al masri alyom

 عبقرية سعد زغلول (٢)

 بقلم  طارق حجى    ٢٣/١٠/٢٠٠٧

كانت السنوات ما بين ١٩٠٦ و١٩١٠ من أسوأ السنين فيما يتعلق بتأزم العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها، فخلال تلك السنوات ونتيجة لسياسات ممثل الاحتلال البريطاني في مصر سيرالدون جورست، وسلفه اللورد كرومر، والتي قامت علي بذر بذور الحزازات بين المسلمين والأقباط عن طريق التناحر علي المصالح بوجه عام والتنافس الدامي علي الوظائف بوجه خاص، ناهيك عن إزكاء نار التعصب ولاسيما بالإيعاز للأقلية القبطية أن أبناءها لا ينالون حقوقهم كاملة،

 وأن الفرص لا تتاح لهم كما تتاح للمسلمين، نتيجة لذلك تأزمت العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث، وقد بلغ تأزم العلاقة حدا بعيدا عندما أخذت الصحف اليومية تعبر عن وجهتي النظر في الخلاف المشتعل بشكل زاد من اشتعال نار الخلاف، وفي أطروحة نال بها الدكتور حسن الموجي درجة الدكتوراه في الإعلام عن موقف الصحافة الشامية من مشاكل الواقع المصري خلال السنوات ما بين ١٩٠٠ و١٩١٤ عرض شيق للغاية للكيفية التي انعكس بها هذا الخلاف علي كبريات الصحف المصرية يومذاك،

فقد بلغ التأزم أقصاه عندما قتل بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر القبطي يوم ٢٠ فبراير ١٩١٠ برصاصة أرداه بها شاب مصري مسلم هو إبراهيم الورداني، وخلال هذه السنوات كان سعد زغلول وزيرا في كل الوزارات التي تعاقبت علي حكم مصر، ابتداء من وزارة مصطفي فهمي باشا الأخيرة ١٩٠٦ - ١٩٠٨ ووزارة بطرس غالي باشا ١٩٠٨ -١٩١٠ ثم وزارة محمد سعيد باشا منذ ١٩١٠ وحتي استقالة سعد زغلول الشهيرة سنة ١٩١٢، خلال تلك السنوات أتيح لسعد الذي ساعدته طبيعته كرجل قانون ومحام وقاض ذاع صيت عدله كما ساعدته ثقافته التي جمعت بين التراث والثقافة العصرية،

أقول مكنه ذلك أن يراقب الأزمة ويقف علي حقيقتها وبذورها، أدرك سعد بنظره الثاقب وحنكته التي كونتها تجارب السنين الخصبة أن العدل بين طرفي الأمة يقضي علي أي فتنة طائفية. كذلك أدرك سعد زغلول أن مبادرة الأغلبية بكفالة الشعور بالأمان لدي الأقلية هو الأمر الطبيعي والذي ستنجم عنه حالة سلم حقيقية لا ظاهرية، وأن الأقباط عندئذ سيكونون أبعد ما يكونون عن التعصب أو الخوف أو القلق علي أنفسهم وعلي أبنائهم وعلي أموالهم.

وقد اختزن سعد زغلول كل خبراته في الحياة سواء إبان الثورة العرابية التي شارك فيها أو أيام السجن القديمة أو تجارب الحياة إبان اشتغاله بالمحاماة ثم القضاء ثم وزير ثم نائب منتخب عن الأمة في الجمعية التشريعية ١٩١٣ - ١٩١٤ ثم سنوات المخاض الأخير خلال سني الحرب العالمية الأولي فقد اختزن سعد زغلول الدرس الأعظم المستفاد من مراقبة تلك التجربة،

 وعندما وضعته مؤهلاته الفريدة في موضع القائد الأوحد لثورة ١٩١٩ فإن «سعد» وظف خلاصة تجاربه في الحياة -ومن بينها تجربة تأزم العلاقات بين مسلمي مصر وأقباطها خلال السنوات ما بين ١٩٠٦ و١٩١٢- أكمل توظيف، فإذا بقيادته الروحية الفذة للثورة تجعل من فرقاء الأمس الألداء رفقاء الثورة المشتعلة الأصفياء وجنودها الأوفياء،

 ورغم اعتقادي أنه لا توجد أي حاجة لتقديم الأدلة علي ائتلاف مسلمي مصر وأقباطها ائتلافا بالغ الروعة منذ اشتعال الثورة ١٩١٩ بسبب القبض علي الرجل الذي اجتمعت ثقة عنصري الأمة فيه، حيث إن جميع المؤرخين قد أوفوا هذه الظاهرة حقها، فإنني أود أن أقتطف فقرات من كتاب موسوعة تاريخ مصر «الجزء الرابع - صفحة ١٥٦٧» للأستاذ أحمد حسين حيث يقول في وصف مظاهرة الشعب الكبري يوم ١٧ مارس ١٩١٩: ولعل أروع ما أبرزته هذه المظاهرة الكبري هو هذه الظاهرة التي سيطرت علي الأحداث منذ اللحظة الأولي وهي ظاهرة التضامن الوثيق بين المسلمين و الأقباط بعد أن تصور الأنجليز أنهم نجحوا في التفرقة بين عنصري الأمة فإذا بالمفاجأة وكم لثورة ١٩١٩ من مفاجآت، تظهر كيف ساد التلاحم بين المصريين في لحظة وأصبحت الكلمة التي تتردد علي الشفاه «الدين لله والوطن للجميع» وظهرت الأعلام في هذه المظاهرة الكبري وقد رسم عليها الصليب مع الهلال.

وخلال سنوات الكفاح الوطني ما بين ١٩١٩ و١٩٢٤ كان سعد محاطا دائما برفاقه المخلصين، وفي مقدمة الصفوف صفوة وفية من الشخصيات القبطية أمثال واصف غالي وويصا واصف وسينوت حنا وفخري عبدالنور ومكرم عبيد وغيرهم، ولعل معظم القراء المهتمين بتاريخ مصر يذكرون أن «سعد» عندما اعتقل يوم ٢٣ ديسمبر ١٩٢١ من قبل قوات الاحتلال البريطاني في مصر ونفي كان اثنان من أصحابه الخمسة الذين قررت سلطات الاحتلال نفيهم من كبار الشخصيات القبطية مصطفي النحاس، سينوت حنا، مكرم عبيد، فتح الله بركات، عاطف بركات،

وبعد قليل ألقي القبض علي مجموعة أخري من رفاق سعد زغلول حاكمتهم سلطات الاحتلال وأصدرت حكما بإعدامهم في ١١ أغسطس ١٩٢٢ وهم: حمد الباسل، ويصا واصف، مرقص حنا، واصف بطرس غالي، علوي الجزار، جورج خياط، مراد الشريعي، وواضح أن هناك أربعة أقباط من بين مجموع رفاق سعد زغلول السبعة، وبعد اعتقال هذه المجموعة الثانية من زعماء الوفد تكونت مجموعة جديدة أصبحت هي الزعامة الثالثة للوفد وقد ضمت عبدالرحمن فهمي ومصطفي القاياتي ومحمود فهمي النقراشي و محجوب ثابت ومحمد نجيب الغرابلي وفخري عبدالنور ونجيب اسكندر وعبدالستار الباسل وحسن يس وبعد اعتقال هذه المجموعة الثالثة تشكلت زعامة جديدة رابعة للوفد من المصري السعدي وحسين القصبي ومحمود حلمي إسماعيل و عبدالحليم البيلي وراغب إسكندر وسلامة ميخائيل،

وتظهر الأسماء بكل وضوح أن الشخصيات القبطية كانت متغلغلة في تكوين الوفد بجميع مستوياته تطبيقا لروح وسياسة ومنهج سعد زغلول في هذا الصدد، و عندما اكتسح سعد وحزبه أول انتخابات حقيقية في تاريخ مصر، وعندما ألف أول وزارة شعبية حقيقية في تاريخ مصر الحديث خلال شهر يناير ١٩٢٤، إذا به يخالف العرف الذي كان يقضي بتعيين وزير قبطي في كل وزارة، وإذا بسعد يعين وزيرين قبطيين في وزارته التي كانت تتكون يومئذ من رئيس وتسعة وزراء فقط، وكان هذان الوزيران هما مرقص حنا وواصف غالي.

وهكذا يتضح جليا أن سياسة سعد زغلول في هذا المضمار إنما كانت تقوم علي إلغاء التعصب من الجانبين وذلك عن طريق إشاعة روح الوطنية المصرية وبث روح الأمان والاطمئنان بين أفراد الأقلية القبطية وجعلهم جزءا لا يتجزأ من بنية حزبه السياسي الكبير، وتوزيع الأدوار في هذا الحزب علي أساس الكفاءة لا الدين

ومن جانب آخر، فإن روح التآخي والإخلاص و الوفاء والولاء كانت هي معالم اتجاه الأقباط المصريين ومواقفهم، ذلك الاتجاه الذي تمثل ذات يوم في أعظم المواقف عندما همَّ أحد الجنود بطعن مصطفي النحاس زعيم الوفد والأغلبية المصرية بحربة مسمومة إبان وزارة إسماعيل صدقي في مطلع الثلاثينيات، فإذا بواحد من أكبر الشخصيات القبطية في الوفد يلقي بنفسه علي النحاس لفدائه فتصيب الحربة المسمومة سينوت حنا بجرح غائر يموت - بعد أيام - بأثره،

 وقد قدم مثالا لا تمحوه الأيام للمعادلة العبقرية في ربط عنصري الأمة برباط الائتلاف والتآخي و الوطنية والمحبة الذي لا تنفصم عراه إلا عندما ينخر التعصب في بدن الأمة - بعنصريها - سواء في شكل فكر رجعي لا يصلح لهذه الأمة ذات العنصرين ولا يصلح لهذا الزمان أو في شكل تعصب مقيت من جانب بعض شخصيات الأقلية التي تجهل أن السلام الوطني في مصر هو المنجي الوحيد من طوفان التخلف وإعصار العصبية المقيتة الذي هب منذ أكثر من ثلاثين عاما علي هذا الجزء من العالم الذي توجد مصر في قلبه.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com