أشهدكم.. أنى أحب أخى عازر

أشهدكم.. أنى أحب أخى عازر
عـادل صبـرى

عرفته وسط العتمة التى تشهدها البلاد، مع ذلك لم أره قط وأتمنى أن يجمعنا الله ذات يوم، لأسمع صوته مرة ثانية، فقد سمعته مرة أرق من صوت العندليب. فصديقى الذى أحبه، عرفته منذ عامين،

عندما انطلقت الثورة المصرية، وولدت فى أثنائها «بوابة الوفد الإلكترونية». ساعتها فتحنا ساحة الرأى لكل المصريين، فالتقى على صفحاتها كل صاحب رأي. كنت أفرح عندما يتجادل الشيوعى مع مفكرى الجماعات الإسلامية، ويتعارك الناصريون مع الإخوان المسلمين، وينتقد المسيحيون الكنيسة، ويهاجم المسلمون سلطة رجال الدين وعلى رأسهم الأزهر وفضيلة المفتى وغيرهم. أؤمن بأن الأفكار والآراء عندما تتصارع ستتجه حتما بالدولة إلى المسار الصحيح، ولن تعرف البلاد الفرقة والمصلحة الضيقة ولن يسكت الناس عن فساد، كما يحدث على الساحة الآن.

ومن أهم المسارات التى حرصت على وجودها أصوات المصريين فى المهجر. فعندما رأيت مقالا أعجبنى للكاتب المتمرد على سلطة رجال الدين من المسلمين والأقباط كمال غبرائيل، الذى يدافع عن علمانية الدولة، وكان وقتها يقضى إجازة سنوية مع أولاده وأحفاده فى الولايات المتحدة، فإذ بمقالاته تستفز أقباط المهجر، قبل غيرهم من المسلمين فى الخارج والداخل، ورد العديد منهم على رجل أحب فيه عشقه لمصر، وأكره منه تمرده على الدين بكل ملله.

جاءت رسالة الأستاذ سامى حنا عازر، المحكم السابق فى مدينة لوس أنجلوس الواقعة على المحيط الهادى غرب الولايات المتحدة الأمريكية، تطلب على استحياء السماح له بنشر مقال على «بوابة الوفد» ولو لمرة أسبوعيا. فاجأت الرجل الذى حاول الاتصال برقم المكتب مراراً، وقلت له لماذا لا تكتب يومياً، فرجل مثلك له خبرات طويلة، تحتاجها مصر الآن، فقال الرجل، لقد هرمت ولدى مشاغل كثيرة، ولا أخفى عليك، فإن حبى للكتابة وانشغالى الدائم بمصر، جعلانى أصدر جريدة فى لوس أنجلوس، سميتها «المصرى المهاجر». وبعد ساعات من انقضاء المكالمة البسيطة وجدت على البريد الإلكترونى أول رسالة منه تشير إلى أن كاتبها يعشق تراب هذا البلد، مع قدرة كبيرة على التحليل العميق.

ظل الرجل على عهده، يكتب عدة مقالات أسبوعياً، وعندما لاحظ ردود أفعال الناس الجيدة على ما يكتب فى الداخل والولايات المتحدة ازداد حماسه، فكان يكتب يوميا. أحيانا كانت تأتى مقالات سامى عازر مرتين فى اليوم، فعلمت أن شغفه على التواصل مع المصريين، يدفعه للقيام من نومه فى الرابعة صباحا، بتوقيت لوس أنجلوس، بما يعنى السادسة مساء بتوقيت القاهرة. ويحرص الرجل على متابعة كل ما يجرى فى مصر من أحداث, وهى كما نرى أحداث جسام على مدار الساعة، فتحسب أن من يكتب عن مصر وأمريكا، عاش يومين فى يوم واحد.

لم تمنع الظروف الصحية التى يمر بها القاضى سامى حنا عازر عن الكتابة، فقد كنت ألاحظ صحته من تركيزه فى الكتابة على الكمبيوتر، وكأن الحروف جاءت مهزوزة، ولم يتوقف لمدة إلا التى استأذن فيها كى يكون بجوار زوجته فى المستشفى أثناء إجرائها عملية جراحية خطيرة. عاد بعد أسابيع صديقى المهاجر إلى الكتابة بنهم شديد، ورغم تركى منصبى فإننى كنت أقدم للزملاء مقالاته اليومية ولم أجعله يشعر أن هناك شيئاً تغير فى المكان. بعد أسابيع فوجئت بالرجل يطلب أن أرسل له اسمى بأكمله، ورقم البطاقة وجواز السفر، فاستغربت لهذا الطلب العجيب، فقد ظننت أن الرجل يريد التعرف على ديانتي، من الاسم، حيث لدى ميزة اعتز بها دوما أن الإخوة الأقباط الذى لا يعيشون معى طوال اليوم، يعتقدون أننى مسيحي، وكثير من المقربين حولى يدعون على بأنى شبه إخواني، وقربى من الفكر الاشتراكى وعلاقاتى بالصينيين تجعل البعض يعتقد أنى يسارى ويستغربون دوما عندما أقول لهم: إنى وفدى وأعشق الحزب الذى انتمى إليه لأنه المعبر بحق عن الوسطية المصرية المتدينة، وباعتباره بيت الأمة والوحدة الوطنية على مر الأجيال، ونصير العمال والفلاحين والفقراء منذ عهد الباشوات، الذين أرسوا مجانية التعليم، وأسسوا النقابات العمالية ومبادئ التأمين الاجتماعى على جميع المصريين.

بعد أيام جاءت رسالة صديقى سامى حنا عازر تبشرنى بتنازله عن رئاسة تحرير جريدة «المصرى المهاجر» وتكليفى بالعمل بها، مع توفير جميع الضمانات المعيشية لى ولأسرتي. اندهشت من هذه الدعوة وكتبت للزميل الذى علم أنى أواجه صعوبة فى الحياة داخل البلاد، بعد تركى منصبي، فاعتذرت له وقلت يا أخى العزيز لقد جاءت الدعوة الكريمة فى غير وقتها، فقد هرمت واشتعل الرأس شيباً، ولن يسعنى فى هذا العمر سوى بلدي، الذى جهزت على أرضه قبري، حيث أتمنى أن أرقد فيه بسلام.

حاول الرجل مراراً، دون جدوى، وبعد أيام فوجئت به يوجه لى رسالة مع ابن شقيقته، العائد فى إجازة قصيرة إلى بلده الفيوم، ويخطرنى بأنه وكلنى فى صرف كل أرصدته فى البنك التجاري، لأنفقها فى أوجه الخير داخل البلاد.

لم استطع تحمل هول المفاجأة، فكيف يمنح رجلا قبطيا هذه الميزة، لشخص لا يعرفه إلا عبر الرسائل المتبادلة، وأصررت على التحاور معه عبر البريد الإلكتروني، فقال لى الرجل: أخشى أن أترك هذه الأموال فى البنك ولا يعرف أحد الحصول عليها بعد ذلك، ومن الأولى أن تنفق على مشروع يوجه لصالح الناس، فقد فكرت أن أوجه المال لإحدى الكنائس أو غيرها ولن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة إلا شخص مثلك. أحسست بعبء التكليف، وقلت له يا أستاذى العزيز مصر ليست فى حاجة إلى كنيسة أو مسجد، فالكل هنا يبنى الكنائس والمساجد فى إطار صراع على من يبنى أكثر وأعلى بينما الكل لا يهتم بالتبرع للمدارس التى لو بنيت بحقها هى التى ستحول الناس إلى مؤمنين حقيقيين. اتفق معى الرجل وقال المال عندك وأنت حر فيه، وهنا تذكر أن أحد كبار المفكرين فى حالة مرض شديد، ويعلم أنه مفكر حر مسلم، فقال اذهب به إلى أسرته أو ادفع حساب علاجه، فوافقته على هذا الرأي.

ها أنذا أحمل أمانة أخى سامى حنا عازر، التى تبرع بها لعلاج أخيه المسلم، وقد كان قادراً على منح هذه الأموال لأبناء اخوته أو المسيحيين فى الفيوم ومن بينهم يوجد بالتأكيد ذوو الحاجة. جعلتنى كلمات الرجل الرقيقة والتى أشعر أنه يكتبها بصعوبة يومية عبر الإنترنت أستغرب من حالة البلاد التى أوصلها إلى موقد من نار، وأفكر فى الأمر بجلية، ألا يستطيع كل منهم أن يتخلى عن أنانيته كى تمر البلاد من هذا المنعطف الأخير، بينما هناك من يكتوى بنار الغربة وعذاب المرض ولا يتوقف للحظة عن مساعدة أهل مصر بالجهد والمال. أيفرقون بين المرء وأهله لمجرد أنهم يرفعون لافتات يريدون وضعها على صدورنا بالقوة، لتحدد هويتك، فأنت إخوانى وفقا لأهوائهم، وأنت ناصرى وأنت شيوعى وأنت مسيحى وأنت متطرف دون أن تعلم فى أى مسار تطرفت أو على أسس وضعت على صدرك تلك اللافتات. حقا لقد وجدت فى أخى سامى حنا عازر ما لم أجده فيمن حولنا، لذا أشهدكم جميعا أنى أحبه، لأنه المصرى فى أصالته، وصفاته التى يجب أن يتحلى بها الجميع.


This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.




© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com