الفتنة فى مصر أين تنام ؟ ومن الذى يوقظها
فاطمة ناعوت
شاعرة مصرية
يقول ت. إس إليوت فى لقطة عبقريةأى بعد كل هذه المعرفة،
أى «غفران»؟
after Such Knowledge,what Forgiveness?
تداعت إلى هذه المقولة بعد اطلاعى على مقال فى «الأهرام» بتاريخ 16/6/2006، عنوانها «وأحل الله البيع، وحرم الربا» كتبه د. زغلول النجار، مشيدا فيها بدور الإسلام فى محاربة آفة الربا. وهذا لا شك دوره كداعية ومحلل إسلامى فى تبيان المناطق المنيرة فى الدين الذى يدعو إليه.لكن الدور الذى تطوع به غير مشكور دون قصد منه، «أم تراه عن قصد؟»
هو نثر نقاط الزيت فوق نار لا تخمد عن طريق تأكيده على أن الكتب السماوية الأخرى قد أغفلت هذه المكرمة التى احتكرها القرآن وحده ! دون سواه من كتب السماء. وأقصد مناهضة الربا. ولن أخوض كثيرا فى تبيان أن ما ذهب إليه مغلوط على الأقل فيما يخص الإنجيل الذى عظم خطيئة الربا فى غير موضع. الأمر الذى يشى بأن د. زغلول لم يطلع من قبل على الكتاب المقدس وهو ما لا يليق بمحلل دينى يعمل على تفنيد النص القرآنى لتبيان إعجازه.. سيما إذا ما عمد فى سبيل ذلك إلى مقارنته بالكتب السماوية الأخرى لتكريس نقائصها إن كان ثمة. أقول لا يليق به ألا يقرأ، ليس فقط الكتب السماوية الأخرى بل، كل النصوص الكهنوتية التى وصلت الإنسان، ليس فقط بوصفه أحد رجالات الدين، بل بوصفه مسلما عاديا. وإلا حق لى أن أراه مسلما «وراثيا» مثل الغالبية الساحقة من مسلمى ومسيحيى ويهوديى هذا الكون! ألم نرث جميعنا الدين من آبائنا مثلما ورثنا اللقب ولون البشرة والعرق؟ محض صدفة جعلت من القرضاوى وسيد قطب والهضيبى وعبد العزيز بن باز ود.زغلول، وغيرهم من أساطين الدين والمغالين فيه، مسلمين. ولو أنهم ورثوا المسيحية أو اليهودية لكانوا من كبار دعاتها ومن أشرس مناوئى الديانات الأخرى. ولا أستثنى أحدا من وراثة الدين إلا هؤلاء الذين اعتنقوا ديانات بعينها بعد نضوجهم ورسوخ وعيهم شريطة أن يتوغلوا فى الديانات جميعها كى يكون اختيارهم موضوعيا وعلميا وذاتى المنطلق. هؤلاء فقط هم المسلمون أو المسيحيون أو البوذيون أو حتى اللا دينيون عن حق واختيار وإرادة. أليست العقيدة أولى بالاختيار من الأيديولوجيا والهوية ؟ ولا أخوض فى هذا الشأن إلا لأشرح سبب اندهاشى من عدم قراءة د. زغلول الإنجيل وإلا لعرف أن نصوصا كثيرة فيه قد أدانت الربا والمرابين وساوت بينهم وبين عبدة الأوثان! نعرف هذا من اطلاعنا على كتب العهد الجديد ومما طرحه د. غطاس توفيق فى رده على د. زغلول فى الأهرام بتاريخ 10 يوليو. والحقيقة أن ما أثارنى ليس فقط أن ينطق عالم كبير بما لا يعلم «أم تراه يعلم؟»،
وهو أحد الذين يؤخذ عنهم ومن ثم يحق لكل قارئ أن يصدق ما يقول دون تمحيص أو رجوع إلى مصدر. سيما فى عصر أمى استهلاكى المنزع لا قارىء حقيقى مدقق فيه كعصرنا السعيد هذا. لكن ما أحزننى فعلا أن الفتنة الدينية التى نشهد ويلاتها كل يوم تبدأ من فوق من الطليعة والكتاب والنخبة المثقفة، وليس من جسد الشعب المصرى البسيط الجميل الذى بالفعل يتجاور فيه المسلم والمسيحى بمنتهى الحب. بل كان يتجاور مع اليهودى الذى كان يعيش فى مصر بمحبة حقيقية لم تأخذ فى التصدع إلا منذ عام 1948. والحق أن الفتنة بدأت تباشيرها من دستور 56، حيث البند الذى ينص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، بما يعنى أن كل قبطى هو مواطن دخيل أو مصرى من الدرجة الثانية ! رغم حقه الأصيل الأصلى فى هذا البلد. بما يعد نكوصا وانحدارا فى الوعى الجمعى والسلطوى مقارنة بالوعى الرفيع الذى كان وراء شعار «الدين لله والوطن للجميع» الذى رفعه المصريون عام 1919. الفتنة تبدأ حين تصر الدولة على كتابة الديانة فى بطاقات الهوية وعلى خلاف كل دول العالم الراقى. ماذا يفعل دينى فى بطاقة هويتى ؟ بطاقة الهوية هى عقد مواطنة بينى وبين دولتى، يثبت أننى أنتمى لهذا البلد، أؤدى واجباتى تجاهه وآخذ حقوقى منه. فهل ستمايز الدولة بين مسلم ومسيحى فى حقوق المواطنة وواجباتها ؟ الإجابة نعم، وإلا لما أصرت على ذكرها الدين فى البطاقة، وإن كانت الإجابة لا، فلماذا لا تقوم بإلغاء هذا البند العنصرى الدين لا يذكر فى جوازات السفر، فماذا يفعل فى بطاقة الهوية ؟ من فوق تبدأ الفتنة. فى أعلى قمة الهرم تنام. حيث النخبة والمثقفون الذين دورهم مجابهة الفتنة والعمل الجهيد على عدم إذكائها !! من عجب أن الذين يوقظونها ليسوا سوى كتابنا وحكامنا ودساتيرنا. ثم يحاكم بفعلتهم المختلون الذين يحطمون التماثيل أو يذبحون المصلين فى الكنائس! هل هم حقا مختلون أم مؤمنون مجاهدون ينفذون ما أملى عليهم من قبل أقطابهم وعلمائهم ؟ تماما مثل سعيد مهران فى «اللص والكلاب»، الذى لم يكن سوى ورقة بيضاء يكتب عليها المجرم الحقيقى ما يريد «العقل»، وأما القاتل أو السارق فليس سوى محض منفذ برىء «يد» لا جرم عليه سوى أنه صدق ما «قيل» له فأطاع. لم أر فتاة المطرية مختلة أو مجرمة، ولم أر سفاح الإسكندرية مجنونا أو قاتلا، بل رأيتهما مسلمين طائعين لولاة أمرهما ! أليسا مجاهدين فى سبيل الله ؟! هى وهو وقاتلا فرج فودة وطاعن نجيب محفوظ وغيرهم ليسوا سوى قطعة إسفنج تشرب وتقطر ما دُس فيها من أفكار ورؤى. فإن كان حبا قطرت حبا، وإن كان كراهة وسوادا قطرت دما. يقول د. زغلول إن الديانات السماوية الأخرى انحرفت عن مقاومة الرذائل ومن بينها الربا بسبب ضياع أصول الرسالات السماوية جميعها عدا القرآن ! فماذا يكون رد فعل القارئ إزاء كلام كهذا ؟ !
لو كان القارئ مسلما لزاد نفوره من المسيحية ولقطب الجبين فى وجه جاره المسيحى فى الصباح التالى ثم يشرع فى تحين الفرص لينال منه بوصفه ينتمى لديانة غير نبيلة ولا تقاوم الرذيلة! ولو كان القارئ مسيحيا لامتلأ قلبه مرا من الإسلام وكهنته الذين ينطقون بما لا يعلمون ويشوهون عقيدته بغير علم. هل نلوم موقف أى من القارئين؟ علما بأن القائل ليس رجلا عابرا نطق بكلام عابر فى مقهى أو صالون عابر، بل رجل دين كبير كتب فى صحيفة كبرى. يقول د. غطاس توفيق فى تعقيبه على مقالة د. زغلول التى وصفها «بالمغلوطة والمريرة» فيما يخص بشأن النيل من الكتاب المقدس، إن الإنجيل قال «فضتك لا تعطى بالربا، وطعامك لا يعطى بالمرابحة»، ساقها ضمن آيات كثيرة تندد بالربا والمرابين، فلو كان د. زغلول لم يهتم بقراءة الإنجيل لأنه وجد نفسه مسلما بالوراثة وخلاص أما كان من الواجب، بل واجب الواجب، أن يراجعه قبل كتابة هذه المقالة على الأقل فيما يخص شأن الربا ؟ أنا قرأت الأناجيل الأربعة وعمرى أقل من ستة عشر عاما، وبحثت عن العهد القديم وقرأت ما وصلنى منه، واطلعت على البوذية وغيرها من ديانات الشرق الأقصى، وكثيرون يفعلون هذا فى محاولة منهم لمشارفة الحقيقة التى لن يشارفها أحد كاملة أبدا. والحقيقة أننى لا أحب هذه الآلية وأراها ضعيفة المنطق. أقصد أن تمدح شيئا عن طريق ذم شىء فى المقابل. وهى ابن شرعى للعقلية العربية الأحادية التى لا تقبل وجود الآخر وتعمل على الإقصاء عوضا عن التجاور.
فإعلاؤنا من قيمة ما ينبغى أن يتم عن طريق فحص مزاياها ومناطق إشراقها هى من داخلها، وليس عن طريق تصيد مثالب شىء آخر، حتى ولو كانت موجودة حقا. لأن هذه الآلية تشعرنى أن الشىء الممدوح لا يرتكن على نفسه بقدر ما يرتكن على مناطق ضعف شىء آخر مقابل. آلية ضحلة تخص الساسة أكثر مما تخص المفكرين. فمدح الحاكم الحالى لا يكون إلا بتفنيد مذمات الحاكم السابق، ومدح القرآن، لا يكون إلا بالنيل من الإنجيل، ومدح السنة لا يكون إلا بالنيل من الشيعة أو البهائية!!هكذا ومع كل هذا يظل السؤال مطروحا
وموجعا وأبديا: أين تنام الفتنة؟ ومن يعمل على أن يوقظها