الإسلام و الحضارة
سيد القمني
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.
الحوار المتمدن - العدد: 1937 - 2007 / 6 / 5
لا يخلو خطاب إسلامي من الإشادة بما يطلقون عليه ( الحضارة الإسلامية ) ، و ما أنجزته هذه الحضارة على المستوى النظري الفلسفي ، و علي المستوى المادي التطبيقي ، بفضل كوكبة من العلماء المسلمين الذين أنجزوا في زمانهم ما يعد مفخرة عربية إسلامية .
و يتخذ أنصار إقامة دولة إسلامية من التأكيد و التكرار على ( الحضارة الإسلامية ) إثبات أنه كان لنا حضارة من نوع خاص مفارق و مباين لما يعرفه العالم كله عن معنى الحضارة ، و أنها الحضارة التي تناسبنا و تتفق مع ديننا و لا تخالفه ، و أنه بالإمكان استعادة هذه الحضارة التقية الشريفة الورعة المسلمة ، لنواجه بها حضارة الغرب المتفوق اليوم ، لو أمكن لدعاة الإسلام السياسي حكم البلاد بالإسلام . بل و ستتميز دولتنا المسلمة عن حضارة الغرب بالقيم و الأخلاق السامية التي بات هؤلاء المتحضرون يفتقدون إليها .
و لا بأس من الإشادة بدين من الأديان ، و لا بأس أيضاً بتقدم علمي لدين من الأديان ، لكن البأس كل البأس تلبيس الإسلام ما ليس فيه و ما لم يعرف و ما لم يكن بحسابه و لا حساباته و لا اهتماماته و لا لحظة واحدة . و التلبيس على المسلمين بأوهام تمسكوا بها و لم يعودوا يرون غيرها ، حتى غاب عنهم البحث و النظر إلى ما بأيدي غيرهم من شعوب العالم المتفوق من عوامل التحضر و الرقي و التمدين و التقدم ، اعتماداً على اعتقاد أن ما بأيديهم كدين يتضمن نظرية متكاملة لحضارة متكاملة هي أم النظريات و هي المثل الأعلى للحضارات كلها ، لا بل هي الإنقاذ للعالم كله لأنها تأخذ بيده نحو نور الهداية و الحضارة التقية لإقامة مملكة الله على الأرض ، يوم يعم الإسلام العالم و يعيش كل البشر في نور التقوى و السعادة والحبور و الهدى ، سواء أسلموا أو دفعوا الجزية ، المهم أن تكون الدولة الإسلامية إمبراطورية عالمية تحكم العالم من شرقه إلى غربه .
و ترداد القول بهذه الحضارة ولوكها في كل مناسبة ، هو نوع من الخطاب المخاتل المخادع التلبيسي التلفيقي ، لأن الأديان جميعاً لم يكن من مهامها إقامة حضارات أو دول .
و مع البدايات الأولى لظهور الأنبياء ذوي العزم منذ إبراهيم و يعقوب و يوسف و موسى كانت الحضارات موجودة ، فقد زار هؤلاء مصر و نزلوا في ضيافة الفراعين ، جاءوها ليجدوا الفرعون ملكاً على دولة قوية متماسكة أنجزت حضارة كبرى تقف آثارها حتى اليوم تتحدى الزمن ، و هى حضارة مشرفة بكل المقاييس رغم أنها كانت وثنية غارقة في أساطير دينية . و كان مفترضاً أن تكون حضارة الرب هي الأعلى و الأبقى ، و كان مفترضاً أن تكون حضارة الرب هي بداية الحضارات على الأرض و ليس الحضارة المصرية أو البابلية أو الفينيقية أو الصينية ، و لو كانت الأديان تصنع حضارات لكانت جزيرة العرب هي نموذج الحضارات العظمى ، و لصار الحجاز هو نموذج العالم المثالي ، و لكان المفروض ألا يطالبنا أحد بالإصلاح ، بل كان المفروض أن تخرج المظاهرات في أوروبا تطالب بالشورى بدلاً من الديموقراطية و بتعدد الزوجات و بالحجاب و بالجهاد و السبي و الاستعباد .
بينما المركز الجغرافي للإسلام كان بداوة جاهلية استمرت قبلية كما هي باستمرار عادات العرب و تقاليدهم المضافة إلى الإسلام ، و حتى اليوم تجد مركز الإسلام في السعودية فاشلاً في إدارة مجتمعه ، يستورد كل الصنائع و كل الفنيين و الخبراء على صنوفهم من مختلف بلدان العالم ، يستورد من الشماخ إلى الملابس الداخلية إلى سجادة الصلاة إلى الطائرة ، و هو ما لا يمكن تسميته حضارة فهي حضارة الغير المشتراه بالبترول ، و لو تم سحب العمالة الأجنبية من مهبط الوحي تنهار الدولة ، فالسعودية معرض منتجات دولي ، فقط هي ( صاحبة الليلة ) بالبترول الذي اكتشفته لها حضارة الإنسان في بلاد الغرب ، صحن الكعبة من بناء شركات أجنبية عالمية ، المستشفيات تستحضر أطباء من أوروبا و أمريكا رغم ما لديها من الطب النبوي ، و لا تعرف لماذا لا يستثمرون أموالهم في بول الناقة بدلاً من أن يصدرونها إلينا فتاوي و أحاديث و تفاسير ما أنزل الله بها من سلطان .
إن الحضارة ليست منجزاً دينياً إنما هي منجز إنساني مفتوح ساهمت فيه البشرية من كل ملة و دين و لون و عنصر ، و لم يقم الدين يوماً بصناعة حضارة فهذه شئون إنسانية بحت ، فالحضارة ينتجها هيكل مدني مستقر : من النجار إلى الفلاح إلى السمكري إلى الطبيب إلى المهندس إلى القانون إلى نظام الدولة الهيكلي التراتبي الوظيفي و البيروقراطي .
و قد نجح الوثنيون في إقامة حضارات عظمي فلو كانت الوثنية معيبة ما أنتجوا و لا تحضروا ، و هو مما يعني أنه لا علاقة للدين وثنياً أو سماوياً بالتحضر و إقامة الدول ، فلم يثبت أن نبياً واحداً قد اقام هرماً أو مستشفي أو سد مياه ، و إذا كان من مهام الدين إقامة الدول و الحضارات فأين هي دولة إبراهيم و دولة نوح و يوسف و الخضر و ذي الكفل و ذي النون و أين حضاراتهم ؟ ألم تترك أى أثر ؟
لو كانت الآلهة تصنع حضارة و كنا نحن المسلمين أصحاب أصح الأديان و أرفعها ، و أصحاب الإله الواحد القهار ،لكان واجباً أن تكون حضارتنا هي النموذج الذي لا يهتز للحضارة الإلهية على الأرض ، و أن تكون مثلاً أبدياً لا يدانيه تقليد بشري ، بينما واقعنا يقول أننا أصحاب أخيب حضارة على سطح الكوكب الأرضي ، و أنه من الظلم لديننا أن ننسب إليه و إلى الرب القوي المهيمن مثل هذه الحضارة التي هى عار الإنسانية على الأرض .
و رغم ما نراه أمامنا فإن عامة المسلمين و خاصتهم و فقهاءهم يعتقدون أن اكتمال رسالة الإسلام كانت يوم قال الوحي : " اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا " ، و هو ما يعني اكتماال معارف البشرية بحيث لم يعد هناك أى إمكانية لتقديم أى جديد ، فكل المعارف مدونة في القرآن الكريم و ما علينا إلا اتباعها و حفظها و ترديدها و تفسيرها لنكون من العلماء ، فلفظ العالم عندنا تطلق على العاملين بشئون الدين و ليس بشئون الدنيا . و هذا هو العامل الثاني و الأخطر في صرف المسلمين عن البحث و الجد و بذل الجهد و المثابرة و الشقاء و أخذ النفس بالشدة في تحصيل المعارف و العلوم التي أدت إلى تقدم المتقدمين . و يدعم الإعتقاد بأن اكتمال القرآن يعنى اكتمال المعارف من مصدرها الإلهي الأعلم بها من أى مخلوق ، بقول القرآن : " و ما فرطنا في الكتاب من شئ " .
و حتى يكون رجل الدين هو الممسك بكل عقل المسلم و روحه ، اعتمد تفسير الآيات بأنه يعنى تمامية المعارف في القرآن ، و لأن هذه المعارف غير واضحة بتمامها فعلى المسلم الرجوع لرجل الدين في كل شأن في حياته كبر شأنه أو صغر ، ليعرف مدى مطابقته لدين الله و أوامره ونواهيه . رغم أن الآيات لا تشير إلى أى معارف ، فهي تقول أكملت لكم دينكم و لا تقول أكملت لكم العلم و المعرفة و الحضارة ، و الآية ما فرطنا في الكتاب من شئ ، تعني ما فرط في شئ من شئون الدين و العبادة و الشعائر و النوافل . . . إلخ ، و ليس من شئون الدنيا و العلم و المعارف الإنسانية التي لا تسعها كل الكتب و المعاني المقدسة ، و لا علاقة لها بها من بعيد أو قريب ، لأن الدين جاء ليعلمنا كيف نحب الله و نطيعه و نؤدي له فروضه و كيف نشكره على نعمته ، و لم يأت ليعلمنا صنع الحضارة بالهندسة المعمارية و الزراعية و الفيزيائية و الكيميائية و البيولوجية و الطبية . . إلخ . . إلخ . حتى بات المسلم الذي يعتقد أن كل هذه العلوم كمنتج حضارة موجودة في كتابه المقدس ، يعيش حال تقزيم لعقله و سجن لطاقاته و مهاراته ، إذ يعتقد أن العلم الإنساني الهائل كماً و كيفاً بهذه البساطة و الخفة السطحية بحيث يجمعه كتاب واحد ، و يكفيه أن يحفظ هذا الكتاب وحده ليكون قد علم كل شئ علم اليقين ، و من ثم لا يرى العلم رؤية سليمة حقيقية تحفظ له قيمته و احترامه و قدسيته ، و لا هو بقادر على إنجاز أى شئ بعد أن أنجز الله كل شئ .
الحضارة تقوم على قدسية العقل البشري و الثقة في ممكناته و طاقاته ، بينما كان الشيخ جاد الحق شيخ الجامع الأزهر أى رجل العلم الأعلى بين المسلمين ، يخرج علينا في التليفزيون ليقول : " أخطأ اليونان قديماً حينما استمسكوا بالعقل و اعتزوا بمنطقه ، و أخطأنا نحن حين أخذنا عنهم هذه النقيصة " .
هذا رغم ما يزعمه الخطاب الديني عن حض الآيات و الأحاديث على طلب العلم بالعقل و النظر، أى بالاستنباط النظري و الاستدلال الحسي المادي ، و هو زعم و تلبيس بدوره ، لأن العلم المطلوب هنا هو العلم بعظمه الله و الاستدلال على قدرته ، لذلك أطلقوا على رجل الدين لفظ عالم بهذا المعنى ، فالعلم المقصود المطلوب هو العلم بشئون الدين ، لأن حقيقة الدين و طبيعته لا تدفع العقل لإنتاج فكر جديد منتج في الواقع ، فهو مجموعة من الأوامر و النواهي و التحريمات ، برنامج يسيطر على حياة المؤمن المطيع النموذجي منذ صحوة حتى نومه و من ميلاده حتى مماته ، فهو لا يستطيع التصرف إلا وفق هذا البرنامج فهو يأكل بأدعيه و يصلي بآيات و يدخل الكنيف بمفاتيح لفظية و يخرج منه بمثلها و ينكح وفق تعليمات تسبقها ابتهالات و أدعية مقننة في حروف و ألفاظ ثوابت رواسخ . . إلخ . و مع مثل هذا البرنامج لا يصح القول بعقل ينتج فكراً .
و لو نسبنا الحضارة لدين ، فإن المعنى سيكون أن حضارة الغرب الحالية هي حضارة الصليب ، و هي حضارة استمسكت بالعقل و اعتزت بمنطقه و تمسكت بهذه النقيصة فانجزت ما نرى و ما نعيش ، بل و كانت ذات فضل في حماية الإسلام بحماية كتبه المقدسة بما وفرت من وسائل الطباعة و النشر و الإعلام بالتليفزيون و المذياع و الإنترنت بشبكة اتصالات دولية ، كما وفرت لنا كل ألوان العلاج لكل الأمراض حتى المستوطنة منها في بلادنا و ليس في بلادهم ، دون أن تقدم حضارة الإسلام و لا مصلاً شافياً واحداً لمرض يستوطن فيها أو في غيرها .
و إذا كان المقصود بالحضارة في هذا الخطاب جانبها المادي المتمثل تلك الأزمنة في ارتقاء العلوم و بخاصة المعمار و الري كدلالات حضارية ، فلم يكن للعرب معرفة بالنهر حتى ينشئوا هندسة للرى ، و لم يكن لهم معرفة بالعمارة لأنهم كانوا خيمويين متنقلين . لو كان للإسلام حضارة تنشئ معماراً ما وقف النبي يخطب في مسجده فوق جذع نخله ، و لكانت عمارة مسجده أروع مما هي عليه اليوم بهندسة السويسريين و كرستالهم و الإيطاليين و رخامهم ، أو لأقاموا كعبتهم بأنفسهم بدلاً من إبراهيم اليهودي بمساعدة الملائكة ، و من بعده أقامها مصري بخشب سفينة مصرية غارقة ، و من بعد هذه الأزمان بهندسة الأمريكان و الطليان ، أو لطابقت مساجد الأندلس مساجد القاهرة و بغداد و دمشق ، فهذه المساجد معمار حضارات شعوب اعتنقت الإسلام ، و سطا عليها العرب و رفعوا عليها راية الإسلام فبعد احتلال العرب لدول الحضارات المحيطة بجزيرتهم ادعوا ملكية حضارات البلاد المفتوحة ، بل واجتهد فلاسفة العروبة و الإسلام لإثبات عروبة تلك البلدان حتى قبل فتحها واحتلالها .
و هنا لابد من التنويه للعقل البصير أن الإسلام هو دين من عند الله و ليس من عند العرب ، جاء للبشرية كافة لكن العرب سطوا عليه مبكرين و ركبوه لتحقيق أغراضهم ، و ألبسوه ثيابهم و عاداتهم و تقاليدهم . قلا تلازم ضروري بين العرب و الإسلام ، و نسبة الناطقين بالعربية بين مسلمي العالم اليوم لا تزيد عن 20 % ، و هو ما لم ينقص من إسلام و إيمان 80 % من مسلمي العالم غير العرب . و عادات العرب و تقاليدهم و لغتهم لم ينزل بها جبريل وحياً على محمد ، فهي كما لا تلزمنا في مصر بأكل الجراد و الضب ، فإنها لا تلزمنا كذلك بأى تقاليد أو عادات عربية أخرى .
و إذا كانوا يقصدون بالحضارة كوكبة العلماء الذين ظهروا بين القرنين الثالث و الرابع الهجريين ، فلم يكن بينهم عربياً سوى الكندي و هو فيلسوف متواضع الشأن إذا قيس بغيره ، و لم يكن ظهور تلك الكوكبة بسبب الدين و علامة على إقامته حضارة ، و إلا كان من الضروري أن يظهروا مع ظهور هذا الدين ، لا أن يظهروا في زمن بعينه ، ثم يختفوا باختفاء هذا الزمن ، لأن ظروف هذا الزمن هي ما أنتجهم و ليس الدين و لا رجاله و لا العرب و لا تقاليدهم . كان زمن انفتاح حضاري على حضارات العالم القديم بالترجمة و النسخ و الإضافة أحياناً ، في زمن ذهبي لإمبراطورية قوية لا تخشى على نفسها من فكر أجنبي ، و هو زمن أنجب الرشيد و الأمين و المأمون و غيرهم من الخلفاء المستنيرين ، الذين جعلوا بلاطهم مكاناً حراً للعلم بصنوفه و الشعر و الموسيقى و الأدب حتى أدب الفضائح و فنون العري و الفجور و الجنس على أنواعه حتى المثلي منه و التباهي به شعراً ، و تلازم وجودها مع وجود هذه البيئة المنفتحه التي أنتجت مع فنون الفجور فنوناً راقية و علوماً متقدمة بمقاييس زمنهم ، و عندما أغلق باب الحريات العقلية مع المتوكل و خلفه ، ذهب علماؤنا و لم يعد أحدهم من يومها رغم وجود العروبة و رغم وجود الإسلام ، بينما كانوا موجودين رغم وجود العري والفجور ، لكن مع مساحة حرية لم يدخلها رجال الدين ليصادروها .
و لأن الإسلام ظهر في بيئة قبلية بدوية لم يعرف معنى الوطن و المواطنة ، فالقبيلة المتحركة دوماً لا تعرف وطناً إنما تعرف شيئاً معنوياً يجمعها أطلقوا عليه ( الحمى ) ، يتحرك معهم أينما تحركوا في حمايته و حماه ، و عادة ما كان هذا الحمى يمثل القبيلة كلها ، و هو في النهاية رمز ميتافيزيقي كان يلتبس برب القبيلة ، و هو ما يشبه قول الإسلاميين اليوم أن الإسلام وطن ، بل أن هذا الحمى أو الدين أرفع بدرجات من أى معاني تتعلق بجغرافية الأرض أو حدودها ، أو كما يقول الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي : " إن الإنسان يضحي بنفسه من أجل دينه ، فالدين مقدم على الإنسان . . فالدين هو الضرورة الأولى و بعده تأتي ضرورة النفس و بعدها النسل و بعدها العقل و المال ( و لا يذكر الوطن كضرورة من هذه الضرورات ) / حلقة الظاهريون الجدد ، قناة الجزيرة " . و من ثم ساغ لكاهن الإخوان الأكبر أن يقول عن إيمان صادق " طظ في مصر و أبو مصر و اللى في مصر " .
و الوطن هو ما يشكل الضمير الجمعي و القانون الجمعي و هما أساس الحضارة ، فالحضارة ينتجها وطن له حدوده الجغرافية و شعبه الذي تجمعه المصلحة الواحدة ، فكان النيل مثلاً بجبروته عند الفيضان دافعاً لتجمع كل المصريين لحماية قراهم و حقولهم يداً بيد ، في تلاحم قوي بضمير جمعي واحد برعاية مصلحة مشتركة واحدة ، و مثل هذا الضمير الجمعي هو ما يخلق قانون المواطنة ، فيحرص كل مواطن على حماية الملكية العامة و القانون العام ، باعتبار الوطن ملكاً له كما هو ملك لجميع المواطنين . فإذا لم يوجد وطن فلا وجود لضمير جمعي و لا لقانون جمعي ، و من ثم لا وجود لدولة و لا لحضارة ، أين سيقيمون دولتهم المنتظرة إذن إن لم تكن في وطن ؟ !
فالشعوب التي أنجزت حضارة هي الشعوب التي استقرت في أوطان و أمتلكت ضميراً جمعياً يشترك فيه الجميع و لا ينسب لدين من الأديان .
و من هنا نفهم لماذا لم يتمن نبي الإسلام أن يصنع شعبه حضارة و كنوزاً ، لأنه يعلم أن شعبه قبائل غير منتجة و أن الإنتاج خاصية لجغرافيا أخرى مستقرة ، إنما تمنى الاستيلاء على ما حوله من حضارات : " و الذي نفسي بيده لتملكن كنوز كسرى و قيصر " . و حتى اليوم لا يوجد لدينا طموحاً لمنافسة المنتجين و المخترعين و المبدعين في العالم ، بل نريد الحصول عليها جاهزة بالاستيلاء عليها ، على الطريقة البدوية القبلية ، فهي ثقافة تجارة وصيد و قنص و كر و فر ، تستولى على ما بيد الآخر بدلاً من أن تنجز مثلما أنجز و أن تتحضر مثلما تحضر .