.. والامبراطورية الرومانية الشرقية( البيزنطية), تقف علي أبواب الخروج من التاريخ, كان أهلها الذين ظنوا أنهم من الأخيار, يناقشون قضية إيمانية, بدت لهم في ذلك الوقت عظيمة الأهمية ولايمكن تجاهلها أو تأجيلها أو الالتفاف من حولها, ألا وهي, هل الملائكة من نور أم لا؟ ولكن, لماذا هذا السؤال؟
والإجابة التي حملها لنا التاريخ, أن الإجابة عن هذا السؤال, ستقود الي الإجابة عن سؤال أكثر أهمية, ألا وهو: هل يمكن للملاك المرور من سم الخياط( ثقب الإبرة)؟ فلو كان الملائكة من نور, فإنهم يستطيعون المرور من ثقوب الإبر.
هل رأيتم أهمية الأسئلة, وأهمية الإجابات؟ لذا لا غرابة أن ينشغل مجتمع الأخيار!! في بيزنطة بهذه القضية الإيمانية, وقد انشغلوا, في حين كان محمد الفاتح الامبراطور العثماني يحشد جيوشه من حول العاصمة القسطنطينية, استانبول فيما بعد, ووضع الخطط, وتوصل لحلول عبقرية للتغلب علي حصون وقلاع المدينة, التي أوشكت علي الغروب, غروب بلا شروق.
وظل أهل القسطنطينية, غارقين في مناقشاتهم وخلافاتهم وجدلهم حول الملائكة, الي أن دهمهم الجيش العثماني, وأخرجهم من التاريخ.
وتحولت مناقشاتهم الي عبرة تاريخية, يضرب بها المثل, حيث يوصف الجدل الذي لا طائل من ورائه سوي الخسران, بأنه جدل بيزنطي أو مناقشات بيزنطية. لقد كانت المدينة جيدة التحصين, وذات قلاع منيعة الي حد كبير, وكان بمخازنها ما يكفي احتياجات سكانها من السلاح والطعام والشراب لفترات حصار طويلة, ولأنها كذلك, فقد استعصت علي كل محاولات الغزو الإسلامية التي بدأت في العصر الأموي, وصمدت في مواجهة عمليات الحصار التي تعرضت لها.
ولو انشغل أهل القسطنطينية بحال المدينة, وناقشوا سبل وأساليب مواجهة الجيش العثماني, لحالوا بين الغزاة واقتحام مدينتهم, ولكن الجدل الإيماني العميق حول نوع وجنس الملائكة, كان أكثر أهمية, لأنه قضية ايمانية, في حين أن مواجهة الغزاة قضية دنيوية, والايماني بالنسبة لمن يظنون أنهم من الأخيار المتدينين, وأنهم من أهل التقي والورع الكنسي, أهم من كل شئون الدنيا, لأنه الطريق الي الله, والي الجنة, والي خير الدنيا أيضا,
وليس بغريب أن تقودهم نظرتهم تلك الي نهايتهم, ونهاية دولتهم. اذا ما ابتعدنا عن أهل القسطنطينية, ونظرنا حولنا, سنتبين أن أخيار مصر وأشرارها غارقون في مناقشة قضيتي الحجاب والنقاب, باعتبارهما من القضايا الإيمانية, وانهما الطريق الي رضاء المولي وخير الدنيا, وأنه لا صلاح في الدنيا إلا بالحجاب. وقد نجحت مجموعات من المتشددين والمحافظين الذين تأثروا بالمذهب الوهابي وفقه البدو ونهجوا نهج أحفاد من وأدوا البنات في جرجرة أهل المحروسة للخوض في هذا الجدل, ولم يتورعوا عن ممارسة الإرهاب الفكري, ورفع سيوف التكفير في مواجهة من يختلف معهم, ليظل صوتهم هو الصوت الوحيد علي الساحة,
ولتذهب قضايا الوطن وتقدمه وتطوره ونهضته الي الجحيم, فماذا يساوي كل ذلك أمام حماية المجتمع من فتنة المرأة, فالحجاب هو الطريق لستر المرأة, وحماية الذكور منها. لقد طغت قضية عورات المرأة, وضرورة سترها علي ما عداها من قضايا, وهذه النظرة الدونية للمرأة, ليست نظرة مصرية اطلاقا, فالمرأة في مصر كانت أما وملكة وزوجة, وفي كل الأحوال كانت تلقي الاحترام, في حين أنها في دول الصحراء, كانت متاعا أولا وعاشرا, ثم تأتي أدوارها الأخري, وفي كل الأحوال كانت الأغلبية من سكان الصحراء يرونها عارا وعورة, ويفضلون لها الموت وهي مازالت في المهد.
هذا التيار السياسي الإسلامي بجماعاته المتشددة والمحافظة والمتطرفة والإرهابية يثير المخاوف, سواء بأهدافه أو بأساليبه وتناقضاته. واذا ما نظرنا الي قضية الحجاب, فهي بداية ونهاية, قضية شكل, ولا تعد من جوهر الدين أو من أساسياته, ولا أعتقد أن ارتداء كل نساء العالم الاسلامي للحجاب, سوف يقود الي أي تقدم, كما أنه لن يسهم في دفع أي من الأخطار التي تهدده وتحيط به سواء من الداخل أو الخارج. وما أشبه هذه القضية, بالقضية التي ناقشها أهل القسطنطينية, ويقينا فإن الاستغراق في مناقشتها والجدل والاختلاف من حولها, سيقود الجميع الي المصير نفسه الذي انتهي إليه أهل القسطنطينية.
إن للتقدم والتطور والنهضة أكثر من منطق وطريق, ولكن ليس منها الاستغراق في الشكل والغرق فيما لا يجدي أو يثمر. ثم كيف نأخذ هذا التيار بجدية, ونقتنع أنه يدافع عن قضية وموقف إسلامي, وأياديهم ملوثة بدماء الضحايا الأبرياء من المصريين والأجانب؟ وبالنسبة للحجاب سنروي واقعة ستساعد علي اضاءة الكثير من أبعاد هذه القضية. فبعد أن أعلن الاخوان المسلمون تأييدهم لثورة23 يوليو يوم26 يوليو1952, طلب المستشار حسن الهضيبي المرشد العام لقاء أحد رجال الثورة, فالتقي به جمال عبدالناصر بمنزل صالح أبورقيق العضو البارز بالجماعة..
وكان من بين ما طلبه الهضيبي في اطار محاولة فرض الوصاية علي المجموعة اليوليوية, إصدار قانون بفرض الحجاب حتي لا تخرج النساء سافرات, وبغلق دور السينما والمسرح باعتبارها دورا للفساد والإفساد. ورد عبدالناصر علي هذا المطلب بقوله, إنه لو استجاب لهذا المطلب وغيره من مطالب الاخوان فسيدخل في معركة مع سكان مصر أو نصفهم علي الأقل, ثم استطرد قائلا: إنه لا طاقة له علي فرض الحجاب. فرد الهضيبي, بأنه مصمم علي طلبه, فما كان من عبدالناصر إلا أن ذكر الهضيبي بأن ابنته الطالبة بكلية الطب, تذهب الي كليتها سافرة, وأنه اذا كان كمرشد للاخوان عاجزا عن فرض الحجاب علي ابنته, فكيف يطلب منه, فرض الحجاب علي المجتمع كله؟ وأسقط في يد الهضيبي, ولم يجد ما يقوله, فقد خسر معركته, لأنه طالب بما لم يفعل, أي ان اقواله لم تتطابق مع أفعاله, وبذلك دخل في دائرة من يقولون ما لا يفعلون,
وتناسي وهو مرشد الاخوان المسلمين أن المولي قال في كتابه الكريم كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. وتاريخ الجماعة يؤكد أنه لم يكن وحده في ذلك, كما أن الشيخ حسن البنا لم يتطرق الي موضوع الحجاب أو النقاب, ومن الجدير بالذكر أن زوجة عمر التلمساني المرشد العام الثالث لم تتحجب إلا بعد أن أصبح زوجها مرشدا, ولم تتحجب زوجة مأمون الهضيبي إلا عام1996, أي بعد أن أصبح زوجها نائبا للمرشد العام مصطفي مشهور. ومع أن بنت الهضيبي كانت سافرة هي وغيرها ممن أشرنا إليهن, فإن أحد أعضاء الجماعة قال لافض فوه, إن ما قاله فاروق حسني دعوة للانحلال( ليه, لاسمح الله, هو قال إيه بالضبط؟), انه يعلم أنه لم يقل سوي جملة تفضيلية حول زي معين, أي أنها وجهة نظره في هذا الزي, فهل يعد مثل هذا الموقف الشخصي من أحد الأزياء, دعوة للانحلال؟
ثم قال هذا العضو متصورا انه يخاطب جماعة من الحمقي, إن ما قاله الوزير مؤامرة صهيونية. أما الذي قال, إنها قضية تمس الأمن القومي, فربما لا يعرف أنه أطلق نكتة شديدة المرارة. ويبدو أنهم نسوا ما قاله المولي في كتابه الكريم فمن شاء فليؤمن ومن شاءفليكفر فما بالنا, والأمر مجرد رأي شخصي في زي معين؟!