بوتين وإردوغان مراوغة أم رهان؟
فى تطورات مثيرة هاتف الزعيم الروسى فلاديمير بوتين الرئيس التركى رجب طيب إردوغان فور نجاته من الانقلاب فى منتصف يوليو. ثم فوجئ الجميع بزيارته لموسكو يوم التاسع من أغسطس. وكانت زيارة ذات دلالة، فلقد كانت أول ظهور للرئيس التركى خارج بلاده، تبعها تحفظ وسائل الإعلام الغربية من التقارب الروسى التركي، ليزيد الأمور غموضاً. ازداد الارتباك بانتشار إشاعات أن بوتين كان قد سرب إلى إردوغان معلومات هامة عن الانقلاب الذى تم ضد حكمه قبل حدوثه. المعلومات شديدة الحساسية مكنت أردوغان من الهروب ممن حاولوا الانقلاب عليه ومن إجهاض المحاولة كلها، التى كان مركزها القاعدة العسكرية الهامة لحلف الأطلنطى فى إنجرليك. فقطع الكهرباء عنها واعتقل رئيسها إلى ما تلا ذلك من أحداث.
قد تبدو تلك الرواية تجسيداً لروايات ونظريات المؤامرة، إلا أن موقع (مركز كارنيجى الأوروبي) وهو مركز، يكن البعض له قدراً من التقدير، نشر يوم العاشر من أغسطس مقالاً لكاتب أشار فيه أن "وكالة أنباء (فارس) وثيقة الصلة بالدولة الإيرانية قد أشارت أنه قد توفرت معلومات لها من مصادر دبلوماسية أن المخابرات التركية حصلت على معلومات روسية عن انقلاب وشيك فى تركيا قبل حدوثه" وأشار المقال أيضاً إلى "أن قدرات التصنت الإلكترونى الروسية المتواجدة فى اللاذقية فى سوريا هى مصدر تلك المعرفة" وأضاف الموقع أيضاً: "إن التحول فى موقف أردوغان من روسيا، وتقاربه معها هو ما دفع الروس إلى تسريب المعلومات له، وأن هذا التقارب الروسى ــ التركى قد يكون سبب الانقلاب، وقد يكون سبب تسريب الروس المعلومات لإردوغان لإنقاذه." وبعبارة أكثر وضوحاً: إن تغير موقف أردوغان من روسيا وتقاربه معها هو ما أنقذه. وعديدة قد تكون الأسباب التى أدت إلى تقرب إردوغان من روسيا قبل هذا الانقلاب ولكن يمكن تلخيصها فى يقين أردوغان أن المشروع الغربى فى سوريا يلفظ أنفاسه الأخيرة وإن مشهد النهاية محل خلافات واسعة بل إن عودة الاعتراف ببشار هى واقع فرض نفسه بوضوح.
والشق الآخر هو الموضوع الكردى الذى يحمل فى طياته مخاطر قد تودى بالدولة التركية ذاتها. فترى ما هو الثمن الذى دفعه أردوغان للروس ؟! فالانشقاقات والشروخ داخل تركيا تتسع، ولعل اعتقال الطيارين اللذين أسقطا المقاتلة الروسية السوخوى فى نوفمبر ٢٠١٥ مجرد بداية لعروض ستربتيز قادمة فى أنقره، عروض فى حقيقتها ستتضمن محاولات للتنصل من كوارث وجرائم شارك فيها أردوغان وربما يكون الثمن هو الاعتراف على منظومة التمويل والتجنيد والتجارة بالنفط والآثار فى شرق المتوسط. وقد يتجاوز الثمن هذا إلى اطلاع الروس على بعض ما كانوا يريدون معرفته بشأن الناتو وقاعدة إنجرليك!
وهناك فى أوروبا الآن من يحاول استقراء حقيقة ما حدث وحجم الأضرار الناتجة عن التقارب الروسى ــ التركي. مثلت تركيا طيلة سنوات الحرب الباردة نقطة ارتكاز لكافة القوى المعادية لروسيا، فكانت دولة أساس فى كافة الأحلاف العسكرية المعادية للاتحاد السوفيتى ثم لروسيا التى تبعته. أحلاف تغيرت أسماؤها من حلف بغداد للحلف المركزى للحلف الإسلامى لحلف الأطلنطي. كانت تركيا عاملاً مشتركاً أعظم فى كل تلك المترادفات السياسية. لكن تاريخ تركيا أكبر وأوسع من مجرد العداء للشيوعية، بل إن الاتحاد السوفيتى قد تعاطف مع كمال أتاتورك فى انقلابه على الدولة العثمانية، وكان الشيوعيون الروس هم من فضحوا اتفاقيه سايكس بيكو وتقسيم بلاد الشام حتى يعرف العالم أن الحرب العالمية الأولى لم تكن من أجل نشر الديمقراطية، بل كانت تستهدف وراثة الدولة العثمانية. ولكن الأمر أعمق كثيراً من السياسة المجردة، فتركيا أيضاً تتقاطع عرقياً مع مناطق النفوذ الروسي، فاللغة التركية متداخلة مع دول الاتحاد السوفيتى من أذربيجان لتركمانستان لقرغيزستان فعلاقات الجوار والتاريخ الطويل يمكنان الكيانين الروسى والتركى من الإطلال بعمق على قلب نوايا ومشاكل الآخر.
لتركيا إذن حرص تقليدى على عدم إغضاب جار ضخم جبار، فتركيا ذات الموقع الخطير لا تستطيع أن تعادى روسيا تماماً ولا يستطيع الروس إلا السعى الدائم «لدق إسفين» بينها وبين حلفائها الغربيين. الدور التركى فى السياسة العالمية دور محدود إلا فى لحظات حدة الصراع مع روسيا، ولقد ازدادت أهميته فلقد دخل سوريا ٣٥٠ ألف مقاتل ومرتزق أجنبى يرتدى وشاح الإسلام مرتزقة تم تجنيدهم من باريس للصين ومن مصر والسودان لماليزيا وقرغيزستان. ولقد كان لتركيا أو لمصفوفاتها دور عظيم فى امتصاص هؤلاء المرتزقة وترتيب مسارات الدم لهم لقاء هبات مالية عظام، ولكن طباخ السم يذوقه، فقد أتت لحظة الخلافات الحادة وتسديد الفواتير. فتركيا التى تحولت إلى الترس الأساسى فى مفرمة الدم فى شمال سوريا والعراق وليبيا وسيناء تواجه تداعيات تعمقها وخوضها فى بحر الدماء. فالأمر الكردى صار سكيناً أقرب من حبل الوريد وهذا ما يفهمه الروس جيداً، فروسيا لها حلفاء وسط الأكراد وهى ترى القضية الكردية بشكل محايد. فهى تتفهم تلاعب القوى العالمية بها ولكنها أيضا تتفهم قضيتهم القومية، ولذا فإن لروسيا علاقات لعقود مع قوى كردية كالحزب الديمقراطى الكردستانى فى العراق، وحزب العمال الكردى فى سوريا. وروسيا لذلك تتفهم المعضلة التركية التى صارت إحدى بؤر مشروع الفوضى الخلاقة.
تخوض روسيا معركة كونية معقدة مع من يحاصرونها ويقتحمون مجالها، ففى منتصف يونيو ٢٠١٦ وأثناء القمة الاقتصادية فى بتروجراد دعا بوتين كبار الإعلاميين الغربيين الحضور لحوار خاص معه، وكان يستهدف إعلامهم مباشرة بما يواجه البشرية من مخاطر عظام إذا استمر الغرب فى حصار روسيا وفى تصعيد التوتر فى العالم. ففى تطور جرئ أعلن الزعيم الروسى فلاديمير بوتين أن روسيا تلافت مصيدة سباق التسلح التقليدي، وإنها حققت نجاحات عظام فلقد نجحت فى ابتكار أنواع جديدة من أسلحة غير تقليديه. ولهذا فإن التقبل لحل سلمى يقبل بقاء سوريا موحدة يعنى هزيمة أصحاب مشروع أكبر من الشرق الأوسط كله رغم أن مموليه ورجاله من المنطقة. ولكن هزيمة مشروع تقسيم سوريا قد يكون كزلزال سقوط سايجون فى فيتنام؟؟ ولكن هذه المرة مركزه دمشق، وقد تصل تداعياته إلى سواحل بحر العرب وخليجه، إن لم تكن قد وصلت فعلاً!