بعد حوالى أربع وعشرين ساعة من الواقعة المخيفة، التى نحر فيها إرهابى تكفيرى خسيس، رجلا مسنا مسالمًا، ألقت مباحث بلادى وشرطتها القبضَ على المجرم بارد القلب هابط الروح. شىء مشرّف وعظيم، ووعى استخباراتى مشهود نفخر به، «ولكنْ»، تلك المفردةُ التى دائمًا ما تمزج الفخر بالعار، وتلوّثُ الفرح بدموع التأسى والحزن، ولكن، وبينما ستقوم النيابةُ بالتحقيق مع المتهم المتلبّس بالجرم المشهود، ثم وبينما يودع الآثمُ فى الحجز تمهيدًا للمحاكمة، ثم وبينما يقبع فى السجن بعد استنفاد الاستئناف والنقض والطعن والاستشكال وغيرها من مراحل التقاضى، وبينما هو أخيرًا فى البدلة الحمراء انتظارًا للقصاص العادل منه، لقاء ما قدّمت يداه الآثمتان الملطختان بدمٍ لا تمحو أثرَه عطورُ العالم، يجرى «الآن وأمس وغدًا وبعد غد» تجنيدُ عشراتٍ وعشرات من أمثال هذا القاتل: المجرم/ الضحية، فى معامل تفريخ الإرهابيين الجدد التى تعمل دون كلل على مدار الساعة.
اسمه «عادل أبوالنور السيد»، ملتحٍ، قاتل مجرم، نحر شخصًا أعزل مسالما لم يؤذه ودون معرفة سابقة، فكيف أسميه: «ضحية»؟! هو لا شك ضحية القتلة الحقيقيين المتوارين وراء حجب سوداء كلاعبى السحر الأسود، يمسكون خيوط عروس الماريونيت «القاتل»، ويحركون يده الماسكة بسكين الذبح، بينما يترهلون آمنين فى أكوام شحومهم ولحومهم على أرائك وثيرة فى الڤيلات الفاخرة بالقاهرة الجديدة والتجمع والشيخ زايد والزمالك ومصر الجديدة، وبينما هم يربضون على شاشات القنوات الفضائية الإرهابية يسمّمون أفكار البسطاء الذين عقولهم كالأسفنج، وبينما هم يعتلون منابر الزوايا يفسدون على الناس دينهم ودنياهم، ويلوّثون مسامعهم بحكايا الدم والتكفير والنحر وشج الرؤوس وتقطيع الأوصال، ويدنسون أرواحهم بالبغضاء والعداء للمسيحيين وللمرأة وللطفل، بل لكل أفراد المجتمع، بل للوطن، بل للإنسانية!
سؤال يطرق رأسى بمطرقة الخزى كل نهار: بماذا تشعر عزيزى القارئ المسلم حين تقرأ فى مذكرات «بطرس غالى» قوله: «سوء الحظ جعلنى أنتمى للأقلية فى وطن غير متسامح؟»، بماذا تشعر حين تقرأ فى أحد كتبى: «قتل الأرانب»، الذى ذيلته بحوار أجريته عام 2004 مع القاص الإنجليزى «جون ريفينسكروفت»، وبعدما سألته: «كيف يرى المواطن البريطانى المواطن العربى المسلم؟»، فأجابنى بأسى: «دون أن تحزنى منى يا صديقتى، يشعر أنه جوار قنبلة موقوته؟»، عن نفسى، أشعر بالخجل، وليس فقط بالحزن، فماذا عنك؟
ذلك المجرم/ الضحية، أمى لا يعرف القراءة والكتابة، يعنى لم يقرأ القرآن فى حياته، مثلما لم يقرأ أى شىء آخر، فمن أين استقى ثقافته التى علمته أن ذبح مسيحى مسالم، أمر غير إجرامى، ولا هو ذنب سيحاسبه الله عليه مر الحساب؟ بل هو يوقن أن تلك الجريمة البشعة سيدخل على أثرها الجنة ليستمتع فيها بالخمور والألبان والغلمان وحور العين دائمات البكارة! من علمه هذا؟ ولماذا حجبوا عنه معلومة بسيطة من كتاب الله تقول: إن من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا؟ ابحثوا عن ذاك الذى لقنه درسه الأول فى عالم الجريمة والطائفية والإرهاب والتكفير، ثم اشنقوه أمامه، قبلما تشنقوا ذلك المجرم البائس الذى أمر فنفذ ما أمر به، تعرفونهم بالاسم مثلما نعرفهم جميعًا، تعرفون القتلة الحقيقيين لكنكم تغضون الطرف عنهم بدعوى أن لحومهم مسمومة، لكن لحوم ضحاياهم من شهداء المسيحيين الذين يتساقطون أمام ناظرينا كل نهار شهية طيبة المذاق لا دية لها؟! أكررها ولا أمل من تكرارها حتى ننجو: أنتم تحاربون الإرهابيين لكنكم لا تحاربون الإرهاب، الإرهاب آمن فوق المنصات والمنابر وصفحات الكتب ومناهج التعليم وشاشات الفضائيات.
إن كنتم جادين فى مجابهة الإرهاب، عليكم محاصرة الإرهاب الفكرى مفرخ الإرهاب المسلح، عليكم القصاص من القتلة الحقيقيين بدلا من الاكتفاء بإرضاء الضمير بالقبض على منفذى فتاوى عرابيهم، عليكم توقيف مخرجى الفيلم الدموى الهابط وكتبة السيناريو المتكرر، وليس الاكتفاء بإعدام الممثل الأجير، إن كنا جادين فى مكافحة الإرهاب فعلينا تنظيف مناهج التعليم من فخاخ الطائفية وسموم العنصرية المضفورة بين سطورها، فالإرهابى عادل السيد وسابقه محمود شفيق، وغيرهما، ليسوا إلا تلاميذ أتقنوا دروسهم التى تلقوها فى الطفولة وطبقوها فى الشباب، شأن التلاميذ النجباء.
أنتم تكتفون بتجفيف البلاط من دماء الأبرياء، ولا تفكرون أبدا فى إغلاق صنبور الدم.