هل يمكن تعزيز الحق في المواطنة
في ظل المادة الثانية من الدستور
على إسلام الدولة ومرجعية الشريعة الإسلامية ؟
القس / رفعت فكري سعيد
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا مصر
خلفية تاريخية موجزة :-
خلت الوثائق الدستورية التي عرفتها مصر في بداية إطلالها على التنظيم الدستوري من أي إشارة إلى دين الدولة أو إلى الشرائع الدينية كمصدر للتشريع وهذا واضح في لائحة تأسيس مجلس شورى النواب سنة 1866 والأمر العالي للائحة مجلس النواب الصادر في فبراير سنة 1882 والقانون النظامي المصري الصادر في مايو 1883والقانون النظامي رقم 29 لسنة 1913 المختص بالجمعية التشريعية المصرية والواقع يقول إن النص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة لم تعرفه الدساتير والوثائق القانونية في مصر إلا مع صدور دستور 1923
إذ نص في المادة 149 منه على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ثم تبنت الدساتير اللاحقة هذا النص فورد بعباراته في المادة 138 من دستور 1930 والمادة الثالثة من دستور 1956 وإن كان قد جرى إغفاله في دستور الجمهورية العربية المتحدة المؤقت لعام 1958 وفي الإعلان الدستوري الصادر في سبتمبر 1962 إلا أن النص عليه عاد مرة ثانية في المادة الخامسة من دستور 1964 ولكن دستور 1971 خطا خطوة أكثر إيغالا في الربط بين القانون والدين لأن السادات عقب تسلمه السلطة بعد وفاة عبد الناصر، كان واضحا من مجمل سياساته أنه يتودد ويتقرب للجماعات الإسلامية التي أغتالته في حادث المنصة الشهير في أكتوبر من عام 1981 وأنه كان يبحث عن شرعية جديدة تميز نظامه عن نظام يوليو 1952 وتمثلت هذه الشرعية في إكساب الدولة طابعا دينيا فيما عرف وقتئذ بدولة العلم والإيمان وفيما لقب به الرئيس المؤمن فلم تكتف المادة الثانية من الدستور بأن الإسلام دين الدولة كما كان الحال في الدساتير السابقة بل اعتبرت الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع وفي حقيقة الأمر كانت هذه أول مرة في التاريخ القانوني المصري الحديث يكتسب الربط بين النظام القانوني والشريعة طابعا دستوريا منذ العدول عن اعتبار فقه الشريعة هو النظام القانوني الحاكم والأخذ بنظام التقنيات الحديثة سنة 1883 بعد أن أدخلت هذه المادة إلى الدستور المصري لأول مرة في دستور 1971 وعدلت في 22 /5 /1980 لتصبح الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بدلا من كونها مجرد مصدر رئيسي دون أداة التعريف وجرى مع هذا التعديل في سلة واحدة تعديل آخر للمادة 77 من الدستور بإطلاق مدد ولاية رئيس الجمهورية دون حد أقصى بإطلاق "المدد الرئاسية" لكي تكون بلا حدود، بعد أن كان حدّها الأقصى مدتين، أي 12 عاماً. وكان الرئيس السادات قد قارب هذا الحد الأقصى (11 عاماً). أي أن المادة الثانية بنصها الحالي هي بمثابة صفقة أو رشوة تبادلية لتمرير مواد أخرى تخدم أغراض الحكام وليس مقاصد الشريعة وهكذا صوت المصريون وقتئذ بالموافقة على أن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع مثلما صوتوا بالموافقة على أن يكون رئيسهم رئيسا إلى الأبد .
( وهذا النص الدستوري يحتاج منا إلى إعادة قراءة بروح متأنية وبمزيد من التعقل لخير الأجيال المقبلة من أبناء هذا الوطن، فنحن، ومنذ القديم، دولة متعددة الديانات والمذاهب والأعراق، فالعرق اليافثي – نسبة إلى يافث إبن نوح - موجود منذ فجر التاريخ، منذ زمن الرومان واليونان تقريباً، وكذلك العرق السامي- نسبة إلى سام إبن نوح - الذي جاء مع القادمين من بلاد العرب وقت دخول الإسلام، ثم إن مصر تنتمي أساساً إلى "مصرايم" ابن حام ابن نوح ، وهكذا فأصل المصريين جميعاً يرجع إلى هذا العرق "الحامي".وأما من ناحية الديانات فإن الديانات الثلاث الرئيسية قد احتضنت بعضها بعضاً وتعانقت على أرض الكنانة، بعد أن أفسحت الديانات الفرعونية القديمة المكان لها، وظلت الثقافات المنبعثة عن هذه الديانات متألقة، حتى أننا اليوم نرى في عادات المصريين ما هو فرعوني الأصل ومنها ما هو مسيحي، ومنها ما هو إسلامي الطبع، فقد عاشت الحضارة القبطية لما يزيد عن ألف ومائتي عام، بعد دخول المسيحية، كحضارة مصر الرئيسية، ثم ما لبثت أن امتزجت مع حضارة الإسلام مع القرن السادس الميلادي حتى اليوم.وعن المذاهب، ففي المسيحية يوجد اليوم الإنجيليون (بمذاهبهم المتعددة) والكاثوليك والأرثوذكس، وسجل التاريخ وجوداً للإسلام الشيعي على أرض مصر في عهد الدولة الفاطمية (التي أنشأت أصلاً الجامع الأزهر معقل الإسلام السني اليوم)، ثم الإسلام السني حتى اليوم.
وفي القطب السني، لا غضاضة أن تكون حنبلياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنيفياً، فكل من هذه المذاهب المتعددة يصب في نفس الرافد، رافد الإسلام السني.هذا معناه أن الساحة الوحيدة التي لا يمكن مراقبتها أو الحجر عليها هي ساحة الفكر والدين والضمير، فهي ساحة مطلقة السراح، وهل توحيد ساحة الفكر والدين لو استطعنا إلى ذلك سبيلاً _ هو الحل؟ لا بالمرة، فلا زال المؤرخون حتى اليوم لا يعرفون هل كان انضمام الإمبراطور قسطنطين للمسيحية وتوحيد الإمبراطورية كلها في هذا الاتجاه لعنة أم بركة!! وحينما قرر الفرعون "أخناتون" توحيد العبادة المصرية وإغلاق كل معبد مخالف لمذهبه وتكفير كل الديانات المغايرة تمزقت إمبراطوريته في حياته وانكمشت مصر داخل حدودها الإقليمية!! وحين انتهى زمن الاجتهاد بعد الخليفة العباسي "المتوكل" وسيطر الدين الواحد والقطب الواحد (الإسلام السني) سجل التاريخ تراجعاً للحضارة العربية لصالح الأتراك والألبان وغيرهم، ودخلنا نفق التخلف المظلم خلال العصور الوسطي!! هذه الأمثلة هي غيض من فيض، ويمكن سوق مزيد من الأمثلة. إذن، التعدد بركة، ولا يجوز نصرة دين أو ثقافة بالقوة على دين آخر، فكم بالأحرى حينما يكون ذلك دستورياً وقانونياً؟!!)[1]
والدستور كما يقول جان جاك روسو هو تسجيل لعقد يحول رغبات الأمة إلى مبادئ محددة للعمل . لذا لا يصلح أبداً أن نفترض حسن نية المشرع وهو يضع المادة الثانية في صدر الدستور المصري، لماذا؟ لأن الدول _ وهي تضع دساتيرها _ قصدت أن تكون لغة الدساتير واضحة، قاطعة، جامعة، مانعة، لا تحتمل لبساً، أو غموضاً، ظاهرها كباطنها، لكون الدستور _ في الواقع _ هو مجموعة من القواعد القانونية العامة والمجردة التي يجب أن تنطبق على كل إنسان (لاحظ كلمة كل)، داخل الوطن الواحد، بصرف النظر عن أية اعتبارات أو عوامل أخرى، وعليه، فكل الدول "المتقدمة" نأت بنفسها عن هذا المنزلق الطائفي الخطير عند وضع دساتيرها، ولم تبق دساتير طائفية _ تميز بين المواطنين على أساس عرق أو دين _ إلا دساتير دول قليلة جداً، من المؤسف والمخجل أن تكون من بينها مصر !!
ويظن الكثيرون أن الحكم الديني يعني قيام رجال الدين بالحكم مباشرة لكن التعريف الصحيح للدولة الدينية هو في الواقع الذي يكون فيه الجهد الأساسي موجها نحو تطبيق قوانين إلهية. وبالتالي فهو يعني أي نظام حكم يستند بصورة أو بأخرى إلى مرجعية دينية ومن ثم فالدستور المصري يؤسس لنظام حكم ديني ثيوقراطي. ومفهوم الدولة الحديثة ككيان سياسي اجتماعي يستند إلى الشعب مصدرا للسلطات يتنافى بصورة مبدأية مع شكل ومفهوم الدولة الدينية , فالدولة الحديثة لا تستلهم السلف الصالح على حساب الخلف الطالح . الدولة الحديثة تتعامل مع النسبي والواقعي وليس مع المطلق والغيبي . الدولة الحديثة عقلانية ولا تزعم إنها دولة الكمال لكنها دولة السعي المستمر نحو الأفضل [2].
وعندما استخدم مصطلح ( دين الدولة الرسمي ) في بعض الدول الأوروبية حتى عهود قريبة فهذا لم يكن يعنى أكثر من تنظيم إداري بحت مثل أن يقوم جهاز الدولة بتحصيل تبرعات مع الضرائب من المواطنين الراغبين لصالح المؤسسة الدينية الرئيسية في البلاد مع ضمان حق باقي المواطنين في دفع تبرعاتهم التي تتمتع بنفس المميزات الضريبية لمؤسسات دينية أخرى بحسب اختيارهم ولم يكن المصطلح يعني بأي شكل معاملة تفضيلية ولا أن تتأثر الدولة في سياستها أو قوانينها بتوجهات تلك المؤسسة أو الدين الذي تتبعه [3] فالتمتع بكافة الحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على المعتقدات الدينية للفرد. وبدراسة الكثير من دساتير الدول المتقدمة لايمكن أن نجد دولة متقدمة تضع لنفسها مادة تقول "أن الدين الرسمي للدولة هو الدين المسيحي"، ومن ثم فإن تلك المادة لا تضيف إلى الدولة شيئا ، ولكنها على العكس تزيد من انعزالها وانعزال مواطنيها في الداخل الذين لا ينتمون إلى ذلك الدين.
أسباب موضوعية تؤكد تنافي المادة الثانية مع المواطنة :-
1 - ليست الدولة شخصاً طبيعياً، بل هي شخص اعتباري، والشخص الاعتباري كائن معنوي لادين له فهي لا تصلي ولا تصوم ولاتحج ولاتدفع الزكاة لذلك فالقول بأن للدولة دين رسمي هو قول غريب وغير مفهوم. فالدولة مهمتها الوحيدة (ينبغي أن تكون) تنفيذ عقد اجتماعي وسياسي مع مواطنيها هنا على الأرض، وليس محاولة إدخالهم إلى جنة النعيم في العالم الآخر فليس من مهام الدولة إدخال الناس للجنة. إن الدين والشريعة كما يقول المستشار محمد سعيد العشماوي معنيان بالإنسان لا بالنظم , بالضمير أكثر من القواعد القانونية كما أنه بالنص على وجود دين للدولة "يصبح هناك دينا مميزا للدولة وبالتالي ينقسم المواطنون إلى فريقين أولهما يتبع ذلك الدين وبالتالي فهو صاحب الحقوق والامتيازات والثاني من أتباع الديانات الأخرى ينتظر المنح والهبات، مما يكرس مفهوم "الذمية" دستوريا ويجعل الدولة مدافعا وحاميا للدين لا للوطن" والنتيجة هي "مجموعة من القوانين والقرارات والأعراف المذلة والمنقوصة لحقوق من لايدينون بدين الدولة ." ومن هنا فإن نص المادة الثانية بوضعه الحالي يثير اللبس ويرتب نتائج قانونية غير متفق عليها .
2 - تتناقض المادة الثانية مع إدعاء أن "مصر دولة مؤسسات ديمقراطيةّ"، فأسس المبدأ الديموقراطي هو المساواة الكاملة بين المواطنين، فما بالنا بحق المواطنة الذي ينفيه الدستور المصري عن بعض المواطنين لأنهم خارجون عن الدين الرسمي للدولة؟!! فهذه المادة تعلن بوضوح أن الدولة تمارس حمايتها ورعايتها لدين قسم من رعاياها وتخلع مظلة الحماية عن الآخر فالقارئ للمادة الثانية حتماً سيفهم أن في البلد أدياناً أخرى غير الإسلام، يدين بها مواطنون غير مسلمين. ثم لا بد أن يستنتج أن الدولة لا تعترف بأديان أخرى لأبنائها، لأنها لا تعتبرها رسمية وماحدث مؤخرا يؤكد هذا فقد استندت المحكمة الإدارية العليا إلى المادة الثانية في حكمها بإلغاء حكم القضاء الإداري وعدم أحقية البهائيين في إثبات ديانتهم بالأوراق الرسمية، حيث قالت المحكمة في حيثيات الحكم: إن الاعتراف بالبهائية كديانة مثبتة بالأوراق الرسمية يخالف ما استقرت عليه الآراء الفقهية والفتاوى الصادرة من جهات الاختصاص، كما يعد خروجاً علي أحكام الدستور، مما قد يؤثر علي المجتمع وأفراده من جراء عمليات التبشير التي تستهدف النيل من الدين الإسلامي، وأضافت الحيثيات «أنه طبقاً لما نص عليه الدستور وانتهت إليه مواده، فإن الأديان المسموح بإقامة شعائرها في مصر هي الأديان السماوية الثلاثة «الإسلام والمسيحية واليهودية».واضح من هذا الحكم أن الدولة تنفي بعضاً من مواطنيها، ليس بسبب تقصيرهم في واجبات المواطنة، وإنما بسبب عقيدتهم !! إذاً الدستور يفرق ويميز رسمياً بين أبناء الوطن الواحد، ويصنفهم درجات في المواطنة حسب الدين، وليس حسب ولائهم للوطن أو جذورهم الوطنية. إن إعلان الدولة بأن الدين الرسمى هو الإسلام يشكل انتهاكا وتمييزا وتحقيرا للديانات الأخرى وبصفة خاصة للمسيحيين مما يؤدى إلى إعاقة تمتعهم وهم أبناء وشعب مصر بأي حق من الحقوق المنصوص عليها في الوثيقة الدولية بالحقوق المدنية والسياسية بما في ذلك المادة 18 الخاصة بحرية الديانة والمادة 27 الخاصة بحقوق الأقليات الدينية. والحرية الدينية جزء لا ينفصل عن حرية الرأي والتعبير وطبعا يرتبط بهما حرية أداء الشعائر الدينية، وهي حرية مكبلة بالقيود على الرغم من ادعاءات المساواة فلا تبني كنيسة جديدة إلا بقرارات صعبة ومعقدة . ولا تجري فيها إصلاحات إلا بقرار إدارية وبيروقراطية أكثر صعوبة. والأخطر من هذا كله أن الحرمان من المواطنة الكاملة يبيح ولو بشكل مستتر تعرض أصحاب الأديان الأخرى للعدوان على أرواحهم وممتلكاتهم. وهذا ما حدث ولا زال يحدث. !! إن الدستور هو أبو القوانين وأن الدولة المدنية تعني ببساطة فصل السلطتين الدينية والسياسية مع ضمان احترام المعتقدات الدينية والهويات الثقافية والروحية للشعوب والمجتمعات. انها تعني أن الدولة هي دولة قانون واحد يطبق على جميع المواطنين سواسية حقوقاً وواجبات بغض النظر عن الدين. انها "دولة المواطنة" لا دولة مواطنين من درجات (سني –شيعي – بهائي – قادياني -شيوعي – ذمي – كافر).
أما عن مبدأ لهم مالنا وعليهم ماعلينا الذي يراد به الإيحاء بنوع من المساواة بين المسلمين وغير المسلمين فهو يحتاج إلى تفسير واضح في ضوء بعض الأمور مثل دفع الجزية وإنه لاتقبل شهادة غير المسلم ضد المسلم , ولا يقتل مسلم بكافر , لايرث غير المسلم في المسلم , وبينما يصرح بزواج المسلم من الكتابية فالعكس -أي زواج الكتابي من المسلمة - محرم برغم عدم وجود نص قرآني صريح يحرم هذا الأمر وذلك لأن الفقهاء استندوا ببساطة إلى مبدأين في آن واحد وهما لا مساواة بين المسلم وغير المسلم الذي يستند بدوره إلى مبدأ الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ومبدأ الرجال قوامون على النساء . ومن هنا فالارتكان إلى مبدأ لهم مالنا وعليهم ما علينا لايؤكد من قريب أو بعيد على المساواة التي ينبغي أن يكون النص الدستوري حولها قاطعا وحاسما وبدون التواء . فنص المادة الثانية بصورته الحالية في حد ذاته هو تمييز للمسلمين عن أتباع الديانات الأخرى أو اللادينيين. وسيكون حجة لتيارات سياسية لتفرض رؤيتها ومصالحها وتقيم دولة دينية يكون رأيها في كل أمور الوطن هو رأى السماء الذي لا يقبل النقاش والقبول والرفض.
3- وجود المادة الثانية في الدستور بهذا الشكل ينسف الأساس الذي تقوم عليه أي نصوص أخرى مذكورة في نفس الدستور أو في القوانين حول المساواة في حقوق المواطنة أو حول الحريات الأساسية وضماناتها إذ لا يمكن أن تفسر هذه المواد إلا في ضوء تلك المادة. وبقاء هذه المادة على ما هي عليه منذ عام 1980، سيكون متناقضا مع حقوق المواطنة والمادة 40 التي تنص على أن ( المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أوالدين أو العقيدة ) ومثل هذا التناقض هو شأن معيب يهز القيمة العليا لدستور البلاد وينتقص منه. "ان النص الرسمي على دين الدولة ليس موجوداً في أي دولة مدنية متقدمة في العالم أجمع" قد يكون هناك نصاً أن الدولة تحترم جميع الأديان ولكن دون النص على دين رسمي لها. لأن من واجبات الدولة أن تحمي حقوق المواطنين –كافة المواطنين- بصرف النظر عن دين هؤلاء المواطنين أو جنسهم أو لونهم أو معتقداتهم. وان أقرت لها ديناً رسمياً فمعنى هذا أنها تنحاز إلى فئة دون أن تدري مهما حاولت بعد ذلك أن تضع بنودا في الدستور تؤكد على مساواة المواطنين مثل المادتين 40 و 46 من الدستور المصري لأن المادة الثانية من الدستور قد نسخت "ألغت" تماما تلك المادتان اللتان تنصان على مساواة المواطنين أمام القانون وحرية المعتقد. لا يصح أن تقول أي دولة أنها "مدنية" وفي نفس الوقت تقول إنها دولة لها دين رسمي.
4- إن كانت المقترحات المعروضة على مجلس الشعب تؤكد حظر تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني، إلا أن المشكلة تتركز في أن المادة الثانية من الدستور ربما تتسبب في وجود حزب سياسي ديني، وهذا ليس بغريب في ظل قانون الأحزاب السياسية والذي يشترط قيام الأحزاب على مرجعية إسلامية والإيمان بما نص عليه الدستور فهذه المادة تمهد لقيام الدولة الدينية التي تحلم بها جماعة الإخوان المسلمين المحظورة وتقوي من نفوذهم وهم يعدون أنفسهم للوصول إلى السلطة والحكم، ولنفترض أن "الإخوان المسلمين" قد قرروا التقدم بطلب لقيام حزب لهم. ولن يذكروا في برنامج حزبهم أكثر من أن يكون هدفه الرئيسي "تفعيل المادة الثانية من الدستور وإقامة حكم يستند تماما إلى شرع الله". ماذا سيكون رأي لجنة الأحزاب والمحاكم الإدارية والدستورية التي ستفصل في مثل هذا الطلب بناء على الفقرة المقترحة بحظر تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني ؟ كيف يستقيم حظر إنشاء أحزاب سياسية علي أساس ديني مع المادة الثانية التي تحدد موقع الدين من الدولة من خلال النص علي أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإٍسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع؟ إذا سعى الإخوان أو أي جماعة إسلامية أخري إلي إنشاء حزب سياسي يقوم علي تفعيل هذا النص الدستوري، فهل ٌيعد ذلك غير دستوري؟ النظرة القانونية الظاهرية تقول إن هذا الحزب سيكون أكثر الأحزاب اتساقاً وتماشياً مع الدستور!!. الخلاصة هي إن الفقرة المقترحة، في السياق الدستوري الحالي، ستؤدي عمليا إلى استحالة قيام "حزب مسيحي"ولكنها لن تمنع قيام "حزب إخواني"!! ولهذا يبدو التعديل المقترح على المادة الخامسة بحظر الأحزاب الدينية لا معنى له سوى حظر الأحزاب الدينية غير الإسلامية بالذات بل يمكن القول إنه في ظل وجود المادة الثانية من الدستور تكون الأحزاب الدينية الإسلامية هي الأحزاب الأكثر مشروعية واتساقا ليس مع الدستور فقط ولكن مع الممارسا السائدة في الدولة ومع التوظيف السياسي الحكومي المتنامي للدين وللمؤسسة الدينية الرسمية فيها[4].
5-إن هذه المادة وهي تنص على أن (الإسلام هو الدين الرسمي للدولة) لم تحدد لنا أي إسلام تقصد،-فليس هناك إسلام واحد معلوم للجميع – هل هو الإسلام كما مارسته طالبان، أم هو الإسلام الوهابي المتشدد ؟ أم هو إسلام الإرهابيين الذين يجهلون المجتمع ويكفرون غيرهم من المسلمين؟. إن كل من هؤلاء ادعى إنه وحده الفرقة الناجية من النار وإنه وحده يمتلك الحقيقة الإسلامية الكاملة!!. وبالطبع المادة الثانية تستبعد عن الإسلام المذاهب غير السنية مثل الشيعة الاثنا عشرية، والقاديانية، رغم اعتقاد هؤلاء أنهم على إسلام سليم، فهم يؤمنون بالقرآن والسنة ويجاهرون بالشهادتين وهما المدخل المعترف به للإسلام.
6- إقحام الدين في السياسة هو خلط يسئ لكليهما إذ يسعى لسحب غطاء التقديس على ما هو غير مقدس ظنا أو ادعاء بأن في ذلك تنفيذا لإرادة الإله وإعلاء لشرعه والاعتراض على قوانين أو ممارسات ذات مرجعية دينية سرعان ما تجرى إدانته وحظره باعتباره تعدياً على الدين نفسه ثم الدخول في دوامة الكفر والالحاد التي تؤدي بالمجتمع كله في هاوية سحيقة لابد أن تنتهي إلى أعمال العنف والإرهاب بينما الأصل إنه لاتوجد قداسة في السياسة ونظم الحكم .
7- نص المادة الثانية يتحدث عن الشريعة بينما هو في الحقيقة يتعلق بالفقه يقول المستشار العشماوي ( إن لفظ الشريعة لايعني في القرآن الكريم ولا في قواميس اللغة العربية القواعد القانونية وإنما معناه المنهج , السبيل , الطريق , ماشابه ويضيف إنه قد حدث للفظ الشريعة في الفكر الإسلامي تعديل عدة مرات من المعنى الأصلي ثم اتسع ليشمل القواعد القانونية التشريعية الواردة في القرآن ثم امتد ليضم أيضا القواعد المماثلة في الأحاديث النبوية ثم تغير المعنى ليشمل الشروح والتفسيرات والاجتهادات والآراء والفتاوى والأحكام التي صدرت لأيضاح هذه القواعد أوالقياس عليها أو الاستنتاج منها أو تطبيقها ,أي الفقه وأوضح أن كاتبي تقرير اللجنة الخاصة حول التعديل الدستوري في مايو 80 خلطوا الأمور وأصبحوا يتحدثون عن الفقه باعتباره الشريعة ) إذن فالأمر يتعلق بفقه وضعه أناس معرضون للخطأ والسهو والنسيان عاشوا في القرنين الثاني والثالث الهجريين وكانوا يعكسون أحوال مجتمعاتهم السياسية والاجتماعية والفكرية في فهمهم وإسقاطاتهم للنصوص الدينية وبالتالي فليس هناك سبب لتقديس مانتهى الفقهاء إليه في مدارسهم المختلفة . والمبدأ طبقا لتعريف القاموس هو تعميم أولي يقبل على إنه حقيقي ويمكن استخدامه كقاعدة للتفكير أو التصرف , قاعدة أو معيار يشكل أساسا لشئ آخر إطار عام موجه على مستوى عام وقابل للتطبيق بصورة عامة فياترى ماهي مبادئ الفقه الإسلامي التي لها صفة العمومية والتي هي معروفة للكافة وهناك إجماع شامل حولها ؟ الحقيقة هي أننا لا نعلم بالضبط وعلى وجه التحديد!! وكم نتمنى أن يتكرم أهل العلم بعمل قائمة من المبادئ المحددة بوضوح قاتل يسمح لها بأن تكون صالحة للاستعمال في المقارنة والمقابلة مع غيرها من المبادئ عند محاولة كتابة نص خطير يتعلق بمصادر التشريع في دستور عصري حديث[5] ويقول الدكتور إبراهيم شحاته في كتابه وصيتي لبلادي ( في حين أننا جميعا نعلم أن أكثر التشريعات الجديدة تعالج مسائل معقدة تتعلق بالاستثمار والبنوك والتجارة والبيئة والأمن والانتخابات والتأمينات الاجتماعية وغيرها من المسائل التي تواجه أي دولة حديثة والتي تخاطبها مبادئ الشريعة كما فسرت حتى الآن من حيث عمومياتها فقط وليس من حيث التفاصيل التي ينبغي ابتداعها لتناسب الظروف الحالية فهل من الواقعي أن نقول إن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر ( الرئيسي ) للتشريع ؟ وهو مالاينطبق حتى على تشريعات الدول التي تتسم دساتيرها بطابع إسلامي واضح ؟ إن معظم القوانين الحديثة في دول مثل إيران والمملكة العربية السعودية مثلها مثل القوانين الحديثة في الدول الأخرى جميعا لا تستمد مصدرها من الكتاب والسنة مباشرة بقدر ماتستند إلى الدراسات الخاصة بمواجهة المشاكل العملية الجديدة والسياسات التي اتبعت في الدول المختلفة , والقول بغير ذلك هو قول سياسي قد يرضي الجماهير ولكنه لايعبر عن الواقع ويدفعنا هذا إلى الاعتقاد بأن النص كما جاء في الدستور المصري كان مزايدة سياسية أكثر منه تقديرا لما يمكن أن يحدث في الواقع مهما خلصت النوايا وقد كان النص يخدم الغرض منه بصورة أوضح لو أنه طالب المشرع بأن يستلهم في التشريعات التي يصدرها مبادئ الشريعة وقيمها العليا , أو حتى إن ذهب إلى أبعد من ذلك وطالب بأن لايخالف التشريع مبادئ الشريعة وقيمها العليا دون التزيد بما لايمكن أن يحدث عمليا )[6]
( وبرغم أن النص يستخدم تعبير ( المصدر الرئيسي ) أي أن هناك مصادر أخرى غير رئيسية فإن النص لا يشير إلى أية مصادر أخرى مثلما تنص دول إسلامية – بل تحكمها أحزاب دينية – في دساتيرها مما يرجح أن المشرع ( مجلس الشعب ) قصد أن يقول إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع وليس الرئيسي ويؤكد هذا الاستنتاج الرجوع إلى تقرير اللجنة الخاصة بالإعداد لتعديل الدستور ( عام 1979 ) في تقريرها إلى مجلس الشعب بخصوص تعديل المادة الثانية الذي صارت بمقتضاه مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ( بدلا من أن تكون أحد مصادره ) وذلك في مايو 1980 تقول اللجنة وتقريرها أو تفسيرها إن المقصود بالنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي هو أن ( تلزم المشرع بالإلتجاء إلى أحكام الشريعة الإسلامية للبحث عن بغيته فيها مع إلزامه بعدم الالتجاء إلى غيرها ( أرجو وضع عشرة خطوط تحت كلمة غيرها ) فإذا لم يجد في الشريعة الإسلامية حكما / جوابا صريحا فإن وسائل استنباط الأحكام من مصادر الاجتهاد في الشريعة الإسلامية تمكن المشرع من التوصل إلى الأحكام اللازمة والتي لاتخالف الأصول والمبادئ العامة للشريعة أي إنه لا مجال للحديث عن أي مصدر آخر خلافا للشريعة الإسلامية حتى لو لم تكن تملك جوابا صريحا بل يجب الاجتهاد داخل أحكام الشريعة ذاتها وليس التوجه إلى الأديان الأخرى في المجتمع كالمسيحية أو الأعراف والتقاليد والثقافات السائدة في المجتمع مثلما تفعل دساتير أخرى بما في ذلك دستور السودان الإسلامي )[7]
وقال الإمام الجزائري الفقيه محمد بن الفضيل: إذا أردت أن تتهرب من أحكام الزكاة...... كن شافعياً؛ إذا أردت أن تخرج عن أحكام الربا........كن مالكياً؛ إذا أردت أن تخرج عن أحكام الخمر.......كن حنيفياً؛ إذا أردت أن تخرج عن أحكام الزواج......كن شيعياً؛ "وبذلك تخرج من الشريعة بالشريعة"..
8- وقعت مصر على المواثيق والقوانين الدولية لحقوق الإنسان ومن ثم فهذه المواثيق صار لها قوة القانون المصري وفقا للمادة (151) من دستور جمهورية مصر العربية التي تقول ( رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات، ويبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من البيان. وتكون لها قوة القانون بعد ابرامها والتصديق عليها ونشرها وفقا للأوضاع المقررة ).والمادة الثانية من الدستور تتعارض مع بعض المواد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى سبيل المثال المادة 6، والتي تنص على لكل إنسان أينما وجد الحق في أن يعترف بشخصيته القانونية، والمادة 7 والتي تنص على كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعاً الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا، وأيضاً المادة 18 التي تنص على لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة،كذلك المادة 19، والتي تنص على لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية. وكذلك تتعارض المادة الثانية مع الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية وكذلك المادة الثانية من القرار رقم 47/135 بشأن اعلان حقوق الاشخاص المنتمين الى أقليات دينية الصادرة في ديسمبر 1992 من الجمعية العامة للأمم المتحدة وجدير بالذكر ان لجنة حقوق الإنسان للأمم المتحدة في ردها على تقرير مصر عام 2002 بعنوان ( دواعي القلق الرئيسة ) سجلت اللجنة ملاحظة بشأن إعلان مصر بالتحفظ استنادا إلى الشريعة الإسلامية عند التصديق على العهد الدولى بـ
( الطابع العام والملتبس وأيضا التحفظ المتعلق بالشريعة الإسلامية على بعض مواد الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وبينما مصر ترى أن الشريعة الإسلامية والمادة الثانية من الدستور تتوافق مع أحكام ونصوص المواثيق الدولية، إلا أن لجنة حقوق الإنسان تأسف ( لانعدام الوضوح الذي يغلف مسألة القيمة القانونية المعطاة للعهد مقارنة بالقانون الداخلي والآثار المترتبة على ذلك .)
مما دعا لجنة حقوق الإنسان إلى مطالبة مصر بأن (تحدد مدى إعلانها بشأن الشريعة الإسلامية أو تسحبه )9-إن هذه المادة تتناقض مع الديموقراطية، فالديموقراطية - في أبسط معانيها - هي حكم الشعب بالشعب، فالبشر هم الذين يشرعون لأنفسهم حسب ظروف الزمان والمكان، ولا يتلقون شرائع سماوية جاهزة لتطبيقها على واقع زمن يختلف عن زمن نزول أو سن الشرائع الدينية ولتطبيقها على ظروف مختلفة طبقاً لمصالحها وهكذا تسعى الديمقراطية إلى فصل الدين - أي دين، عن نظام المجتمع السياسي، حتى يبقى هذا النظام ميداناً بشرياً بحتاً، تتصارع فيه البرامج السياسية والاقتصادية دون أن يكون لطائفة منهم الحق في الزعم بأنها تمثل وجهة نظر الله، وبذلك تترفع بالدين وتتنزه عن تشغيله انتهازياً لخداع البسطاء من الناس وتحرر نصوص الدين من الأفاقين والمتاجرين به لأجل مصالحهم الخاصة. فوجود مرجعية دينية في الدستور يحجر على دعاة الدولة المدنية الحداثية حرية التعبير ويترك الساحة مفتوحة ومقصورة على دعاة الدولة الدينية بينما العكس ممكن ففي الدولة المدنية يمكن لدعاة أية أيديولوجية أن يعملوا بكامل حريتهم ويكفي هنا أن نذكر بأن قانون تنظيم الأحزاب السياسية ينص في مادته الرابعة المعدلة في يونيو 2005 والتي تنص على أنه يشترط لتأسيس أو استمرار أي حزب سياسي عدم تعارض مقومات الحزب ومبادئه أوأهدافه أو أساليبه في ممارسة نشاطه مع مبادئ الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع .ومن هنا فلاديمقراطية حقيقية في ظل وجود المادة الثانية من الدستور المصري !!.
10 - إن هذه المادة تفعل عند اللزوم، وتستخدم _ تمييزياً _ لأجل المصالح الخاصة عند حدوث أي لون من الوان الصراع الفكري أو الاختلاف في الرأي والقول، أو عند أي شكل من أشكال الحراك الاجتماعي، ففي مجال الدين يمكننا أن نجد الحجة ونقيضها في آن واحد، إذ أن النص الديني حمال أوجه ونصوص الدين لا تنطق بذاتها، بل تحتاج إلى من يفهمها ويطبقها من البشر، وهنا لا بد أن يظهر الخلاف، وهو أمر طبيعي ومفهوم. ولكن عندما نحول الدين إلى قاعدة دستورية _ تُطبق على الجميع رغم الاختلاف الحادث _ فإن الاختلاف يصبح جريمة تستحق العقوبة، وهو ما يعني تكميم الأفواه، إخراس الألسن، وإخماد صوت العقل، ووأد الرأي الآخر، وبسط القهر على الضمير، فيتحول الأمر من منطق الحق إلى منطق القوة، لتصبح القوة حقاً مطلقاً لأنها القادرة على فرض الأمر الواقع والتنفيذ الجبري.فوجود مرجعية دينية في الدستور يعني بالضرورة قيام رجال الدين وفقهائه وأدعيائه بتفسير النصوص الدينية والقيام بدور الرقيب على الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية وانتحال حق التفسير والتفقه فاستنادا لهذا النص تستطيع المؤسسة الدينية الإسلامية سواء تمثلت في دار الإفتاء أو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ويستطيع من يطلق عليهم رجال الدين أو الذين أدمنوا الإفتاء في الفضائيات، أن يفرضوا وصاية على الفكر والرأي والقوانين وأن يصادروا الكتب ويخرجوا من يشاءون من حظيرة الإيمان , ونذكر أن مرشد الإخوان السابق عندما سئل عن ولاية غير المسلم على مسلم قال إن هذا الأمر سيبحثه في الوقت المناسب أهل الحل والعقد . من هم ؟ ما هي سلطاتهم ؟ من يعينهم ؟ من يحاسبهم ؟ ماذا لو اتفقوا على فرض أمور تتناقض مع معيير حقوق الإنسان العالمية الحديثة ؟ هذا فضلا عن أن كل تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا المتعلقة بأى مقال أو كتاب أو رأى يتم فيها استخدام هذه المادة بالاضافة إلى التلويح بها في كل الأزمات المتلاحقة من قبيل تصريحات فاروق حسني ومنع الخمور وغيرها. فمباديء الشريعة يمكن أن توظف بمعرفة من شاء فيما يشاء وقت أن يشاء !!
11-وجود هذه المادة في الدستور يفتح الباب أمام المزايدات فأثناء الانتخابات البرلمانية قال مرشد الإخوان بأن هدفهم هو تفعيل الدستور الذي ينص على الشريعة لا أكثر ولا أقل . ويرى نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد حبيب، أن المادة الثانية من الدستور المصري “خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه، كما يفجر الاقتراب منه حربا أهلية في مصر”. وهذا التهديد العلني بالمذابح وحمامات الدم يبين بوضوح إلى أي مدى يمكن أن يصل إليه دعاة الدولة الدينية من تهديد وعنف .
12-تسببت المادة الثانية في صدور بعض الأحكام التي تتنافى مع المواطنة فعلى سبيل المثال قضت محكمة القضاء الإداري المصري في القضية رقم 35721 لسنة 59 قضائية بإلغاء قرار لوزير الداخلية بتغيير خانة الديانة في البطاقة الشخصية لمن يشهر إسلامه بعد أن يقوم بتوثيق ذلك في الشهر العقاري وقد جاء الحكم استنادا إلى المادة الثانية وخاصة أن الإسلام لا يتطلب سوى النطق بالشهادتين . وبغض النظر عن كون القرارات المشار إليها تتحدث فقط عن إشهار الإسلام وليس تغيير الدين بصفة عامة فإنه في ضوء الحكم المذكور يكفي أن تطوع اثنان بسماعهما أحد الأفراد ينطق بالشهادتين لكي يصبح ذلك الشخص مسلما سواء رغب في ذلك أو لم يرغب وبكل ما يتبعه هذا التحول من تبعات.[8]
واستنادا للمادة الثانية عند مناقشة تعديل مشروع قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأرض عام 1992 بهدف إعطاء المالك الحق في فسخ عقد الإيجار وطرد المستأجر من الأرض حتى ولو كان المستأجر ملتزما بجميع بنود العقد ويسدد الإيجار المنصوص عليه والزيادة المقررة دوريا في مواعيدها. فقد لجأت الحكومة لتمرير تعديلها لطلب فتوى تجيز الفسخ والطرد، ووفر لها مفتى الديار المصرية هذه الفتوى. واعترض وقتها خالد محيى الدين على إقحام الدين في قضية سياسية اجتماعية، وفرض رقابة ممن يسمونهم رجال الدين على حق مجلس الشعب في التشريع، خاصة أن وهناك تفسيرات وتأويلات مختلفة للنصوص الدينية، وأحكام الشريعة قابلة للتطور والتغيير على ضوء الاجتهادات المختلفة وتطور الواقع والفكر الإنساني[9]
كما استخدمت نفس المادة في الحكم بالتفريق بين المفكر الإسلامي نصر حامد أبو زيد وزوجته رغم أنفهما لمجرد أنه تطوع بالاجتهاد في مسائل من نوع أن للمرأة الحق الشرعي في الحصول على نصيب من الميراث مساوي للرجل.
وكذلك قضت الدائرة الأولى بمحكمة القضاء الإداري بتاريخ 8/11/2005 برفض الدعوى القضائية رقم 3253 لسنة 60 قضائية ضد رفع شعار الإسلام هو الحل أثناء الحملة الانتخابية لمجلس الشعب وجاء في حيثيات الحكم إن هذا الشعار لايدعو إلى إثارة الفتنة الطائفية فالمادة الثانية من الدستور تنص على أن دين الدولة هو الإسلام ومبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع . هذا على الرغم من القول بأن المادة الثانية موجهة للمشرع وليس للقاضي !!!
كذلك توجد أحكام قضائية عند تغيير الدين والقاعدة هي أنه يمكن للمسيحي أو من ينتمي لأي معتقد أن يتحول للإسلام ولكن لا يمكن للمسلم أن يتحول للمسيحية ( أو لأي دين آخر) ورغم عدم وجود نص قانوني يجرم تحول المسلم إلى دين آخر فإن التهمة تكون ازدراء الأديان، وقد ألغيت وصاية أب مسيحي على ولديه عندما أسلمت الأم لأنه حسب قول محكمة الإسكندرية الابتدائية (القضية 462 لسنة 1958) أنه "يتعين أن يتبع الأولاد الدين الأصلح، والإسلام هو أصلح الأديان"،
قضية رأفت نجيب صليب الذي كان قد أشهر إسلامه في عام 1998 ثم عاد للمسيحية بموجب إقرار صادر من بطريركية الأقباط الأرثوذكس مصدق عليه من مديرية الأمن، ولكن مصلحة الأحوال المدنية رفضت استخراج بطاقة الرقم القومي له بالبيانات المسيحية، وحين لجأ للقضاء الإداري قضت المحكمة برفض الدعوى شكلا وموضوعا واستند الحكم في حيثياته على المادة الثانية في الدستور وجاء به " .. إن النصوص التي تنص على حرية العقيدة ومساواة المواطنين يجب أن تفسر في حدود ما يسمح به الإسلام باعتباره دين الدولة الرئيسي وأساس قيامها"، وتواصل المحكمة سرد حيثياتها فتقول ".. فالدولة تخضع لأحكام وقواعد الدين الإسلامي ويتعين على كل أفراد الدولة مسلمون ومسيحيون الالتزام بهذه القواعد والخضوع لها ...الخ".
قضية أمير شوقي عبد السيد الذي ولد وعاش مسيحيا، ولكن مصلحة الأحوال المدنية رفضت استخراج بطاقة الرقم القومي ببيانات مسيحية لأن والد الطالب كان قد أشهر إسلامه حين كان عمره عامين وبالتالي يكون الطالب مسلما بالتبعية، وحين لجأ للقضاء الإداري قضت المحكمة أنه مسلما واستندت إلى فتوى صادرة من دار الإفتاء يقول نصها: "الولد يتبع أحد أبويه في الإسلام باعتباره خير الديانات ...". . ومن الملاحظ إنه في حال ذكر الحريات الدينية في دساتير العالم العربي فهي في معظم الحالات تعني حرية العبادة أو حرية ممارسة الشعائر وغالبا ماتكون محددة بعبارة طبقا للقانون وليس حرية الاعتقاد التي تعني حرية التغيير أو حرية عدم الاعتقاد.
وعندما نتحدث عن حرية الدعوة الدينية فمن المعروف إنه يحظر على المسيحيين الدعاية لدينهم باعتباره تبشيرا كما يعاقب من يتحول إلى المسيحية بالسجن بتهمة ازدراء الدين الإسلامي !! هذا فضلا عن عدم وجود تشريع يجرم التمييز الديني وهو أمر وإن كان يشترك مع أنواع التمييز الأخرى كالتمييز ضد المرأة، إلا أنه أخطر على النسيج الوطني من بقية أنواع التمييز.
وختاما 00
إننا عندما ندرس دساتير العالم من حولنا نخلص إلى أنه لا توجد في عالم اليوم دولة متقدمة ومتحضرة وراقية يستند دستورها إلى شريعة دينية أيا كانت لأنه في كافة الدول الديمقراطية الحقيقية ومنذ أكثر من قرن ونصف لم يعد هناك ذكر للدين في دساتير الدول، إذ لا يمكن اعتبار الدين مقياساً للولاء والإخلاص والمواطنة الحقيقية، وبالتالي يكون وضع مصر مع بقاء هذه المادة شاذاً لا يقابل باحترام في الدول الديمقراطية الأوربية والإسلامية منها التي تخلو دساتيرها من هذه المادة. والبديل للدولة الدينية ليس الدولة المعادية للدين مثل النظم الشيوعية بل الدولة المدنية أي الدولة الحديثة التي تحفظ للدين مكانه في القلوب إيماناً وتعبداً وفي الضمائر والأخلاقيات عملاً وفي المجتمع دوراً يليق به بدون فتح الباب لاستغلاله . إذا نظرنا إلى حركة التاريخ وجدنا الدين فُصل عن الدولة عن طريق فصل الكنيسة عن الدولة في البلاد المسيحية. ولا يعني فصل الكنيسة عن الدولة في البلاد الغربية وغيرها من البلاد المماثلة أنها اقتلعت الدين فالحرية الدينية مكفولة فيها، ولا تزال للمسيحية دور كبير فيها بل أن للمملكة المتحدة كنيستها الرسمية على عكس معظم البلاد الغربية ولكنها تكفل الحرية الدينية لجميع مواطنيها الذين جاء بعضهم من أصول إسلامية وهندوكية وبوذية وسيخية.
ولم تحقق البلاد الغربية نهضتها وتقدمها في جميع المجالات إلا بعد أن فصلت الكنيسة عن الدولة. ولم تتعمق جذور الديموقراطية فيها إلا بعد أن تخلصت من تسلط الدين على الدولة، ولم تصل إلى ما وصلت إليه من رقي حضاري واستقرار اجتماعي وإزدهار اقتصادي إلا بعد أن فصلت الدين عن الدولة. وما هو جدير بالذكر أن الهند التي حصلت على استقلالها بعد مصر تمسكت منذ استقلالها بالديموقراطية وفصلت بين الدين والدولة وحققت إزدهاراً اقتصادياً يجعلها في مصاف الدول الكبري، والفرق شاسع بينها وبين باكستان وكانا في الأصل بلداً واحداً والسبب أن باكستان لم تفصل بين الدين والدولة .
إن وجود المادة الثانية بصيغتها الحالية في الدستور المصري يؤكد أن مصر تفرض ديانة الأغلبية ديناً للدولة في ظل وجود المسيحيين وهم أقلية دينية كبيرة بين مواطنيها الأصلاء ووجود هذه المادة في الدستور يؤكد – مع الأسف أن مصر هي الدولة الوحيدة في العالم ( لايشاركها أحد ) التي تفرض الشريعة الدينية للأغلبية كالمصدر الرئيسي للتشريع !!! .
إن علينا أن نجيب بصراحة وبشفافية وبصدق مع أنفسنا على هذا السؤال, هل مصر دولة مدنية علمانية ... أم أنها دولة دينية ؟ الدستور المصري تارة يقول إنها دولة دينية وتارة أخرى يؤكد أنها دولة مدنية وعلمانية ولعل هذا هو السبب الرئيسي لتلك البلبلة ولذلك التيهان والتخبط الفكري الذي نعاني منه اليوم , ياترى ما هي الاصلاحات الدستورية التي نريدها بالضبط ؟.. هل هي الاصلاحات التي تؤكد على مدنية الدولة وحقوق المواطنة وحرية العقيدة وسيادة القانون. أم إننا نريد إصلاحات دستورية تؤكد على دينية الدولة المصرية ؟ .. إن الإجابة على هذا السؤال الهام والخطير هي التي ستحدد لنا الصورة التي ستكون عليها مصر المستقبل .
وكحل وسط قد يساعد على تجنب السلبيات التي تمثلها هذه المادة، نقترح تعديل المادة الثانية ويمكن أن يشتمل التعديل على هذه الأفكار :-
* العربية لغة الدولة الرسمية.
* الإسلام ديانة غالبية المواطنين والمبادئ العامة للشريعة الاسلامية مصدر من المصادر الرئيسية للتشريع، بما لا يتناقض مع التزامات مصر طبقاً لمواثيق حقوق الإنسان الدولية أو يخل بحقوق مواطنة غير المسلمين وتستلهم الشرائع السماوية كأحد مصادر التشريع .
* التمتع بكل الحقوق والحريات المدنية لا يتوقف على المعتقدات الدينية للفرد.
* مباديء الشريعة الإسلامية المشار إليها هي كذا وكذا ( لابد من تحديدها بدقة ووضوح )
* ترعى الدولة القيم العليا للأديان والحضارات والثقافات الإنسانية لذا فإن كافة أجهزة الدولة تلتزم بالحياد إزاء الأديان والمعتقدات.
وإذا لم يتم التأكيد على مدنية الدولة بصراحة ووضوح ستكون مصر معرضة لمخاطر طائفية وسيدفع الجميع ثمناً باهظاً وسنظل جميعاً نتخبط داخل النفق المظلم !!!
1- أمين سليمان أبو المجد , قراءة في فكر مسلمين مستنيرين , مقال , www.coptsunited.com 15/1/2007
2- موسوعة السياسات والدين , يرأس تحريرها روبرت ووثنو
3 - عادل جندي , الحرية في الأسر ,دار ميريت القاهرة 2006,ص388
4- بهي الدين حسن ,ليس الإخوان بل الأقباط هم ضحية التعديلات الدستورية , مقال , جريدة نهضة مصر , 29/1/2006
5- الحرية في الأسر , مرجع سابق ,ص392-394
6 - د0 إبراهيم شحاته .وصيتي لبلادي النص الكامل ط2, مكتبة الأسرة 2001,ص281 .
7- بهي الدين حسن ,ليس الإخوان بل الأقباط هم ضحية التعديلات الدستورية , مقال , جريدة نهضة مصر , 29/1/2006
8- الحرية في الأسر, مرجع سابق , 390
9- حسين عبد الرازق , الأقباط والمادة الثانية , مقال , جريدة الأهالي 24/1/2007