في يوم 29 مايو 2007 نشرت صحيفة المصري اليوم خبرا يقول 'علي إثر أزمة العياط قدم البابا شنودة مذكرة إلي الرئيس مبارك يطلب فيها رفع الظلم الواقع علي الأقباط وتفعيل مواد الدستور الخاص بالمواطنة وإعادة النظر في الحكم الصادر بعدم أحقية القبطي الذي أسلم بالعودة إلي المسيحية'.
في يوم 30 مايو 2007 جاء الرد المصري الرسمي واضحا علي لسان وزيرة العمل المصرية, وتم نشره في صدر الصفحة الأولي بجريدة الأهرام الرسمية, وجاء كلام الوزيرة - وبمعني أصح ما نشر باسمها - مرددا الخطاب التقليدي الحكومي بأن كل شئ تمام ومعندناش مشكلة ومعندناش حاجة اسمها أقليات, مرددة خطاب التيار الإسلامي بأن الأقباط يحصلون علي أكثر من حقوقهم. وهكذا يستمر الخطاب في عهد النظام الحالي في إنكار كل شئ وبتماهيه مع الخطاب الإسلامي بأن الأقباط عليهم أن يحمدوا الله علي العز إللي هم فيه.
في رد وزيرة القوي العاملة, أو بمعني أوضح خطاب النظام المصري المتكرر والمعتاد طوال أكثر من ثلاثة عقود,ذكرت أرقاما لا أساس لها من الصحة أو ببساطة أرقام مفبركة تعود النظام المصري الحالي أن يقدمها للخارج وخطاب متكرر في ردود النظام علي المؤسسات الدولية والجهات الحقوقية في الخارج, وفي هذه المرة أيضا لا مانع من التبجح وتقديم نفس الخطاب إلي الداخل أيضا وهي رسالة تحريضية خطيرة للعامة والغوغاء علي ممتلكات الأقباط وأعمالهم, وأيضا رسالة تقول إحنا كده وإللي مش عاجبه يشرب من البحر ويتماشي مع خطاب السيد مهدي عاكف إحنا كده وإسلامنا كده وإن كان الأقباط مش عاجبهم الباب يفوت جمل.
محنة الأقباط, أن النظام والإسلاميين يختلفون في أشياء كثيرة وربما متناقضة ويتفقون علي تهميش واضطهاد الأقباط وحصارهم ووضع سقف صارم للحد من مشاركتهم الحقيقية في حكم بلدهم وتقليص الفرص المتاحة لهم باستمرار.
في موضوع الخطاب المتبادل بين مصر ومنظمة العمل الدولية ' ILO هناك عدد من الملاحظات الجديرة بالتسجيل:
أولا: الطرفان يتكلمان من ارضيتين مختلفتين, منظمة العمل الدولية تنطلق من خطاب حقوقي واضح المعالم لمعني التمييز الديني وغير الديني في العمل والمساواة في الفرص, والطرف المصري يتمترس وراء فكرة المؤامرة الدولية والإساءة لسمعة مصر لكي يتهرب من مسئولياته ولكي ينكر ويضلل ويتذاكي في خلط الأمور متصورا أن العالم مجموعة من الأغبياء وأنه غير مدرك لقضية التمييز الديني الصارخ في مصر. نحن إذن أمام حوار طرشان لن يؤدي إلي نتيجة طالما أن الأقلية لم تستفد من تنامي الإدراك الدولي لوضعها لصالح تصعيد قضيتها داخليا وخارجيا حتي يجبر المجتمع الدولي مصر علي الالتزام بالقانون الدولي وبحقوق الإنسان.
والمدهش أن جريدة الاهرام نشرت في صدر صفحتها الأولي بتاريخ 10 يونية 2007 أن مدير منظمة العمل الدولية خوان سومافيا أكد للوزيرة المصرية أن تقرير المنظمة لم يقصد به الإساءة لسمعة مصر, وهو صادق فيما يقول فالمسألة ليست سمعة جيدة أو سيئة بل منظمة تقوم بدورها في رصد التمييز حسب البيانات التي تتوفر لها وتتأكد منها وتقيسها وفقا لمعايير التمييز في العمل التي وضعها خبراء عالميون ورصدتها المنظمة في الصفحات الأولي من التقرير, بل وفي مقدمة القسم الخاص بالتمييز الديني انتقد التقرير الدول الصناعية حيث ذكر 'أن التمييز ضد المسلمين في مكان العمل قد زاد بعد 11 سبتمبر, وقد ارتفع عدد الشكاوي المقدمة علي أساس التمييز الديني المقدمة للجنة التكافؤ في فرص العمل في الولايات المتحدة بأكثر من 20% عام 2002' . وانتقد التقرير في قسم التمييز الديني أيضا الاتحاد الأوربي والهند وافغانستان ونجلاديش والسعودية, ثم جاءت الفقرة المتعلقة بمصر والسودان والسنغال كالآتي 'في السنغال والسودان يطلب من المتقدمين المسيحيين إلي الوظائف أن يرفضوا الايمان بدينهم أو يعتنقوا الدين الإسلامي إذا أرادوا الحصول علي الوظيفة. ومن أكثر أشكال التمييز صلافة تلك التي تستهدف الأقباط في مصر, إذ لا يتمتعون بنفس الفرص للحصول علي التعليم ولا بفرص متكافئة في التعيينات والترقيات في الوظائف, والقليل منهم يعينون في مناصب رئيسية في الحكومة أو كمرشحين لعضوية البرلمان وقبولهم في الشرطة والمدارس العسكرية محدود, ولا يعمل إلا القليل منهم كمعلمين وأساتذة'. ما هو الخطأ في هذه الفقرة والتي لم تتناول كل أشكال التمييز الديني المتعددة التي تقع علي أقباط مصر ويعرفها القاصي والداني؟ وكيف تتجرأ جريدة الاهرام وتقول إنها مزاعم لا أساس لها من الصحة؟!! ألم تسمع الوزيرة ومعها الاهرام قصة الطبيبة بقسم الأطفال بجامعة المنيا ميرا رؤوف الذي استقال رئيس قسم الأطفال بطب المنيا وأستاذها سالم أحمد سلام احتجاجا علي التمييز الديني الذي وقع عليها؟, الم تسمع قصة معيدة تربية عين شمس غادة عاطف التي نشرتها جريدة الأهالي المصرية؟ ألم تسمع قصة المدير المالي للشركة السعودية - المصرية للتعمير يسري سعيد النميري الذي فصله رئيس مجلس الادارة السعودي محمد عبدالله الشريف لانه مسيحي واعلن ذلك امام الجانب المصري في مجلس الأدارة لأنه لا يوافق علي أن يتولي مسيحي موقعا قياديا بالشركة لأنه لا ولاية لغير المسلم علي المسلم ,رغم ان الشركة مصرية - سعودية مشتركة بين الحكومتين المصرية والسعودية وتمارس نشاطها علي أرض مصر؟, ألم تسمع عن مطاعم مؤمن التي أعلنت عن طلب موظفين بشرط أن يكونوا مسلمين؟, هل سمعت عن الشركات والمدارس التي تشترط تحجيب العاملات فيها؟, هل سمعت حتي عن التمييز الديني في شراء الاسهم الذي فرضه بنك فيصل الإسلامي والمتهم بأنه أحد أذرع الإرهاب الدولي كما جاء في اللوموند الفرنسية؟, ثم هل نقد المنظمة لأمريكا وألمانيا وبريطانيا وباقي دول الاتحاد الأوربي هو إساءة لسمعة هذه البلاد؟, وإذا كان الهدف من إنشاء منظمة العمل الدولية هو رصد التمييز في مجال المساواة في الفرص وأثناء العمل لأعضاء منظمة الأمم المتحدة , فهل إذا أدت واجبها وقامت بعملها نغضب ونثور ونكذب ونضلل ونفبرك ونختلق؟,وما معني أن يحتج وزير الخارجية المصري علي منظمة حقوقية دولية ويترك الكثيرين من المصريين يعاملون كالعبيد عند الكفلاء في دولة مثل السعودية؟.
الفرق بين دولة كأمريكا ودولة مثل مصر أن أمريكا تعترف أن لديها تمييز ولديها أقليات وتستقبل هذه التقارير بهدوء لأنها لديها آلية فعلية ترصد وتستقبل التمييز في العمل بكافة أشكاله وتحقق بجدية في الشكاوي وتنصف المظلوم وهو ما حدث بالفعل مع العشرات من المسلمين بعد 11 سبتمبر, بل وتعتمد المنظمات الدولية علي مثل هذه المنظمات في رصد التمييز داخل أمريكا. هذا هو المجتمع الصحي الذي يسعي للعلاج عكس المجتمع المصري الذي يتصنع إخفاء عيوبه حتي أصبحت أزمة حادة دفعت الباحث د. محمد السيد سعيد أن يقول إن هناك انشطارا دينيا حادا يعانيه المجتمع المصري في الوقت الحاضر علي الرغم من المحاولات المصطنعة لإخفاء ذلك.
ثانيا: منظمة العمل الدولية في نقدها لمصر تنطلق من انتهاك جوهر قواعد المواطنة, أي المساواة في الفرص والمشاركة في صنع القرار السياسي, وجاء الرد المصري عجيبا ليقدم أرقاما مفبركة عن ثروة الأقباط ونشاطهم الاقتصادي ونجاحهم في العمل الخاص , فما علاقة هذا الرد بحقوق المواطنة؟, فالمساواة في حقوق الاستثمار مفتوحة للمصري والعربي والأجنبي منذ قانون تشجيع الاستثمار العربي والأجنبي 43 لسنة 1974 والقوانيين التي تلته, بل إن الأجنبي يتمتع بميزات اكثر من المصري في مسألة تشجيع الاستثمار مثل التحكيم الدولي, فالكثير من المستثمرين الأجانب يشترطون عدم الخضوع لقانون الأعمال المصري وإنما لقواعد متفق عليها للتحكيم الدولي, والأجنبي أيضا يمكنه الاتصال بسفارته إذا حدثت له أية مضايقات أو ابتزاز وقد رأينا رئيس الوزراء السابق عاطف عبيد يعتذر لرجل الأعمال المصري -الأمريكي محمود وهبة في مؤتمر صحفي عقد خصيصا لذلك وخرج محمود وهبة معززا مكرما رغم ما قيل عن الخراب الذي قام به في صناعة حلج الأقطان والقروض التي حصل عليها في هذا الصدد. فما الميزة التي يتمتع بها المستثمر القبطي وتتاح للمصري أو العربي؟ وهل يستطيع مستثمر قبطي أن يشتري عشرات الآلاف من الأفدنة كما حدث مع الوليد بن طلال؟ ومن أين جاءت الوزيرة بهذه الأرقام وهي غير متوفرة ولا توجد طريقة علمية لقياسها وكما يقول مصطفي كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ' لا تتوفر بيانات حول الثروة يمكن الحكم علي أساسها وكما يوجد أثرياء أقباط هناك أيضا رجال أعمال مسلمون أثرياء' (المصري اليوم 11 مارس 2007).
ثالثا: في كل العالم هناك لرأس المال دور سياسي بما في ذلك دعم جماعات الضغط وهذا يسري علي مصر أيضا, أما رجال الأعمال الأقباط فمحرومون من هذا الدور. ولدي حالات لعدد من رجال الأعمال الأقباط تدخلوا في الملف القبطي بشكل أو بآخر وتلقوا ضربات قاتلة لأعمالهم من جراء ذلك حيث حرضت الجهات الأمنية الجهات الرقابية عليهم للتحرش بهم وتلفيق القضايا لهم بما في ذلك مقاطعة الحكومة وشركات القطاع العام لمنتجاتهم فجأة بعد تدخلهم في الملف القبطي. ومن ثم أصبح رأس المال القبطي محايدا فيما يتعلق بأوضاع الأقباط ومشاكلهم, هو رأس مال منزوع القوة السياسية وغير مأمن وغير مسموح له بالاقتراب من الملف القبطي والمسألة القبطية إلا بطريقة شديدة النعومة وغير مؤثرة.
النظام المصري بوضوح يريد حصر الأقباط في وضع الجالية, فما سمات الجالية؟
أولا: تنشد تأمين الحماية من العنف والاعتداءات عليها. وثانيا: تنشد التمتع بقدر من الحريات الدينية والحق في العبادة وإقامة اماكن لممارسة طقوسها الدينية. ثالثا: تنخرط في العمل الخاص وتحاول تحقيق نجاح مميز لتأمين الحماية المادية والنفسية لأولادها.
هذه هي سمات الجاليات وهو ما حاول النظام المصري حصار الأقباط في هذه السمات في العقود الأربعة الأخيرة, وللأسف مع استمرار واشتداد التمييز والاضطهاد أصبحت طلبات الكثير من الأقباط لا تتعدي طلبات الجاليات بالانخراط في العمل الخاص والصراخ والدعوة لتأمين حياتهم ضد العنف والاعتداءات, والسعي للحصول علي حق العبادة وإقامة الشعائر الدينية بسلاسة ودون مضايقات.
لقد أثبتت الخبرات الإنسانية أن التأمين الحقيقي هو في ممارسة حقوق المواطنة كاملة والانخراط في العمل العام والنضال من أجل حقوقهم في التواجد في كل درجات الهيكل السياسي والإداري بما في ذلك المؤسسات الأمنية والمخابراتية وفي المجالس التشريعية وفي المناصب التنفيذية العليا وبدون ذلك يبقي الأقباط في وضع الجالية الخطر عليهم وعلي مستقبلهم.
الأقباط ليسوا جالية بل مواطنون أصلاء يمثلون أصل مصر وروحها وقلبها النابض وكما تقول دلال البرزي في جريدة الحياة: الأقباط شهادة علي مصر , علي مصرية مصر. ويتآمر المسلمون علي أنفسهم, لو تركوهم عرضة لاستنزاف روحي يفضي بهم إلي احد المنفيين... في الداخل كما في الخارج
This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.