فاطمة ناعوت تكتب القيامة.. البابا.. رمضان.. النقشبندي
تُشبِه صوتَ «النقشبندي» إذ يقولُ:
مولايْ. إنّى ببابِكَ/ قد بَسَطتُ يدى
رائحةُ الشمعِ فى فانوسى الملوّن
مَنْ لى … ألوذُ بهِ/ إلّاكَ … يا سَنَدى؟!
وكان حصولى على «فانوس رمضان»، هديتى من جارنا: (أنكل وسيم)، معناه أن شهرًا استثنائيًّا قد جاء. صوتُ «النقشبندى» يُشبه قطراتٍ من مَنِّ السماء، يحمله طائرُ السلوى إلى حَزَانى الأرض، فيبتهجون. يذوبُ صوتُ النقشبندى مع ذوبان شمعة فانوسى، فترتبطُ رائحةُ الشمع المُذابِ مع صوت العظيم «سيد النقشبندى» فى ذهنى إلى الأبد. ولكنْ قبل الفانوس البهيج، كان أمامنا شهرٌ من العمل الجادّ الدؤوب مع «جيشنا» المغوار من أطفال الشارع.
أركضُ إلى حصّالتى، حيث أُخبئ كَنزى الثمين. أفتح بابها السرىّ، ثم أفرغها على طرف سريرى. أَثِبُ فى الهواء، وأهبط مُتربّعةً فى جلسة جدى: «الكاتب المصرى الفرعونى». ثم أبدأ فى عد ثروتى. قرشٌ، اثنان، خمسة عشر، وهذه ورقة بعشرة قروش، وورقتان بجنيه كامل، وثمان بقيمة ربع الجنيه، فيكون المجموع أربعة جنيهات وربع. تبدأ المشكلة الآن. ما الحيلةُ التى سأخرج بها من البيت؟! طلبات الخروج، عدا إلى المدرسة، ترفضها أمى بحسم، دون أسباب، ودون استئناف ولا طعن. تطفر دموعى وأصرخ: (يا ماماااا! ده رمضاااان، وكل صحابى متجمعين عشان نزيّن الشارع، والفانوس الكبير هنعلّقه بين العمارات). فتبتسم أمى وتوافق.
لا شك أن مغامرتى مع حصالتى وأمى كانت تتشابه مع مغامرات كلِّ أطفال شارعنا القديم. نتبارى مع أبناء الشوارع الأخرى لنرى مَن فانوسُه أكبر، وزينته أكثر أناقة وأكثفَ لونًا. ولم ننتبه، إلا حين كبرنا، أن نصفَ أطفال شارعنا من صُنّاع زينة رمضان كانوا مسيحيين. فشهرُ رمضان فى مصر لا يخصُّ المسلمين وحسب. إنه شهرُ الجميع، وبهجةُ الجميع، وصلاةُ الجميع: لإله واحد مالكِ هذا الكون الشاسع؛ نعبده جميعًا، كلٌّ عبرَ رؤيته. ونحبُّه جميعًا، كما أحبَّنا هو؛ فمنحنا الحياةَ وجعلنا شعوبًا وقبائلَ؛ لنتعارفَ ونتحابَّ ونتآخى.
يأتى رمضانُ فلا يُشبه أيَّ شهرٍ آخرَ. ولا يشبهه أيُّ رمضانَ يجولُ فى العالم. يتفق المسلمون وغيرُ المسلمين على أن لرمضانَ فى مصرَ طعمًا ونكهةً لا مثيلَ لهما فى أى دولة أخرى. ما السبب؟ إنه سرّ المصريين الخاص منذ آلاف السنين، قبل نزول الرسالات. تعويذةٌ تصبغُ الأشياءَ بلون مصر، وتسبغُ على الأيام طعمَ النيل. إنها عبقرية المصريين فى صناعة الفرح. المناسباتُ الدينية عندنا هى مناسبةٌ للحياة. حيث تلتقى السماءُ والأرضُ فى معزوفة موسيقية ساحرة، لا هى مقطوعاتٌ سماويةٌ خالصة، ولا هى معزوفاتٌ أرضيةٌ خالصة. مزيجٌ فريد. فقط فى مصرَ، يأتيك من السماء صوتُ النقشبندى عند الفجر يشدو: «قلْ اِدعُ اللهَ، أو اِدعُ الرحمنَ، أيًّا ما تدعوه فله الأسماءُ الحُسنى»، وعند الظهر تُقرعُ أجراسُ الكنائس فتنشرُ فى الأرجاء الدفءَ والحياة والفرحَ، ثم يأتيك عند المغرب شجوُ «محمد رفعت» مؤذّنًا للصلاة؛ فلا تُخطئُ صوتَه بين ألف صوت. الشوارعُ غارقةٌ فى اللون والضوء والصَّخب. الناسُ ساهرون لا يعرفون النومَ فى ليالى رمضان. يتجاوزون الفجرَ، وينتظرون حتى ينسلَّ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود. شهرٌ لا تميّز فيه المسلمَ من المسيحىّ. فالكلُّ يحتفل؛ كأنه شهرٌ مصرىّ، وليس دينيًّا. المسيحىّ يصوم مع المسلم؛ لأنه يؤمن أنه «لا يليق أن يشبع وأخوه جائع». وإن باغتنا أذانُ المغرب فى الطريق، سنجد الشبابَ والصبايا يستوقفوننا مبتسمين يلوّحون لنا بالخير. نفتح زجاج السيارة، ونتناول كأسَ العصير وحبّاتِ البلح لكى «نكسر صيامنا». ويحدثُ أن يقول قائدُ سيارة للشباب: «أنا مسيحى!»، فيُفاجأ بأجمل ردٍّ فى الوجود: «إحنا كمان مسيحيين، كل سنة وأنت طيب!» يحدث فقط فى مصر؛ أن يقفَ مسيحيّون ليسقوا مسلمين صائمين، زارهم المغربُ وهم خارج بيوتهم.
قبل أيام، كنتُ أصافحُ «قداسةَ البابا المعظَّم تواضروس الثانى» فى الكاتدرائية لتهنئته بعيد القيامة المجيد. وكأنما كنتُ أصافحُ قطعةً عزيزةً من قلب مصرَ. هذا الرجلُ رفيعُ المقام، قدَّم لمصرَ تضحياتٍ هائلةً من أجل الحفاظ على ثباتِها واستقرارها فى كلّ ما مرّت به من مِحَن طائفية يصنعُها أعداءُ مصرَ أعداءُ الحياة. عالجَ بوطنيته وصبره تداعياتِ كوارثَ إرهابية موجعة كان يمكنها أن تدمر مصر؛ لولا حكمته التى تجعله يضعُ مصرَ وصالحَها قبل أى شىء آخر. طوال الوقت هو خيرُ سفير لمصرَ أمام كلّ رؤساء العالم؛ فلم يسمح لأحد بالتدخّل فى الشأن المصرى، ولم يُهِن اسمَ مصر يومًا بل أعلاها فى عيون العالم، ورفضَ كلَّ محاولات الغرب للزجّ بالأنف فيما يحدث أحيانًا من مضايقات للمسيحيين فى وطنهم. لو عرفَ المصريون كم فتنةً وأدها البابا تواضروس فى مهدها بحكمته ووطنيته، لقدّموا له التحية كلَّ صباح. كل سنة ونحنُ أجملُ الشعوب. كلُّ سنة ومصرُ مصرُ. «الدينُ لله، والوطنُ لَمن يحبُّ الوطن».
المصرى اليوم