فى ذكرى رامى فخرى واللى قتلوه

منى ثابت

 

 

صباح السبت 18 مايو، اليوم الذكرى الثانية للشهيد المهندس رامى فخرى.. الهواء داخل الكنيسة العتيقة مغلَّف بحزن يُذِيب المشاعر ويمزجها.. حزن منزوع الدموع، عميق الألم، شاحن للغضب.. البعض يتشح بالسواد إعلانًا لحالة عامة نعيشها، ومشاركة لأهل الشهيد.. لكن الوجوه يغمرها سلام قرار التحدى والتمرد.. مر عامان على مقتل المهندس الشاب رامى فخرى.. الشهير بوجه طفل يشع نورًا وبهجة.. رامى كان عائدا من سهرة زفاف صديق عزيز.. نشاط لمة الأصحاب ومرح المناسبة دفعه للانطلاق إلى موقع عمله قبل انتصاف الليل وبدء حظر التجول فى مايو 2011، وقت انسحاب الأمن والقانون وهجوم البلطجية ثم الإخوان.. سلك رامى طريق السويس-السخنة فى طريقه إلى بريمة البترول فى الشرقية.. وظل على اتصال بوالدته للاطمئنان حتى صمت الموبايل.. واختفى رامى...!

وبعد يومَى بحث، وجدَت الأسرة جثته فى مشرحة مستشفى الصالحية وبجوارها بطاقته الشخصية.. بالجثة ثلاث طلقات قاتلة فى الرأس والصدر والبطن.. وبعد أربعة أيام وجدوا سيارته أمام قسم الشرطة هناك، وبها ثقوب وفوارغ إحدى عشرة طلقة رصاص من الخلف. وقيل لهم شفهيا إن كمين جيش وشرطة قتله بالخطأ فى مطاردة لتجار مخدرات.. وحتى اليوم لم يتم التحقيق فى الواقعة! ولم يغلق الملف، وواصل أهله وأصحابه تكرار السؤال «قتلتو رامى ليه؟!».. سألوا وهم يقفون بالشموع والدموع والغضب واللافتات فى الشارع.. وسألوا على «فيسبوك»، وفى دفاتر المسؤلين، وفى وسائل الإعلام.. وظلت النتيجة صفرًا.. وقبل التجمع اليوم فى صلاة ذكراه الثانية أصدر الجيش بيانًا، يعلن أنه طلب التحقيق لوأد الإشاعات!

أعود معكم إلى داخل الكنيسة.. صورة وجه رامى المكبَّرة تشرق من جانب الهيكل على جموع المصلين.. يغلفها امتزاج البخور مع الصلوات.. وجهه مستريح مكلل بزهور بيضاء كنقائه.. عيونه ضاحكة تنظر إلى كل صديق، تبادله الافتقاد ثم تسحبه إلى بهجة الذكريات.. حكايات مواقف قدرية عجيبة.. مشاعر وكلمات تلقائية ساحرة كالأساطير، وكالأحلام المستحيلة.. حياة رامى تبلورت فى لحظات لا تُنسَى! لو ندرك مبكرا أن مواقفنا النبيلة فى الحياة تتحول زادًا وبلسمًا وسلاحًا لآخرين بعد رحيلنا.. ولو يرى الأنذال والجبناء ما يتبقى منهم بعد الرحيل.. لتغير وجه العالم كله!

عن نفسى اعتذرت إلى رامى لأن الحاكم وأد الصحافة.. كتبت أكثر من مرة أطالب بإجابة سؤال أهله وأصدقائه «مَن قتل رامى؟».. فلم يهتزّ صنم الصمت! أجابَتنى ابتسامته بأن سلاح الكلمة لا يُثقِله إلا الفوارس وكثرة المعارك.

خرجتُ من صلاة القداس بقلب طائر جارح.. أعلى سلالم الكنيسة ابتهجت بتجمُّع وإشراقة أهله وأصحابه.. غمرنى سلامهم ووفاؤهم.. أى ختام حياة أجمل من هذا؟! حياة قصيرة ثمرها لا يذبل، من لا يتمناها؟!

مضيت بحالة انتعاش.. على الرصيف المقابل للكنيسة أيادٍ كثيرة تجدل الزهور زغاريدَ وسجاجيدَ لاستقبال عروس قادمة لزفافها بعد دقائق.. زهور بيضاء كإكليل صورة وجه رامى، تمتد إلى ثوب العروس ونقائها وأحلام مستقبلها.. لكن أمام مدخل الكنيسة كان هذا المشهد الهزلى لميلودراما الحياة.

صوت مبتهج يغنى بقوة موال الصبر! هنا صباحا وسط اشتباك السيارات! صوت شجى كعذاب العِزَبِى على «عيون بهية».. عيونى اخترقت الضجيج ورأيته كاملًا.. مجذوب صلاح أبو سيف وتوفيق صالح بجلبابه الترابى، لكن منزوع الشخاليل والبخور، فاتحًا ذراعَيه للشارع بفرح المبشرين.. رأيته المسيح ينادى «تعالوا إلى يا جميع المُتعَبين وثقيلى الأحماال وأنا أريحكم» ولو بغنائى! يصيح مودعًا أيامنا الغبراء «آه يا ليل يا ابو الغلابة يا ليل».. كأن ليل الغلابة بدأ الانسحاب من الحياة والرجل البسيط مكلف بإعلام وإعلان الخلق الخارجين من الصلاة على الشهيد، والمدعوين القادمين للاحتفال بالعروسين، بأن ليل الغلابة بيلملم هلاهيله وماشى، راحل، غاير فى داهية.. وليفرح الشعب! صوت فرح المبشر غسل اليأس، كمَّم نعيق السيارات، أخرسها.. وجهه بدرا كوجه رامى الشهيد.. صوت صارخ فى البرية يعلن اقتراب الخلاص.. صوت روح منزوعة الخوف نبتت وأينعت تمرُّدًا وسط أشواك تسلقت الحكم لاغتيال وطن.. تمنيت لو أملك تدفُّق سعادته وشجاعته، لأقف بجواره كُورَسًا أنادى القلوب التى تسمع والآذان التى ترى أنْ تَجمَّعًوا واسمعوا.. تَمَرَّدُوا وأبشروا.. ليل الغلابة للغلابة فقط.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com