الشيطان في التفاصيل ...
منير بشاي- لوس انجلوس
في حياة كل مهاجر , وخاصة القدامي منا , قصص نرددها ونضحك عليها وعلي أنفسنا.
من هذه القصص ' المقالب ' التي أخذناها حين كنا نقع فريسة لحيل التسويق الأمريكية .
وكنا كمهاجرين جدد ' خام ' نميل لتصديق كل ما يقال في الإعلانات التجارية وما يكتب في العقود فنقبلها ونوقع عليها ولكن بعد التنفيذ أو الاستلام سرعان ما نكتشف أن السلعة لا تطابق توقعاتنا . وعندما كنا نشتكي كانوا دائما يشيرون إلي التفاصيل التي لم نلتفت إليها أو ما كتب بالبنط الصغير الذي لم نقرأه . ونكتشف أن ما وعدونا به بالبنط الكبير أخذوه منا بالبنط الصغير
وعندما اكتسبنا خبرة وحنكة تعلمنا الدرس , ورددناه علي مسامع كل مهاجر جديد ' إياك أن توقع علي أي عقد أو تصدق أي أعلان إلا بعد أن تقرأ التفاصيل وبالذات ما كتب منها بالبنط الصغير ' . فالمثل الإنجليزي يقول إن .' The devil in the details 'الشيطان في التفاصيل
تذكرت هذا الدرس الثمين عندما قرأت تصريحات فضيلة المفتي علي جمعة والتي ترجمت إلي الإنجليزية ونشرت في الصحف الأمريكية وعلي شبكات الإنترنت منذ أيام فيما يتعلق بحق المسلم في ترك الإسلام والتحول إلي دين اخر .
قال فضيلة المفتي ' السؤال الأساسي أمامنا هو هل يستطيع الشخص المسلم أن يختار دينا غير الإسلام ؟ الجواب نعم يستطيع ' وأضاف ' إن ترك الإنسان لدينه هو معصية يعاقب عليها الله في يوم الدين . وإذا كانت المسألة هي مجرد رفض الإنسان لدينه فإنه لا يوجد عقوبة دنيوية عليه ' ثم أضاف ' ولكن إذا كان التحول يقوض أساسيات المجتمع فإن هذا يمكن التعامل معه بواسطة القضاء'.
قرأت هذا التصريح عدة مرات وأنا لا أكاد أصدق نفسي . فعلي حد علمي أن معظم علماء الإسلام ينادون بحد الردة علي المرتد . وكان هذا موضع نقاش بين المدارس المختلفة في الإسلام , وقد دفعت بالبعض لمحاولة إيجاد تأويلات لهذه القضية الشائكة يسهل معها التوفيق بين مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الشريعة الإسلامية . ولكن الآراء متشعبة ولا يوجد إجماع لحل هذه القضية.
في هذا السياق تجئ تصريحات فضيلة المفتي . وكشخص تعلم الدرس حاولت أن أقرأ
( disclaimers ) التفاصيل لأري هل هناك أي تحفظات أو استثناءات؟
في تصريحات فضيلة المفتي تغير من المفهوم الذي يوحي به النص وأعترف أنني وقفت برهة أمام التحفظ الخاص بقول المفتي إذا كان التحول سيؤدي إلي تقويض المجتمع فعلي القضاء التعامل معه . ولكنني سرعان استبعدت أهمية هذا التحفظ لاستبعاد الإحتمال أن تغيير الإنسان لدينه يمكن بحال من الأحوال أن ' يقوض ' أساسيات المجتمع . وبالتالي فرحنا وهللنا لهذا التصريح التقدمي من أعلي سلطة في الإفتاء يضع أخيرا النقاط فوق الحروف ويحسم قضية كانت علي مدي طويل مصدر ألم وانزعاج لأفراد وأسر والمجتمع كله.
ولكن سرعان ما فوجئت بأن ما صرح به فضيلة المفتي في واشنطن باللغة الإنجليزية قد نفاه دار الأفتاء (التابع له ) في القاهرة وباللغة العربية . وكل ما قيل علي لسان المفتي أن 'الارتداد 'هي مسألة بين الإنسان والله قد تغير تماما عندما صرح بالقول ' حقيقة ما قلت هو إن الإسلام يحرم علي المسلم تغيير دينه وأن الردة جريمة يجب العقاب عليها '
وأدركت أن ما يقال لأغراض الاستهلاك العالمي أمام الأجانب وما يقال في الداخل للمجتمع المصري غالبا لا يتفق الواحد مع الآخر . وتذكرت مثلا آخر شاهدته منذ بضعة شهور حين كنت في زيارة إلي مصر , وأخذنا رحلة نيلية لمشاهدة الآثار بين الأقصر وأسوان . وذهلت عندما شاهدت المرشدة المسلمة الحسناء تتبع نفس سياسة التظاهر بشئ أمام الأجانب غير ما تعودنا أن نسمعه يقال للمصريين . فكانت المرشدة تقول للسياح إن تعداد المسيحيين في مصر يبلغ 20 % من سكان مصر وهم يعيشون في سلام ووئام مع الأغلبية المسلمة . ولم أرد أن أحرجها أمام الأجانب وأشكك في سلامة معلوماتها فأنا أيضا يهمني أن يأخذ الأجانب فكرة طيبة عن مصر التي أرجو في يوم من الأيام أن تصبح واقعا معاشا وليست مجرد دعاية . المهم أن الكلمة التي لم أعيرها اهتماما خاصا في حديث فضيلة المفتي لوسائل الإعلام الأجنبية والخاصة ' بتقويض المجتمع 'أصبحت هي الأساس وهي في الواقع التي 'قوضت ' كل ما جاء بتصريحه . وكنت أتمني أن يكون فضيلته أكثر صراحة ووضوحا . فيقول إنه لا يوافق علي مبدأ الردة . لأنه في رأيه يقوض المجتمع من أساساته.
ولكن المشكلة أنه لو قال هذا الكلام لما صدقه إنسان فكيف يستطيع فضيلة المفتي أن يقنعنا أن المجتمع الإسلامي بهذه الهشاشة حتي أن واحدا أو عشرة أو حتي مليون مسلم يمكن أن يقوضوه إذا قرروا ترك الإسلام ؟
وهل رفض المجتمع قبول ارتداد هؤلاء عن الإسلام ينفي حقيقة أنهم' مرتدون' فعلا سواء اعترفنا بذلك أم لم نعترف ؟ وإذا كان هذا من شأنه تقويض المجتمع فهل منع المرتد من تغيير دينه يعني أن المجتمع الإسلامي بخير ولم يتقوض مع علمنا أن الحقيقة هي غير ذلك ؟
إذا ذهب شخص إلي الطبيب يشكو من أعراض مرضية . وكان تشخيص الطبيب المبدئي أنه يشك في احتمال وجود مرض السرطان. فيطلب الطبيب من المريض أن يجري تحاليل طبية ليقضي علي الشك باليقين . ولكن المريض قد يقرر عدم إجراء التحاليل مقنعا نفسه أن التحاليل قد تظهر وجود المرض وبذلك سيصبح مريضا بالسرطان ثم يفارق الحياة في أية لحظة !! وفات علي المريض أن يدرك أن التحاليل تكشف المرض ولا تسببه . وأنه لو كان فعلا مريضا فعدم معرفته أنه مريض لا يغير من الحقيقة ولا يطيل من حياته يوما واحدا . وأن الأفضل أن يعرف حقيقة مرضه بدلا من أن يعيش في الأوهام , فالمعرفة قد تؤدي إلي اتباع علاج يمكن أن يمد في حياته ويعطيه الفرصة لكي يرتب أموره وأمور أسرته .
لقد آن الوقت لقادة الإسلام في العالم أن ينظروا في هذه القضية التي تسئ إلي سمعة الإسلام والمسلمين ويقفوا في صف حرية الإنسان في الدخول إلي الإسلام وحريته إذا غير رأيه وقرر أن يترك الإسلام إلي أية عقيدة أخري .
كل إنسان يمر في حياته بمواقف يراجع فيها نفسه ويغير رأيه . هذه طبيعة البشر , وهو حق للإنسان لا يمكن إنكاره .
ألا ترون يا سادة أن عقاب الإنسان بقتله إذا غير رأيه في مسألة شخصية مثل الدين هو أمر مبالغ فيه ' حبتين ' ؟