة" فلها رب يرعاها.


ومثل بهية، ماريو وأندرو، الطفلان اللذان من حقهما كمواطنين في سن الطفولة أن تضمن لهما الحكومة التعليم الجيد والرعاية الصحية اللائقة وفرص الحياة الكريمة، مقابل ما يدفعه أهلهما من ضرائب كغيرهم من المواطنين، ومقابل التزامهما بخدمة هذا الوطن والدفاع عنه عندما يحين الحين، دون أن يتدخل أحد ليفرض عليهما السبيل الذي يراه ـ هو ـ الأقوم للفوز بالجنة.


دعونا ننظر إلي هاتين القضيتين، وغيرهما، نظرة تتعلق بالدور المطلوب من الدولة تجاه "جميع" مواطنيها مقابل قيامهم بواجبات "المواطنة"، ولندع جانبا التفتيش في الضمائر والحكم علي العقائد.  وبهذه المناسبة، لماذا لم نجد من يعالج قضية "رامي خلة" باعتبارها قضية "مواطن مصري" فقد القدرة علي التمييز السليم، فارتكب جريمة قتل زوج شقيقته التي "خرجت عن طاعة عائلتها وتزوجت رغما عنهم، ثم سكنت بالقرب من منزل عائلتها لتشتعل نيران الغضب والاستفزاز في قلوب العائلة"؟ ألا يحدث ذلك كثيرا بين أوساط اجتماعية معينة؟ أن تقدم الأسرة علي جريمة قتل ابنتها التي خرجت عن طاعة الأسرة وتزوجت رغما عنها، مما يترك لديهم انطباعا بأنها "مرغت كرامتهم في التراب" حتي إن كان من تزوجته علي نفس الدين؟ إن الإصرار علي معالجة أمثال هذه القضايا من منظور ديني، هو الذي يصب المزيد من النيران علي الفتنة ـ التي لم تعد نائمة علي أي حال ـ والحل الوحيد لوقف هذا الاحتقان، هو أن تثبت المؤسسات "المدنية" جدارتها للقيام بمهامها الدنيوية تجاه "جميع" مواطنيها علي قدم المساواة، وهو أيضا الحل الوحيد الذي يضمن قصر مسئولية "المؤسسات الدينية" علي مهمتها الأصلية، ويضمن أن تعود مصر "بهية" من جديد


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com