الهوية.. ثقافة أم عرق؟(3) بقلم : أسامة أنور عكاشة
فإذا سلمنا وفقا للمقدمات التي أوردناها بالمقالين السابقين بنتيجة حتمية مؤداها أننا ـ كمصريين ـ لسنا من جنس العرب باعتبار أن العربية كصنعة إثنية لا تنطبق إلا علي المجموعة البشرية القاطنة في شبه الجزيرة العربية.. تلك المحددة شمالا بحدود العراق والأردن( أو ما يسمي ببادية الشام) وشرقا بالخليج الفارسي وغربا بالبحر الأحمر وجنوبا بتلك المساحة من المحيط الهندي المعروفة باسم بحر العرب .
وأننا في الوقت نفسه ننتمي إلي الثقافة العربية السائدة في الدائرة الأوسع الممتدة من شرق المحيط الأطلسي في موريتانيا والمغرب إلي ساحل الخليج الفارسي ومن جبال كردستان وطوروس والشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط إلي الربع الخالي واليمن والساحل العماني ثم غربا إلي الصومال وجيبوتي!
فقد وصلنا إلي حقيقة أخري ماثلة, علينا أن نتبينها ونحن نمزق غلالات الأخطاء الشائعة وهي عدم وجود أي علاقة تربط الثقافة بالعرق.. لأنه لا توجد ثقافة عرقية فلا توجد هناك ثقافة خاصة بالجنس أو العنصر القوقازي وهو الأصل الذي انحدرت منه كل الشعوب الأوروبية تقريبا.. بل تتعدد ثقافات تلك الشعوب وتختلف وربما تتناقض.. اللهم إلا حالة وحيدة ونادرة, ادعي فيها مفكرو النازية الألمانية أن هناك ثقافة خاصة بالجنس الآري ولم تصمد تلك الادعاءات واختفت مع اندحار الجيوش الهتلرية وسقوط الرايخ الثالث وكذلك لا توجد ثقافة يمكن أن نسميها ثقافة الجنس الأصفر في غرب آسيا وجنوبها الشرقي ولكننا يمكن أن نتحدث عن ثقافة صينية وثقافة يابانية وثقافة هندية.. ولا علاقة لأي منها بمسألة العرق أو العنصر الإثنوغرافي!
كذلك لا يمكن أن تكون وحدة اللغة واللسان دليلا علي اتحاد الجنس وإلا كانت كل الشعوب المتحدثة بالفرنسية( وتعد ثقافاتها بعضا من الثقافة الفرنسية) من أصل عرقي واحد تستوي في ذلك فرنسا مع دول غرب إفريقيا مع جزر المارتينيك مثلا( وبالمناسبة لا تزال الثقافة الفرنسية ضاربة بجذورها في الدول العربية بشمال إفريقيا؟) واتحاد اللسان كما هو مسلم به هو المكون الأساسي لشيوع ثقافة بعينها في أي مجموعة بشرية! ويستتبع ذلك بالضرورة انفصال الهوية عن الثقافة.. أو عدم تلازم الارتباط.. بمعني أكثر مباشرة وبساطة ندفع بأن الهوية ليست عرقا وليست ثقافة.. مع التسليم بأن الثقافة تعد وسيلة للتعبير عن الهوية.. ولكنها ليست هي بالذات.. فتحديد الهوية يتبع مدلول الكلمة ومعناها.. ونعلم جميعا أن هويه ليست إلا اشتقاقا من سؤال من هو؟.. من هي؟.. من هم؟..
والإجابة هي التي تحدد الصفة والسمة التي نسميها الهوية.. فنحن حين نسأل: من هو المصري.. أو من هم المصريون فإنما نريد إجابة لا تقتصر علي الوصف الإثني أو الجغرافي ولكنها تتسع لتشمل المكونات النفسية والتراكمات الحضارية والثقافية المتوارثة وآليات عمل الوجدان الجمعيCollectiveMinu وهنا نستطيع أن نقطع بأن المصرية هي هويتنا!
نعم; لسنا في حاجة للالتفاف حول الحقائق الواضحة لندعي أن المصريين عرب! فالمصرية هوية منفصلة عن العربية ولا يصح الخلط بينهما أو افتعال صيغة توفيقية تبرر موقفا ثقافيا أو سياسيا بعينه, وليست لزاما علينا أن نبحث عن هوية ونحن نمتلك هويتنا المصرية وليس هذه الهوية المصرية في حاجة لإضافة تشخيص آخر نلصقه بها ومن هنا أعترض بشدة علي الاسم الرسمي الذي تطلقه الأنظمة السياسية علي الوطن المصري.. كأن نسميها مرة بالجمهورية العربية المتحدة ونغيره منذ سنوات إلي جمهورية مصر العربية.. إن مصر هي مصر.. ويكفيها أن تكون مصر فقط.. وقد كانت كذلك في العصر الليبرالي قبل يوليو.. المملكة المصرية.. وكانت كذلك أيضا بعد يوليو حين أعلنت الجمهورية فصارت جمهورية مصر وأعتقد أن إضافة صفة ثقافية أو دينية أو أسرية لاسم أي دولة أمر يسيء إلي هذه الدولة ويحط من قدرها! بدءا من اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية وجمهوريات الديمقراطيات الشعبية في شرق أوروبا قبل السقوط الشهير.. وحتي في جمهورية الصين الشعبية والعربية السورية.. والأردنية الهاشمية والعربية السعودية.. وهلم جرا!
نعود إلي مصر وهي الغاية لنطالب بضرورة الاكتفاء باسمها التاريخي الذي لا يضارعه في قيمته وظهوره أي اسم فمصر فقط تعني كل شيء وأول ما تعنيه هو الهوية المصرية دون أي احتياج لتحصيل الحاصل! إن المصرية قيمة تاريخية تتحقق عبر الزمن ولها تجلياتها في العمق الحضاري الكامن في الوجدان رغم تكلسات فترات التراجع والتخلف أما الحاجة إلي تأكيد هذه الهوية وترسيخها فهي قضية أخري! قضية لابد فيها من حرث الأرض وتعريضها للشمس لتستقبل بذور المصرية الخالصة وليست المهجنة.. وسيتأتي هذا عبر جهد دائب غير متوان ولا منقطع في عملية التعليم بالذات لأنه من الجلي أن ضبابية الهوية كفكرة في أذهان المصريين يرجع إلي عقود وأجيال تعرضت لمحاولات مستمرة لخلخلة الثوابت وطمس الرموز وتمييع الإحساس بالمواطنة والاعتزاز بالانتماء للوطن. سنبذل جهودا شاقة ومخلصة لنعيد المدرسة كما كانت قبل انهيارات العقود الأخيرة معملا لتفريخ مواطن يستطيع أن يعرف ويتذكر ويستعد.. مواطن حسمت بداخله إشكالية الهوية التي ينتمي إليها لأنه يعيشها ويتنفسها. مواطن يدرك ويؤمن بأنه مصري خالص..
يمتد عمقه التاريخي إلي الجنوب في وادي الملوك وهياكل الآباء العظماء ويبصر نظره مياه الشمال عبر المتوسط.. بحر الحضارات الذي شهد دائما وجود المصريين.. ملبيا طلب البعض من آبائه.. كالعميد.. والحكيم.. وسلامة موسي ولطفي السيد ونجيب محفوظ ولويس عوض وآخرين.. هؤلاء الذين أشاروا إلي حيث يجب الاتجاه.. لأن الهوية المصرية تفرض المسار والوجهة.. والنظر إلي تجليات الحضارة التي تشكل تحديا يجب قبوله وسباقا لابد من اللحاق به