سؤال المواطنة يقودنا إلى مسألة الدولة بالمعنى الحديث

الوقت - القاهرة ـ كارم يحيى:
الدكتور أسامة الغزالي حرب مفكر ليبرالي مرموق يرأس تحرير فصلية ‘’السياسة الدولية’’، التي تصدر عن مؤسسة ‘’الأهرام’’ في مصر. في العام الماضي أطل على القراء بأفكار عن الوحدة الوطنية والمواطنة في مصر. التقته ‘’الوقت’’ وطرحت عليه أسئلة المواطنة.
؟ لماذا لم تتحول الكتابات التأسيسية في مصر والعالم العربي عن المواطنة والوحدة الوطنية، والتي تعود الى قرنين من الزمان الى ثقافة عامة حية؟، ولماذا لم تنجز دولا ترعى المواطنة؟

- اعتقد ان مسألة المواطنة مفهوم مرتبط بالدولة. وعندما نتحدث عن مواطن فإننا نقصد مواطنين في دولة. وبعبارة أخرى لا مبرر نظري او علمي للتحدث عن المواطنة في مجتمع قبلي او عشائري او طائفي. إذن نحن نتحدث عن مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات داخل حدود الدولة بالمعنى الحديث. وهكذا فان الجانب الآخر للمواطنة هو الدولة ذاتها. والسؤال الذي طرحته يحمل سؤالا مثيرا هو لماذا لم تترسخ فكرة الدولة في العالم العربي؟.

 إننا نكتشف الآن ان ظاهرة الدولة في العالم العربي اقل رسوخا مما كنا نتصور. ويكفي ان ننظر الى كل من العراق والسودان ولبنان والخليج. وفي الواقع الدولة تبدو الآن وكأنها أقحمت على العالم العربي أكثر من كونها تطورا تاريخيا طبيعيا. ومن المؤسف أن نقول هذا الكلام ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. ولنأخذ الصراع الجاري في العراق بين شيعة وسنة والانقسام بين الأكراد والعرب. وللوهلة الأولى قد نتصور أن اللحمة التي ربطت بين هذه المكونات كانت هي النظام الاستبدادي في ظل’’صدام حسين’’. وبصرف النظر عن أحكامنا القيمية عن الاحتلال الأميركي والمؤامرات الخارجية لتقسيم العراق، يجب ان نمتلك الشجاعة لكي نقول إن مقومات الدولة العراقية نفسها محل تساؤل. والغريب أننا كعرب نستطيع دائما ان نرفع الصوت بالشعارات.

عندما تسأل العراقيين سيرفعون شعارات وحدة العراق والعراق الموحد، لكن العبرة في التطبيق والممارسة، تماما فإن لا أحد يباري اللبنانيين في التغني بحب لبنان، ثم تكتشف الآن ان هناك انتماءات أخرى لقوى دولية وإقليمية لا يمكن إنكارها. والمشكلة نفسها في السودان الذي يتفكك فعليا الآن، وحيث نكتشف ان عوامل الانقسام والتفتت لا تقل عن عوامل الاندماج.
وفي الحقيقة ان سؤال المواطنة يقودنا الى السؤال الأساسي حول الدولة. وببساطة عندما توجد الدولة بالمعنى الحديث يصبح بعدها من المشروع الحديث عن المواطنة.

الليبرالية والحالة المصرية
؟ وفي الحالة المصرية.. ؟
- لا مشكلة في الدولة. الأمة المصرية قديمة وكذا الدولة وإن كانت تأثرت في حقبها التاريخية المختلقة بمؤثرات وفدت إليها. مصر نموذج لكيان يستطيع ان نقول إن من يعيشون فيه مواطنون مصريون. وبالتالي فإن الكفاح من أجل إعلاء هذه المواطنة مسألة منطقية في مصر، كما ان مصر بعد استقلالها في العام 1922 عرفت المواطنة بالمعنى الحديث الكامل، وعلى نحو يعلو عن أية انقسامات دينية أو طائفية او إقليمية، ومن المنطقي ان تتحدث النخبة المصرية بثقة وولاء عن المواطنة، واعتقد انه برغم كل المشاكل إلا ان هنا في مصر تيار غالب بين الشعب يدرك معنى المواطنة ويحترمها، ويدرك المواطن العادي معنى المواطنة حتى في ظل مظاهر التمييز والتعصب والاختلافات.
؟ الليبرالية في الحالة المصرية والعربية توجه إليها الاتهامات بالعجز عن انجاز المواطنة لمبررات عدة من بينها تأثيرات الاستعمار الأجنبي؟.


- الليبرالية المصرية تعد قديمة نسبيا بالمقارنة ببقية العالم العربي. لننظر في التطور التاريخي للتيارات السياسية والثقافية في مصر. وإذا بدأنا من عصر ‘’محمد على’’ ندرك ان الموروث الأساسي كان إسلاميا، ثم وفد عليه من الخارج التيار الليبرالي منذ إنشاء الدولة الحديثة في عهده.. جاءت مع المبعوثين المصريين العائدين من أوروبا ومع مشروعات التحديث بصفة عامة. وهكذا كانت الليبرالية هي التيار الذي وفد الى مصر بعد الإسلام. وظل السجال الفكري يدور حول الإسلام والغرب أو الحداثة والتقليدية يسيطر على الساحة المصرية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

 ثم وفد تياران آخران هما: التيار الاشتراكي بعد الحرب العالمية الأولى وإقامة الاتحاد السوفيتي.. والتيار القومي مع الثورة العربية الكبرى 1916 وتاليا ظهور حزب البعث والتعاطف الشعبي مع القضية الفلسطينية، والى ان تلقف الرئيس جمال عبد الناصر هذه الدعوة القومية وأعلاها عن التيارات الأخرى. والآن أعتقد أننا نشهد عودة الى الجذور مع ذبول التيارين الناصري والاشتراكي. وأضننا نعود الى الفكرتين الإسلامية والليبرالية. لكن ميزة التيار الليبرالي انه يتبنى بوضوح وقوة المواطنة؛ بل هي في الحقيقة احد العناصر الأساسية في قوته في مواجهة التيار الإسلامي. والمواطنة بالأصل فكرة تجد نوعا من التقبل لدى الرأي العام. وعلى عكس ما توحي به النظرة العابرة اعتقد أن للتيار الليبرالي أرضية حقيقة في مصر بما يحمله من مفهوم المواطنة. واستطيع ان أدعى بأن المواطن المصري العادي يتقبل جوهر الليبرالية المواطنة بدون المصطلح ‘’الليبرالية’’ لغرابته. وجوهر الفكرة هي الاعتدال وعدم التمييز على أساس الدين.

لكن الليبرالية جاءت في سياق هجمة استعمارية على مصر والمنطقة؟
- من دون شك ان هذا احد العوائق التي اعترضت التطور الليبرالي. ومن دون شك أيضا ان الأفكار الاشتراكية والقومية ساعدت هي الأخرى في تغذية هذا التناقض وهذه المفارقة. لكن الجديد ان الأفكار الاشتراكية والقومية لم تعد على القدر نفسه من التحديد المذهبي. فالاشتراكية والقومية تحولت الى صياغات من قبيل ‘’البعد الاجتماعي’’ و’’العدالة الاجتماعية’’ و’’ارتباط مصر بالعروبة’’، أي الى مكونات مسلم بها، لكن الأفكار الاشتراكية والقومية لم تعد تيارا متكاملا مميزا. وهكذا في رأيي رجعنا الى المواجهة بين الاسلامية والليبرالية مع استيعاب القيم الأساسية التي خلفتها التيارات الأخرى. وفي هذا السياق فان المواطنة ما تزال تحمل عناصر قوتها. وفي كل الأحوال تظل مصر حالة مختلف عن معظم النماذج العربية.

 لكن الليبرالية تبدو كحركة نخبة؟
- مشكلة الليبرالية أنها تمارس أكثر مما يجرى الحديث عنها. بعبارة أخرى، لا تنظر لها من منظور اللحظة الراهنة فقط. فالليبرالية في سياق التطور التاريخي لمصر يمكننا ان نصف بها أفكار الرعيل الأول من قادة الإصلاح. هل ننسى ان ‘’ الوفد’’ كان أهم حزب سياسي في مصر بعد الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة يوليو (تموز 1952). لم يكن أهم حزب سياسي في البلد إسلاميا ولا قوميا أو اشتراكيا، بل كان ليبراليا. والمقصود ان الليبرالية من حيث الجوهر وبصرف النظر عن التسمية بإمكانها ان تزدهر في مصر. وهي بالفعل ازدهرت من قبل في مصر. ولأنها في تقديري متوافقة مع المزاج العام.. أي مع فكرة الاعتدال الذي ينعكس في الثقافة الشعبية للمصري العادي. وهي ثقافة تنطوى على تقبل الآخر.

الاستبداد والإسلام السياسي ومراجعات الإخوان
 هل ألحقت هزيمة 1967 أضراراً بالدولة الوطنية سواء في مصر او مجتمعات عربية أخرى ؟ ألا يعود إليها صعود التيارات الدينية؟
- صحيح.. لكنني لا استطيع القول ان الهزيمة ألحقت الضرر بالدولة الوطنية بقدر ما لفتت الانتباه ونبهت الى افتقار هذه الدولة للحكم العصري. واعتقد ان الهزيمة لم تستهدف بالأساس فكرة الدولة بقدر ما طرحت تساؤلات عن شكل هذه الدولة وآليات عملها.

 وعلى مستوى العالم العربي؟
- مشكلة الدولة هنا تتعلق أساسا بالانكشاف أمام الضغوط والتدخلات الخارجية كما يجرى في العراق ولبنان والسودان. فقد اتضح ان تماسك الدولة اقل من ان يقاوم الضغوط والمصالح الخارجية. وهنا ينبغي التأكيد على ان مصر حالة منفردة في السياق العربي.
؟ صعود التيارات الاسلامية في العالم العربي منذ عقد السبعينات ألم يكن واردا ان يستدعى استجابة تؤكد مناعة الوحدة الوطنية؟

- الاستجابات كانت واهنة.. ولا يجب ان نفسر الصعود الإسلامي بذاته، بل بطبيعة النظام السياسي ككل. وأنا من المؤمنين بأن صعود وازدهار تيار الإسلام السياسي والمتشدد هو نتيجة مباشرة لانعدام الديمقراطية وللنظام الديكتاتوري الاستبدادي. وبالديمقراطية سيعود هذا التيار الى حجمه الطبيعي بل يمكن استيعابه في نظام ديمقراطي حقيقي.. وهذه المسألة تخص طبيعة النظام السياسي بالأصل لا الدولة.

 كيف تقيمون ما يسمى بالمراجعات الإسلامية؟
- لا شك ان هناك تحديا هائلا يواجه ‘’الإخوان المسلمين’’. هم أولا مطالبون بالعمل في العلن. والتحدي الثاني يتعلق بالضغوط من أجل التحول نحو الديمقراطية.. والتحدي الثالث يتمثل في التوجس الخارجي منهم. وكلها تحديات تطرح على الإخوان المسلمين حتمية التطور. وأعتقد ان هذه التحديات انعكست في صراع داخل هذه الجماعة بين القادرين على التطور والعاجزين عنه.

 هل يقتربون من المواطنة أم إنهم محملون بعراقيل ذاتية؟
- الكثير من عناصر فكر الإخوان التقليدي يتناقض مع مفهوم المواطنة.. لكن التحديات التي ذكرتها سابقا تجعل الجماعة تحت ضغط حقيقي للتواؤم مع مفهوم المواطنة بمعناه الحديث. وبعبارة أخرى فان رفض ‘’الإخوان’’ لمفهوم المواطنة سوف يصبح احد الأسباب الأساسية لتقليص نفوذهم وشعبيتهم.

 هل أمامهم مسافة طويلة ؟
- المسألة ليست سهلة.. نحن نتحدث عن تراث عمره ستين عاما ويزيد. هم يحتاجون الى مراجعات أصيلة من داخل الجماعة وان يطرحوها للعلن.
؟ تبدو الحالة المصرية تعيش ثنائية بين الإخوان والسلطة.. ألا تعاني المواطنة بدورها من هذه الثنائية؟
- نعم قطعا تعاني.. فالحزب الوطني يتحدث عن المواطنة ولا يمارسها. وهنا في هذه اللحظة في مصر يجب ان نعيد تعريف المواطنة على إنها أبعد نطاقا من المساواة بين المسلمين والأقباط. واعتقد ان اخطر ما يهدد المواطنة في مصر الآن هو هذا التمييز الاجتماعي والطبقي، وإن كان الانقسام على أساس الدين أكثرها حساسية وخطورة وإثارة لانتباه أكثر. هنا يجب علينا ان نتحدث عن انعدام المواطنة بمعنى عدم التكافؤ الاقتصادي.

 هل هناك أمل في الخروج من ثنائية الحزب الحاكم والإخوان؟
- المسألة مرتبطة بالتطور الديموقراطي في مصر. ووفق ما أثبتت الإحصاءات والانتخابات الأخيرة كافة فإن الأغلبية العظمى من الشعب المصري ليست مع الإخوان أو الحزب الوطني. هذه الأغلبية محجمة عن المشاركة السياسية. وإذا استطاعت القوى والأحزاب الأخرى أن تعبر عن تيار ثالث سنحقق انجازا. وأعتقد ان الأمور في مصر ستسير في هذا الاتجاه.


ورقة الأقليات في زمن العولمة
 كيف ترون تأثيرات العولمة على قضية المواطنة.. والا تخشون من التلاعب الخارجي بقضايا الأقليات مثل الأقباط؟
- المسألة تختلف من حالة الى أخرى تبعا للوعي بأهمية المواطنة ومدى تجذرها في الثقافة العامة. وبالنسبة لمصر فإنني لا اعتقد بأن العولمة ستخلف أثرا خطيرا على المواطنة. لكن العولمة بالأصل لها تأثيرات متداخلة. فهي تمهد الطريق نحو مواطنة عالمية متجاوزة للوطن. و هي من جانب آخر قد تدفع الى التقوقع على الذات. إذن نحن أمام تأثيرات متباينة. ومن هنا فإنني أرى أن المجتمعات التي مرت بمراحل التطور ونضجت كمصر لن تؤثر فيها العولمة مقارنة بغيرها من المجتمعات.

 ألا تخشى ان يجرى اللعب بالأقليات كورقة في أيدي قوى خارجية ؟
- أنا أميل بالأساس الى إعطاء الوزن الأهم للاعتبارات الداخلية. ولا أتصور ان تؤثر قوة خارجية في مجتمع ما منفردة. فقط المشكلة تبدأ عندما يسمح الأقباط لأنفسهم بان يستخدموا. والمسألة ترتبط بإرادة الأقباط أولا. وهو ما استبعده.

 تاريخيا كان للأقباط حضورهم في الأحزاب السياسية (وفد وتنظيمات يسارية) قبل ثورة يوليو ..1952 لماذا وكيف بالإمكان إعادتهم ؟
- عندما اختفت الديمقراطية من النظام السياسي المصري ظهرت كثير من المشكلات من بينها هذه المشكلة. الآن إذا حصلنا على نظام ديمقراطي حقيقي سوف تتضاءل الى حد كبير المشكلة القبطية. وبعبارة أخرى مشكلة مصر ليست هي الأقباط أو الإخوان المسلمين بل هي الاستبداد السياسي. وعندما نتخلص من هذا الاستبداد سنعود الى مساواة حقيقية ومواطنة حقيقية.

 ثمة احتقانات وحساسيات ثقافية بين المسلمين والأقباط تعددت مظاهرها منذ السبعينات.. وما كان مقبولا ومأمونا قبلها لم يعد كذلك ؟.
- لا يمكننا إنكار أن تراجعا لحق بثقافة المواطنة في مصر.. وأول الأسباب هو الاستبداد يليه التأثيرات السلبية التي وفدت من البيئة الإقليمية المحيطة.

ضوء في نهاية النفق
 ألا ترى ضوءا في نهاية هذا النفق الذي دخلناه منذ السبعينات؟
- لو سئلت هذا السؤال قبل خمس سنوات لأجبت أنني لا أرى أي ضوء.. لكن الآن مع الحراك السياسي والضغط من أجل الديمقراطية استطيع القول بان هناك أمل.
؟ كتبتم من قبل ان التمايز المصري التاريخي والجغرافي والثقافي ـ أي روح مصر ـ يتعرض لسهام خبيثة تستهدف أساسا العنصر الاجتماعي الثقافي ووحدة الروح المصرية.. الى أي حد أصابت هذه السهام؟

- لاشك أنها ألحقت ضررا لا يمكن إنكاره وترك آثاره على الثقافة العامة للمصريين.. وساعد على ذلك تدني أداء النظام السياسي. وللنظر مثلا الى ما لحق بنظام التعليم الذي تعدد مما يشكل أرضية لنمو القيم المعادية للمواطنة.

 هل بإمكاننا التحدث عن ملامح تيار ليبرالي جديد في مصر فكرا وتنظيما ؟
- أنا اعتقد ان هناك إرهاصات أولى نتيجة لضعف التيارات الأخرى، ولزيادة الطلب الموضوعي على فكرة الليبرالية، فضلا عن المناخ العالمي المشجع لانتشار الليبرالية.. لقد عدنا للمواجهة بين الليبرالية والإسلام.

 هل ترى ان مصر لديها إمكانات التأثير عربيا لصالح المواطنة؟
- تاريخيا ظلت مصر على مدى قرنين سواء أردنا او لم نرد دولة مؤثرة ودولة نموذج عربيا وإسلاميا. الآن مصر في وضع سيئ وأشبه برجل المنطقة المريض ولذا تأثيرها أصبح ضعيفا للغاية. وضعف هذا التأثير يفسر الكثير من مظاهر التخلخل في العالمين العربي والإسلامي، لكن مهما كانت ظروف مصر، ليس بإمكان دولة أخرى ان تملأ فراغها. وحين تعود لمصر عافيتها السياسية والثقافية والاجتماعية ستنتقل التأثيرات الإيجابية الى العالم العربي بما في ذلك مسألة المواطنة. ومن دون شك فإن غياب النموذج المصري في المواطنة والديمقراطية يؤثر سلبا على العالمين العربي والإسلامي.


© 2014 united copts .org
 
Copyright © 2023 United Copts. All Rights Reserved.
Website Maintenance by: WeDevlops.com